يستخف كثيرون من أبناء جلدتنا بقانون تجريم إنكار الإبادة، ذلك أن الكلمات الثلاث الأخيرة ارتبطت دائماً بالهولوكوست، المحرقة التي ألقت بملايين اليهود إلى الموت المروّع بأساليب مبتكرة، وكان الحدث وتبعاته بعيدين عنا تماماً على نحو ما، بل تحولنا نحن إلى ضحايا عندما تفنّنت إسرائيل بـ «صناعة الهولوكوست»، بحسب تعبير نورمان فنكلشتاين، الكاتب الأمريكي اليهودي الفريد والرائع في مثابرته في كشف أكاذيب إسرائيل ومناصرته للحق الفلسطيني، في كتابه الذي حمل العنوان الفرعي «تأملات في استغلال المعاناة اليهودية» والذي يشير إلى المقصود من بحثه، عندما تحول الهولوكوست إلى أداة استثمار سياسي واقتصادي لمطالبة الحكومات الأوروبية بتعويضات، وإلى أداة أيديولوجية لتكريس شعور دائم بوضعية الضحية، لشرعنة ممارسات صهيونية.
لم تكن الكلمات الثلاث تعنينا إلا باعتبارها نوعاً من «بروتوكولات حكماء صهيون»، حكاية ملفقة، بدعة، وفي أحسن الأحوال مبالغة هائلة بالأرقام!
مرة أخرى تَكرَّرَ التعبير لسنوات بمحاذاتنا، عند الحديث عن الاعتراف بالإبادة الأرمنية، ومجدداً كان لدينا سبب للاستخفاف، فالأمر يتعلق بتركيا، دولة الخلافة، الجار الطيب الذي اعتُبر على الدوام نصيراً وأخاً أكبر. لم يَعنِ لنا الأمر، حتى لو كان ضحايا المجزرة الأرمنية بيننا اليوم، شهوداً واقعيين مستمرين للمجزرة وضحايا لها، أولئك الناس الوديعون، الطيبون، الذي ما زالوا يروون الحكاية ويعانون آثارها.
من جهة أيضاً، كنا على احتكاك مع مفهوم «الإبادة الجماعية»، بُعَيد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ شهدنا جرائم ممنهجة لأهل غزة، بلغ عدد ضحاياها إلى اليوم 47.518 شهيداً، ولكن إنكار الإبادة هنا جاء من أعدائنا، من إسرائيل فقط، ومن بعض حلفائها الثابتين.
يواجه السوريون، ومنذ العام 2011، عندما اندلعت الثورة في البلاد، إنكاراً مذهلاً في «بجاحته»، بدءاً من إنكار خروج مظاهرات في درعا أولاً، ثم في عموم البلاد، وعندما اضطروا للاعتراف وصفوها بمختلف الأكاذيب والاتهامات، بالمندسين، والمسلحين، والطائفيين، والإرهابيين، والإسرائيليين، والجراثيم، والعراعير، العملاء، والطامحين إلى تقسيم البلاد. إلى ما لا يخطر ببال من اتهامات، ثبت أخيراً، وباعتراف نجل رجل الاستخبارات بهجت سليمان، أن كثيراً منها جاء من ابتكار «الجيش الإلكتروني السوري»، الممول والموظف من قبل النظام.
إذن فقد أُنكرت المظاهرات، وتالياً المجازر، وكل مآسي السوريين، أُنكرت وجرى الاستخفاف بمعاناتهم (لا ننسى حتى أولئك الذين استخفوا باللاجئين، حتى من قضى منهم غرقاً أثناء عبور البحر)، لكن لم يخطر لنا أن يستمر بعض الإنكار حتى ما بعد هروب المخلوع بشار الأسد وسقوط نظامه، واندلاع الحقائق من السجون وباطن الأرض، ومن بين المقابلات المتلفزة يمكن الإشارة إلى لبنانيين «مبدعين» في التزوير والإنكار، فقد ثابرت المحامية (!) بشرى الخليل على الاستخفاف بما حدث في سجن صيدنايا، فما إن تأتي سيرته حتى تقول «وماذا عن احتلال نتنياهو لجبل الشيخ؟»، وعندما تتحدث عن المساجين أنفسهم تقرر بأن هؤلاء مساجين جنائيون لا أصحاب رأي أو ثوار، كذبة لم يقدر عليها النظام المخلوع نفسه، ولكن حتى لو كانوا جنائيين، أيتها المحامية، هل تجدين أن ظروف اعتقالهم منصفة وعادلة؟!
مواطنها سالم زهران سيحاول، في مقابلة أخرى، الإنكار بطريقة أخرى: وماذا عن السجون في الدول العربية؟ ماذا سنجد إن فتحوا سجونهم؟
هذه الطريقة في الإنكار ستفرّخ عند مواطن سوري، من شركاء العيش المشترك. تتحدث المعارضة والإعلامية السورية إيلاف ياسين، في فيديو، إثر جولة لها في دمشق عن حوار جرى مع أحد مواطنيها، وهو مجرد بائع في دمشق، عندما يستخدم المنطق نفسه، فيقول إن كل بلد فيه انتهاكات، مشيراً إلى غوانتانامو، وأبو غريب، معتبراً أن ذلك يحدث في الدول «عادي، وعادي أن يكون هناك أخطاء».
منطق مستفز، يدفع للتفكير باجتراح قصيدة في مديح «التكويع»، فمهما بدا هذا كوميدياً لا شك أنه أرحم من الاستمرار والمثابرة في المكابرة والإنكار (من دون أن يعني ذلك أن يستمر المكوّعون بابتكار بطولات في معارضة النظام).
إنكار المنكرين لا يعني مجرد عجز وانسداد آفاق النقاش معهم، فهذا مقدور عليه، الأخطر ما يفضي إليه تزييف التاريخ أو التلاعب به، ومحاولات التقليل من معاناة الضحايا، فالإنكار في النهاية سيؤدي إلى تبرير الجريمة وإمكانية ارتكابها مجدداً، والتحريض عليها. الانسداد ليس في النقاش، بل في إمكانية العيش مع منكر للجريمة، يضمر قبول ارتكابها.
الآن تفهم تماماً لماذا يُستَفزّ يهودي عند أي محاولة مهما صغرت للتخفيف من فداحة الهولوكوست، ولماذا الإصرار على محاكمة تلك المحاولات.
عندما تعجز ثورة عمرها 13 سنة، وحرب، و54 عاماً من الحكم الدموي، ثم سقوط النظام وانكشاف جرائمه على مختلف رادارات العالم، عن إقناع شريك العيش بما حدث، لن يبقى حل سوى بالانفصال، التقسيم، بين الضحايا، ومنكري الجريمة الأسدية بحقهم.

*القدس العربي