بسرعة فرض “التكويع” نفسه بصفته سمة من سمات مرحلة ما بعد سقوط بشار الأسد. مثله مثل “التشبيح” و”التعفيش” اللذين انتشرا مع الثورة السورية، منذ ثلاثة عشر عامًا. والاثنان غطيا ممارسات اعتمدها مسلحو النظام الرسميون منهم وغير الرسميين. والأول، “التشبيح”، هو استباحة أجساد وأعراض وأرواح السوريين بأكثر الطرق همجية. ورديفه “التعفيش”، أو تتمة “إنجازات” “التشبيح”، أي سرقة منازلهم، قبل أو بعد طردهم منها.
واليوم “التكويع”: أي التراجع عن مواقف سياسية كانت قبل ذلك راسخة. المقصود هنا التبدل المستعجل لمواقف كان أصحابها يحظون بنِعَم تقربهم من النظام. بسرعة طلعوا إلى العلن، وكل على طريقته، أجمعوا على ترحيبهم بسقوطه.
موجة تكويع جرفت في طريقها فنانين سوريين، كتابًا، اتحادات كتاب، صحافيين، إعلاميين، شعراء، مثقفين، شخصيات. قاسمهم لبنانيون من رجال أرضاهم بشار الأسد، ومن بعده حزب الله. هؤلاء بالذات، مثل أقرانهم السوريين، صاروا مضحكة لمن أراد أن يلهو. أشهرهم يتكلم يوميًا عن حبه للحرية والأمان، عن فظاعة بشار الأسد، عن الإجرام، عن سجونه، بعدما كان يبلّط الطريق إليه بالحرير والبخور.
ما أعاد إلى الذاكرة تلك القصة الشعبية السورية المنسية، وأنقلها هنا حرفيًا: “يُحكى أن قرية في وسط سورية كان أهلها يشكون تعسّف الخوري، الذي كان في تلك الحقبة بمثابة سلطة دينية ومدنية عليهم. بعد محاولات لم تُجدِ نفعًا معه، ثم مداولات سرية فيما بينهم، وجد الأهالي الحل بالذهاب إلى مدينة حماة، وإشهار إسلامهم أمام المفتي، وهكذا لا يبقى للخوري سلطة عليهم. ذهب الأهالي معًا، ونفّذوا الخطة، ثم عادوا مبتهجين إلى الضيعة، ولما وصلوا إلى مشارفها بوغتوا بالخوري يصعد إلى سطح الكنيسة ويرفع الآذان”.
وما يجمع بين أولئك اللبنانيين من “كبار” المكوّعين، وبين نظرائهم السوريين، هي تلك الشهوة بالبقاء على أي كرسي، مهما كانت درجة رمزيتها. كوّعوا لأنهم تيقنوا بأن السلطة القادمة ستكون برئاسة غير أسدية. وبأن المهمة الملقاة على كاهلهم الآن هي تدارك آثار هذا التغيير السريع قبل جلوس خصمه، لعلهم يحفظون شيئًا من كرسيهم. فتحولوا بين ليلة وضحاها، من استبداد كانوا ركنًا من أركانه، إلى دعاة علمانية وديمقراطية وحقوق المرأة والإنسان.
وهذه هي النقطة المشتركة الوحيدة بين المكوّع صاحب القدرة والسلطة، وبين مكوّع من بين المواطنين البسطاء، أو الأقل منهم. مثل ذاك الرجل الذي أوحى لمراسلة الـ سي. إن. إن. الباحثة عن سجين أميركي، بأنه سجين هنا منذ ثلاثة أشهر، وأنه من حمص، وأنه لم يكن يعلم بسقوط بشار الأسد… وأنه على حافة الجفاف والإغماء والهزال… وقد تبين لاحقًا بأنه موظف في مكتب حكومي، وقام بهذه الحيلة للنفاذ بريشه بعدما خُلعت أبواب السجون.
“التكويع يعني التراجع عن مواقف سياسية كانت قبل ذلك راسخة. المقصود هنا التبدل المستعجل لمواقف كان أصحابها يحظون بنِعَم تقربهم من النظام” |
الآن، لماذا كل هذه السرعة بالتكويع؟ من سرعة الحدث نفسه. بلمحة البرق. بأيام معدودة، من دون قتال يُذكر، من دون حكومة تعترض، أو جيش أو ميليشيات يدافعون، من دون تدخل الذين تدخلوا سابقًا لإبقاء سورية تحت حكم بشار. كل هؤلاء إما هربوا أو انسحبوا أو صمتوا.
