فيديو خاطف لنجل بشار الأسد أطلّ به أخيراً في خطاب مباشر للجمهور، على شارع في مدينة موسكو، ماشياً على غرار كثير من يوتيوبرية هذه الأيام، وبكلمات وثوان معدودة: «صار تساؤل.. إذا كان الحسابان على إكس وتيلغرام لي، فحبّيت وَضّح؛ مبلى هن إلي، وما عندي حساب غيرن على أي منصة. سلام». ذلك أنه كان قد كتب، قبل ذلك، وعلى نحو غير منتظر، بشكل مقتضب قصته الخاصة عن هروب العائلة، والتي رفض فيها وصف الهروب، بل بدا وكأنه ما كتب إلّا لينفي «عار» الهروب. لم يجد ما يعيب عائلته في كل اتهامات المتَّهِمين سوى هذه «الفرية».
في سرد تفصيلي للأحداث، روى حافظ أن العائلة لم تكن تملك أي خطة للمغادرة، لكن، في ليلة السقوط، فاجأ مسؤولٌ روسي العائلة في منزلهم بحي المالكي بعد منتصف ليل 8 ديسمبر، طالباً نقل «الرئيس» إلى اللاذقية. وحسب تغريداته الأولى المكتوبة، يبدو أن تدهور الأوضاع حول قاعدة حميميم، مع انتشار المسلحين وانسحاب القوات المكلفة بحمايتها، وانقطاع الاتصالات مع القيادات العسكرية، وتعرّض القاعدة لهجمات متتالية بالطائرات المسيرة، أجبر موسكو على طلب نقل العائلة إليها، حيث وصلوا في ليل اليوم نفسه.

وإذا تذكرنا أيضاً ما أوردته الأخبار حول نفي حافظ شائعات الهروب، في اليوم السابق لسقوط النظام، ونشر صورة له من حي المهاجرين الدمشقي، سنتأكد أنَّ كلَّ هَمِّ حافظ الصغير نفي وصف الهاربين.
قد يكون مردّ هذه المثابرة في نفي هذا الاتهام وحسب أن عدداً لا يستهان به من موالي نظام المخلوع بشار الأسد عتبوا، أثناء تكويعاتهم التاريخية، أن بشار لم يخرج إلى الناس بكلمة، وأنه هرب غير آبهٍ بهم. مع أن الدرس الوحيد الذي تعلّمه بشار من طغاة ومجرمين سابقين هو إتقانه الهروب، إذ يقول صحافي مقيم في موسكو يتابع حياة الحاكم السوري الجديدة في العاصمة الروسية، بحسب تقرير مطوّل نُشر أخيراً في صحيفة إسرائيلية: «لا شك أن معمر القذافي كان على استعداد لتبادل الأماكن معه. لقد أنهى حاكم ليبيا وجوده في قذارة المجاري والدم والبراز، حيث كان رعيته السابقون يعاملونه بقسوة. أما الأسد، على النقيض من ذلك، فهو محظوظ. فلم يهرب ويبقى على قيد الحياة فحسب بفضل الأمر الصريح الذي أصدره فلاديمير بوتين بإخراجه من مركز انهيار نظامه، بل لقد أحضر معه كل ما يلزم لحياة مريحة وخالية من الهموم: المال، والمزيد من المال، والكثير من المال”.
صحافي موسكو يعتقد أن «الأسد تَعلَّمَ درس القذافي، وليس فقط في ما يتصل بتفضيله الهروب على البقاء في بلد متهالك. لقد أدرك القذافي حكمة الاستحواذ على الممتلكات وتأمينها في مواقع الملاذ المستقبلية، ولكنه فشل في الهروب إليها في الوقت المناسب. لقد تفوّقَ الأسد في كلا الجانبين».
إذن، لو لم يكن بشار قد أتقن هروبه ذاك، لكان مصيره وعائلته «قذارة المجاري والدم والبراز»، فالسوريون المعذَّبون لطالما توعّدوا آل «الأبد» بمصير أسوأ من مصير القذافي.
يريد حافظ الصغير في الفيديو أن يثبت ويؤكد روايته المكتوبة للهروب، وكأنه إذا ثبتت صحة انتسابها له فسيكون من المسلم به أن نصدق فحوى ما جاء فيها.

