كان أبو الطيب المتنبي بعمر 21 تقريبا حين ولد ابن هانئ الأندلسي (ولد في إشبيلية عام 936 ميلادية لأب من مواليد تونس)، وكان صيت الأول، الذي لقب بـ»مالئ الدنيا وشاغل الناس»، قد طار بين ممالك العرب حين بدأت شهرة الثاني بالصعود فلقّب بـ»متنبّي الأندلس»، وهو ما يفسر احتفاء المعزّ لدين الله، أول الخلفاء الفاطميين في مصر، بالشاعر الذي مدح حكام إشبيلية وصقلية والمغرب، آملا، على ما يظهر، في إنشاء علاقة يتداولها التاريخ بينهما، مثل علاقة المتنبي بسيف الدولة الحمداني.
إضافة إلى الموهبة التي ميزتهما، فقد كان ابن هانئ والمتنبي، يميلان إلى «الغلوّ في التشيّع». نجحت بلاغة أبي الطيّب التي راقت لأسماع العرب، وأوضاع العصر الذي عاش فيه المتنبي، في التسامح مع غروره الفظيع، بل إن إعلان تنبؤه فعليا، أو في تشبهه بالأنبياء في شعره صار جزءا من الرأسمال الرمزيّ الثابت للأدب العربي، الذي يشغل حيّزا مهما من «خزانة القيم» العربية.
تشير حادثة مسجّلة عن قتل أخ لأخته مرة عن أثر أشعار المتنبي على الواقع، حين سأل القاضيّ المتّهم عن سبب فعلته، فأجاب ببيت شعر المتنبي الشهير: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدم!
لقد هيمنت صفات المتنبي هذه على مخيال الأدباء العرب، على مدى الأجيال، فتباروا في تعظيمه، من المعرّي الذي كتب «معجز أحمد»، وهو كتاب هائل الضخامة يشرح أشعار المتنبي، إلى الجواهريّ، الذي قرّر أن يتشبّه بشاعره المفضل فهجى الملك فيصل الأول، رغم أن الأخير قرّبه وأسكنه في قصره، وواضح أن طريق التأله، والنرجسية الفائضة، والعدوانيّة العنصرية أحيانا (كما في بيته الشهير «لا تشتر العبد إلا والعصا معه» في هجائه لحاكم مصر كافور الإخشيدي) وجدت متّسعا كبيرا في منظومة قيم الأدباء العرب تمثّلا بالمتنبي.
ميلانخوليا وعارض جنون!
يسمّي المستشرق السويسري آدم ميز القرن العاشر، الذي ولد فيه المتنبي وابن هانئ «عصر النهضة الإسلامي»، بسبب «ازدهار الفلسفة والعلوم المؤسسة على تقاليد مستمرة، وعلى ترجمة النصوص الإغريقية»، وعلى تشكل رؤية للعالم تتجه نحو نزعة إنسانية وفردية لدى الكتاب والحكام، حيث تكاثر عدد بلاطات الحكم المتنافسة على رعاية الفنون والعلوم (كما رأينا في حالتي سيف الدولة والمعز)، أما برنارد لويس، الذي يحلل العالم من منظور الأديان والطوائف، فرأى في العصر نقطة الذروة في «تمرد الإسلام»، أما المستشرق الفرنسي ماسينيون، فسمى الحقبة بـ»القرن الإسماعيلي»، حيث صار الخليفة السنّي مطوّقا بسلالات حاكمة شيعية، بعضها يعترف به، كحال الحمدانيين في حلب والبويهيين في العراق وإيران، وبعضها يحاول بقوة قلب النظام القائم، كحال الفاطميين الإسماعيليين في مصر، والقرامطة في البحرين.
ولد المتنبي في مدينة الكوفة، التي كانت حامية عسكرية للجيش العربي في العراق، وعاصمة لفترة قصيرة للخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وموقع جذب لقبائل غير عربية، أحضرت معها معتقدات عرفانية قديمة تمازجت مع المعتقدات الشيعية المختلفة المتصارعة، ويرى فيلهارد أن عدة معلومات عن المتنبي، منها أن أباه عمل سقاء ماء، وأنه «جعنيّ» يقيم على أرض لقبيلة كندة، تشير إلى احتمال أنه ينتمي لطبقة أدنى في مجتمع المدينة، وأنه من سلالة غير عربية، ولكن إرضاع امرأة علوية له طفلا، ودوامه على الدراسة في مكان مخصص لأبناء أشراف الكوفة، سمحا له خلال صباه وفترة ادعائه النبوة، أن يزعم أنه من سلالة العلويين.