ثم هروب المكوّع الأشهر، بشار الأسد، الذي قال في رسالته الأولى إلى الشعب السوري: “إنني لم أكن في يوم من الأيام من الساعين للمناصب على المستوى الشخصي بل اعتبرت نفسي صاحب مشروع وطني استمد دعمه من شعب آمن به”. وقد وقّعها باسم “الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية السورية”…
الآن تكويع المواطن البسيط. والذي نعتقد بأنه أكثر حياءً، أقل التباسًا، وربما تستّرًا. بل هو يخرج إلى الشارع تعبيرًا عن فرحته. وإن كوّع، فلأسباب تعود في صميمها إلى طبيعة النظام الذي ألزمه بالولاء وبالصمت؛ وإلا القتل، السجن، التعذيب. فكان الخوف رفيقه العنيد.
خوف من اختصاص السوريين. لا يعرفه غيرهم. حتى لو كانوا من أبناء الحروب المتتالية. فبشار هو الرب، هو الذي يقرر متى يموتوا ومتى يعيشوا. والخوف منه يضاهي الخوف من الله.
خوف متراكم على امتداد عقود. منذ تسلّم حزب البعث مقاليد الحكم: انقلاب الأسد الأب على رفاقه البعثيين، اعتقال خيرة الشباب السوري مهما كانت انتماءاته الحزبية، مجزرة حماة في الثمانينيات… ثم المحطة الأخيرة، المقتلة: تبدأ بآلات الموت الصناعي ولا تنتهي بآلاف المفقودين في السجون أو المقابر السرية. وما زال البحث عن أشباحها جاريًا.
خوف من همسة تفضي إلى المشنقة. هو الشعب لم يكوّع، إنما كان مكوّعًا في ظل بشار، والآن استقام. فرحته باستعادة حريته لا يفهمها من يتمتعون أصلًا بها. خمسون سنة من الخوف والصمت.
ما هو نوع الخوف هذا؟
إنه طلب للأمان، بأن لا يتعرض المواطن البسيط لواحدة من الفظائع التي يسمع بها عن جاره أو زميله أو قريبه. يشله، يشل جسمه وعقله. فيقع بين خيارين. إما الهروب “الداخلي”، أي التعامل مع الأشياء كأنها لا تعنيه، أو المواجهة المفضية إلى الموت البشع. الملايين الذين طردهم بشار الأسد من ديارهم، وحوّل أحياءهم إلى بقع مهجورة، كانوا من الخائفين.
وكلمة خوف هذه ليست دقيقة تمامًا. لا تغطي مراحل الخوف، ولا درجاته.
إليك “ربرتوار” الخوف السوري المبدئي. أقول “مبدئي” لأن الأيام القادمة قد تكشف عن مستويات أو درجات من الخوف تتجاوز ما كُتب عنه.
يبدأ هذا الخوف بسوء الظن، أو عدم الثقة. وقد يكون عابرًا، أو ابن مزاج اللحظة. يليه القلق، الاضطراب، الانزعاج. لا يدوم الثلاثة كثيرًا. وهم في طريقهم إلى الهاجس. العيار التالي هو العصبية، التوتر، الحدّة. حيث يسود الهيجان والتصادم والإجهاد. بعد ذلك، الخوف بعينه، وهو يحتل المرتبة الرابعة في “الربرتوار”. الخوف، مجرد خوف بصفته إجابة مباشرة على خطر “عادي”. ثم الذعر أو الرعب، الذي يصيب صاحبه بالشلل وتعطل ملكاته كلها. وأخيرًا الهلع، ملك الخوف. الهلع يُفقد السيطرة على النفس. لا يعود الجسد يستجيب لصاحبه إلا بالارتجاف وارتفاع درجة الحرارة.
هل مرّ الجلادون بواحدة من هذه الحالات؟ هل يفهم أصحاب الشهوة بالعرش معنى هذا الخوف؟ هل أصيب المكوّعون به، عندما أيقنوا بأنهم أصبحوا بقبضة ضحاياهم؟ هل ينجح المواطن السوري بتنظيف مخيلته وسلوكه من مخالب الذاكرة الخائفة؟ بأن ينسى مثلًا؟ أو يحاسب ويحاكم محاكمة عادلة؟ أو يسجل من أجل أن يتذكر، أو من أجل التاريخ؟ وهل التذكّر يشفي من وجع التذكّر؟ هل التكويع يساعد على التذكّر، أم يكتفي المكوّعون بالصمت، وترتيب أوضاعهم، ليتسلّلوا إلى “الصواب السياسي” الجديد؟ أو بمعنى آخر، هل يتضمن سجل الذاكرة الجديدة حسابًا معنويًا، فنيًا، ثقافيًا… يغوص في سريرتهم، التي قد ينضح عنها نوع من الخوف لا نعرفه؟
Leave a Reply