يبدأ ظهوره بكلمتين، كأنما هما ذريعة الإطلالة الميمونة: «صار تساؤل»! لا بدّ إذن أنك تتابع وتسمع وترى ما يتحدث به العالم عمّا تكشَّفَ من جرائم وارتكابات ومقابر، ومع ذلك لم تجد ما يستحق أن يردّ عليه إلا الـ «تساؤل» حول صحة الحسابين على إكس وتيلغرام!
في آخر تغريداته يَعِدُ حافظ الصغير بحلقة بودكاست قريبة «ستكشف كل التفاصيل»، و»ستسمعون القصة كاملة من المصدر نفسه»، وهو لا شك يقصد بأنه هو وعائلته «المصدر نفسه»، ربما أراد أن يقول «المصدر الوحيد»، ناسياً أن لكل رواية أقطاباً، وما روايته سوى جزء ضئيل، ولن يكون سوى محاولة لتبرير الجريمة. ومن الآن نستطيع أن نتخيل أن إسرائيل ستكون في قلب روايتك، والتكالب على سوريا، والمؤامرة الكونية..
التغريدات هذه المرة مكتوبة على نحو يبدو أنه أعدّ بمساعدة خبراء في الدعاية والتشويق، فلا ننكر أنها مصاغة على نحو معقول، ويستجيب لمتطلبات العنونة الصحافية: «لكل حدث روايات، ولكل مرحلة أسرارها. ليس الهدف إثارة الجدل، بل أن تُروى القصة كما كانت، بعيدًا عن التوتر والاتهامات. ما كان في الظل، حان الوقت ليُروى كما هو». و»أحيانًا، تفرض الظروف مسارات لم تكن في الحسبان، والأخطاء كانت حاضرة في كل زمن. لكن الحقيقة تبقى أكبر من أي رواية».
ومرة أخرى سيكون دحض الهروب هو الشاغل الأساس: «قد يعتقد البعض أن الغياب هروب، لكنه كان ضرورة في زمن الفوضى. البعض يصرخ في الغياب، لكن الحقيقة لا تحتاج إلى ضجيج لتبقى. نحن هنا، والوقت سيكشف كل شيء». هذه العبارة بالذات مكتوبة بالفعل بشكل جيد: «الغياب ضرورة في زمن الفوضى»، و»الحقيقة لا تحتاج إلى ضجيح لتبقى»، أما عبارة «البعض يصرخ في الغياب» فهذه تستحق أن تكون عنوان الديوان الشعري المقبل للفتى الأسديّ.
يوحي هذا الاستئناف الأسدي للظهور على السوشال ميديا، بعد تدمير كل ما يتعلق باسمهم على الأرض داخل سوريا، بأن الأسرة قررت العودة إلى عالم السياسة (وما تسميةُ حافظ على اسم جده سوى محاولة للتأبيد)، وليس من المستبعد أن تتكاتف العائلة وفلولها في حزب سياسي يناضل للعودة إلى الحكم، على غرار ما تفعل عائلاتٌ مَلَكية انقلبت عليها شعوبها، بل كما فعل من قبل رفعت الأسد، أو أبناؤه، مع أنه يستحيل العثور اليوم على مؤشر واحد على الأرض يشي بإمكانية إنعاش الأسدية، أين أنتم أساساً من تقاليد الملوك، مهما بلغوا في ديكتاتوريتهم.

أفضل ما يمكن لحافظ الصغير فعله، وهذا أيضاً بحسب تلميحات صحافي موسكو، أن يلتفت إلى عَدّ النقود، فهذا هو التحدي الحقيقي للأسد الابن، وليس تطبيق معادلات الرياضيات التي درسها، ونال عنها دكتوراه مزعومة. فلن يكون من السهل التعامل مع 250 مليون دولار نقدًا، بوزن إجمالي بلغ طنين، سرقتها العائلة إلى موسكو في أكثر من 20 رحلة جوية قبل عدة سنوات. (حبذا لو تجيب في البودكاست المنتظر من أين لكم هذا، فيما الشعب جائع ومنهوب ويسكن العتمة).
يُشير تقرير الصحيفة الإسرائيلية إلى أن أبناء القادة المخلوعين يتأقلمون بسرعة مع أوضاعهم الجديدة، ويستغلون مكانتهم كمنفيين مميزين لتحقيق مصالحهم. ولدى حافظ أرضية ممتازة للانطلاق، بفضل الأموال المنهوبة، لتأسيس شركات عائلية.
غير أن الشاب المستجد في عالم «اللجوء الإنساني» يعاند بعض الشيء. يجهد في الانضمام إلى حيّز الأنجال؛ نجل القذافي، نجل علي عبدالله صالح، نجل مبارك، نجل صدّام، نجل حفتر،.. وإذا كان المرء يكافئ والده بشكل سيئ إذا بقي نجلاً، فإن الأسوأ أن يفتح بودكاست، أو أن يظهر في تغريدات وفيديوهات ليثبت كم أنه نجل آل الأسد. العقوق هنا سيكون خياراً صائباً، أو نوعاً من أضعف الإيمان، حاول أن تتنصّل، قل إنك لستَ مسؤولاً عن جيناتك، قل إن العائلة قد غرّرت بك، أخذتك في رحلات ونزهات إلى كافة أرجاء الأرض، لكنها أخفت عنك سجن صيدنايا، أخفت عنك أن مدينةً موازية من السجون رازحة تحت بيتك في حي المهاجرين، وقصر الشعب، ومكتبة الأسد، ودار الأوبرا،..
الأفضل في الواقع ألا تقول شيئاً، عندما تكون الجريمة فادحة إلى هذا الحد يفضّل أن تلوذ بالصمت والاختفاء.
وعلى أي حال «جايينك، جايينك»، لأن الأبد، أبدكم، قد سقط إلى الأبد.


*القدس العربي