يقول المستعرب الألماني إن دعوات المنظمات السرية للقرامطة والإسماعيليين، وجدت انتشارا لها لدى بعض القبائل السورية، ويورد عن ابن جني أن المتنبي ادعى النبوة في جبلة واللاذقية، بين بداة بني القسيس وكتب لأولادهم مصحفا، وأن حاكم اللاذقية الحسين بن اسحق أمر بإخفائه ليمكنه من الهروب، وحين اجتمع الناس لإطلاقه، أخبرهم إن لديه «ميلانخوليا وعارض جنون» فانفضوا.

تأويلات المتنبي: طه حسين وشاكر وأدونيس
يعتمد فيلهارد تفسيرا لأبي الريحان البيروني عن تنبؤ المتنبي توضحه قصيدة من أوائل ما كتب حينما كان مراهقا يمدح فيها شخصا يدعى أبو الفضل يقول فيها: «نور تظاهر فيه لاهوتيّه/ فتكاد تعلم علم ما لن يعلم. أنا مبصر وأظن أني نائم/ من كان يحلم بالإله فأحلما).
في القصيدة درجة من التجديف الواضح عبر التلميح إلى أن الممدوح مثل إله، أو هو الإله نفسه، حيث يتجلى شخصا بشريا كاشفا عن ألوهيته، وهي فكرة غريبة عن الإسماعيلية، التي لم تكن تؤمن بألوهية علي والأئمة، لكنها معروفة في تقاليد فرق أخرى. ويخلص فيلهارد بالنتيجة إلى أن المتنبي حين أعلن نفسه نبيا قام بذلك حسب تقاليد «الفرق الغالية»، مثل أتباع ابن نصير الذين انتشروا في منطقة حلب واللاذقية (وهم العلويون في الساحل السوري وحمص حاليا)، لكنه يرى عدم تصنيف الشاعر ضمن إحدى هذه الطوائف، لأن من الصعب أن يكون شخص «وهب هذا التهور والصوت شديد المرارة، قد ربط نفسه إلى فرقة منظمة»، مقترحا أن أفكارا غنوصية شيعية موجودة حوله، قدمت الأساس لتفكيره وحرضته «ليحاول إنقاذ العالم ضمن الخطوط التي تدعو إليها».
الأغلب أن ابن هانئ، الذي كان مجايلا متأخرا للمتنبي، حاول مجاراة المتنبي في هذا المسار، حين كتب قصيدته التي اشتهرت في مدح المعزّ، والتي تقول أبياتها: «ما شئت لا ما شاءت الأقدار / فاحكم فأنت الواحد القهار». صارت هذه القصيدة علامة بارزة على شدة المبالغة والتطرّف في تأليه الحاكم، في الوقت الذي أدّى الطريق المعقّد الذي سلكه المتنبي، ومبالغاته التي قد تستدعي في أجواء التشدد في عصرنا هذا أشكالا من التكفير، إلى حصانة كبيرة له، فاعتبر كشاعر من مقدّسات الفكر العربي ـ الإسلامي.
من الأمثلة على ذلك كتاب محمد محمد حسين «المتنبي والقرامطة» الذي يساجل بقوة ضد أطروحة علاقة المتنبي بالغلاة، وكذلك الدفاع المستميت، الذي قام به محمود شاكر وهو الباحث الأقرب للفكر الإسلامي التقليدي، في كتابه عن المتنبي، الذي يجزم فيه أنه من سلالة علوية، وخلافه الشديد على كل ما ذكره طه حسين في كتابه أيضا عن المتنبي.
استعاد أدونيس، الشاعر السوري، في المقابل، شخصية المتنبي في كتابه «الكتاب» عبر ربط المتنبي بمنظومة التمرّد على الإسلام السنّي التقليدي، وموضعته ضمن منظومة هجاء هائل للتاريخ الإسلامي.
تحتاج القراءة الرحبة لإرث المتنبي في الأدب العربي، في اعتقادي، عدم موضعته كمقدّس (ومن أمثلة ذلك ضرورة أن يكون من سلالة علوية أو عربية الخ)، والأحرى اعتبار «تمرّد الإسلام» جزءا من العالم الشاسع لـ»نهضة الإسلام» (ويصحّ هذا علينا كأفراد أو جماعات).
بالعودة إلى علاقة المتنبي بابن هانئ، سنقع على حدث غريب، فقد قضى ابن هانئ، قتلا في برقة الليبية، كما حصل مع المتنبي على شاطئ دجلة، وبينما عاش الأول قرابة 50 سنة، توفّي الثاني بعمر 36، وكان الفارق بين واقعتي مصرعيهما سنة واحدة!

القدس العربي