لم يكن اهتمام الناس في العالم العربي بفهم حاضرهم وتاريخ بلدانهم مجرد رغبةٍ مترفة في المعرفة، بل كان تعبيرًا عن حاجة لفهم ما آلت إليه أوضاعهم المعيشية، وكيف وصلوا إلى هذا الواقع.

خلقت الحروب والأزمات التي عصفت بالمنطقة على مدار العقود الماضية، وبشكل خاص خلال فترة الثورات وما بعدها، دافعًا لتقديم معرفة نقدية قادرة على تفسير الواقع وتقديم بدائل حقيقية، بعيدًا عن السرديات الرسمية ونظريات المؤامرة والتخوين وتزييف الوعي.

لهذا الإقبال المتزايد على الدراسات، خصوصًا في المشرق العربي، أسبابٌ متعددة، من أبرزها الشعور المتنامي بالعجز عن التأثير في الأحداث المتسارعة، والرغبة العميقة في فهم جذور الأزمات والصراعات المستمرة بلا توقف، لا سيما بعد فترات طويلة من التضليل الإعلامي الذي سعى إلى غسل الأدمغة وتشويه الحقائق، إلى جانب عجز السرديات الرسمية عن تقديم تفسيرات مقنعة.

وبمقدار ما يعكس هذا السعي نحو الفهم حاجةً ملحةً لإيجاد بدائل فكرية وسياسية للخروج من دوامة الصراع، فإنه يرتبط بميل الناس، وجيل الشباب على وجه الخصوص، في التدخل والنشاط في المجال العام، مما يجعل هذا السعي برمته محاولاتٍ جادة لجسر الهوّة بين المعرفة والفكر من جهة، والممارسة والتغيير من جهة أخرى. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى هذا الإقبال بوصفه مدخلًا ضروريًا لتحويل الأفكار إلى أدواتٍ للتغيير، تتجاوز نقاشات النخب إلى واقع الناس اليومي.

وهذا ما يؤكد أن هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل هي استمرارٌ لحاجةٍ تاريخية تزايدت حدّتها في العقود الأخيرة، مع فارق مهم للغاية، هو أن دراسات العهود السابقة كانت قاصرة عن تشكيل مثل هذه المواكبة الحالية، فالكتب والمجلات في السابق كانت تعنى بشكل كبير بتقديم التاريخ الرسمي، بغض النظر عن كونها مكتوبة بالعربية أو مترجمة إليها، إلا أن هذا النوع أخذ بالتطور والنمو مع مفكرين وباحثين قدموا مساهمات جديدة لفهم حاضر المنطقة وربط بماضيها. ومع توسع البحث العلمي وتحوله إلى ما يشبه حركة متكاملة، باتت تأخذ شكلًا أكثر تنظيمًا مع فترة انطلاق الثورات العربية، التي رافقتها حالة جديدة قائمة على جمع الجهود في إصدارات مستمرة تلامس العناوين الأكثر أهمية، إلى جانب إطلاق مؤتمرات علمية تجمع علماء السياسة والاجتماع وتركز جهودهم على مسائل راهنة، وفي هذا السياق يمكن الاشارة إلى أنشطة وخطط “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات“.

ولا يمكن فهم هذا التطور الكبير في الإنتاج الفكري والنقدي بمعزلٍ عن الظروف السابقة التي حكمت إنتاج المعرفة في العالم العربي سابقًا، فخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة؛ كانت الدراسات السياسية التي تُنشر في دول مثل سوريا والعراق ومصر، في غالبيتها، تتماشى مع رؤية الأنظمة الحاكمة، لا سيما بوجود الرقابة والمناخ الأمني والمقولات الجاهزة. ونتيجةً لذلك، ندر ظهور أبحاث أو دراسات تتناول قضايا حساسة بموضوعية لأنها ستضطر للاصطدام بالخطوط الحمراء. ولنا في قصة عمل المؤرخ السوري الراحل عبد الله حنا حين عكف على كتابة تاريخ الفلاحين في سوريا مثال واضح، حيث طاف البلاد وسجّل مقابلاتٍ فريدة مع فلاحين من مختلف الأقاليم السورية، وحين جاء يطبع الكتّاب، وهو بدعم من “الاتحاد العام للفلاحين”، رأت السلطات الأمنية أنّ الكتاب يكشف عن تناقض حاد بين شعارات النظام مع ممارساتها على أرض الواقع، ذلك أن سردية ذلك النظام قائمة على أنه راعٍ للعمال والفلاحين، ولهذا اتُخذ القرار بإتلاف الكتاب المكون من ثلاث مجلدات.

أخذتنا فترة ما بعد الثورات العربية إلى تغيير تدريجي. بدأ في توسع البحث العلمي والمبادرات الأكاديمية المستقلة، وإنتاج دراسات جريئة، وانطلاق نقاشات مفتوحة خاضت في كانت محرمة سابقًا، إلى أن وصلنا إلى مشهد يحمل إمكانيات كثيرة قابلة للتطور.

ومع الوقت، تجاوزت الجهود البحثية الجديدة حدود الأوساط الأكاديمية والنخبوية لتصل بشكلٍ مباشر إلى المجال العام، عبر توظيف الوسائل الحديثة، من بودكاست وفيديو وألبومات صور، لتقديم مواد قادرة على مخاطبة شرائح أوسع من الناس بأبسط الطرق الممكنة. وجاء ذلك في إطار تثبيت مقولات الثورات العربية التي ركّزت على العدالة الاجتماعية والحرية السياسية ضد النهب والقمع الأمني والتضليل الإعلامي، الأمر الذي فتح بيئة نقاش تقوم على مقاربة القضايا بحسّ نقدي. ولعل الأمر الأكثر أهمية في هذا السياق هو إدخال المنظور الحقوقي باعتباره ركيزة تشكيل الوعي القادر على فهم الحاضر، والتأثير في مسار المستقبل.

ومع ذلك كله، تبقى التحديات قائمة في تحويل هذه المقاربات النظرية إلى حلول قابلة للتطبيق، ما دامت لا تزال معزولة عن السياسات العامة وبرامج صُنّاع القرار. لكن هذه التغيرات تُوفر أرضيةً خصبةً لمشاريع سياسية وفكرية جديدة، قادرة على الخروج من أزمات المنطقة المتكررة، حين تربط هذا الإنتاج بطريقة خلّاقة تجمع الفعل والممارسة، وتترجمه إلى سياساتٍ وبرامجَ حقيقية، تتجاوز حدود النقاش النظري، وتُحول الأفكار من مجرد وعي إلى قوة إنسانية مؤثرة على أرض الواقع.

الترا صوت