قلبت التغيّرات الكبرى التي حصلت في المشرق العربي أواخر العام الماضي معادلات الجغرافيا والاجتماع البشريّ المنكوبين، فاتحة المقطع السوري منها لعودة ملايين المغيبين قسرا (ولبضعة آلاف آخرين للهروب!). المعجزة التي كانت خارج حسابات كثيرين مثلي حصلت، ولأن حياتي، قبل المنفى، كانت «قصة مدينتين»، بيروت ودمشق، فقد كان على طريق العودة أن يمرّ بالأولى سريعا، وبالثانية على بطء.
عبرت الطائرة المغادرة لندن الحدود بين عالمين منفصلين/ متقاطعين، مطلقة شعور الطفل الذي تتنازعه أمان في مسرحية بريخت الشهيرة، باستثناء أن الأم الطبيعية كانت، لسنين طويلة، الأقرب إلى خيار أن تقتل الطفل/ المواطن في المنازعة مع الأم الأخرى!
هبطنا في مطار رفيق الحريري، الذي بدا أكثر صلة بالمسمى به، استوعب ضابط المطار أنني أحد أولئك العائدين ولكنه خاطبني بـ»الحاج حسين» طالبا أوراقا تثبت أنني سوريَ فأعطيته جواز سفر انتهت صلاحيته وتهرأت أوراقه وغادر صاحبه بلاده عام 1986 كأنه هارب من كابوس.
في الطريق إلى الفندق طلب ابناي من سائق سيارة الأجرة أغاني لفيروز. بدا ذلك استدعاء مناسبا لطبائع لبنان في مخيلتيهما عبر الموسيقى والشعر، والتاريخ الثقافي للبلد الفريد. عبرنا يافطة كبيرة مكتوب عليها «جادة الإمام الخميني»، وفي الفندق أحسست أن ظله العالي موجود أيضا، ولو بشكل خفي. وضعت إدارة الفندق في البهو نسخا من صحيفة قريبة من خط «حزب الله». نشرت إدارة الفندق، أيضا، عرضا بيوم مجاني للسياح من الإمارات، فلبّت بذلك، ربما، مشاعر الحجّ بين السياسة والتجارة (أو بين الدنيا والآخرة؟). في الصفحة الأخيرة للصحيفة نُشرت مقالة رأي تمتدح مواقف حافظ وبشار الأسد «المناهضة لإسرائيل» بعد سقوط الأخير.
عند خروجنا من الفندق للفطور في «فرن المحبّة»، اهتمت ابنتي، رقيقة العاطفة، بالقطط الشاردة وأزعجها كثيرا أن إحداها بدت وكأنها تنازع. كان جليا، مع ذلك، ان أشخاصا يهتمون، بإطعام أولئك القطط. التقينا لاحقا بلحّام من آل السبع تجمعت قطط حوله بشكل أليف وقد أعطاها أسماء محببة. أحدها كان عنتر (اسم يليق بـ»الملحمة»)! تتبعت خطى شعر عنترة في بداية معلقته بحثا عن أطلالي. كنت، بدوري، أجمع الأسى الشخصيّ لفعل التذكّر. طلبت من السائق إنزالي في شارع محمد الحوت في ضاحية رأس النبع، حيث كان بيت العائلة الذي اضطر أبي لبيعه بعد انشقاق عائلي، أقمت فيه بعد حرب 1982، أقنعت أمي وأخي وأختي، بالانتقال إلى دمشق، صمد هو بضعة سنوات ثم أجّر البيت. استقوى الساكن عليه بإحدى المنظمات فباعه لجار يعرف كيف يتصرف. لم تكن تلك الخسارة الأولى له. في شارع بربور، غير بعيد عن بناية كان يسكنها نبيه بري رئيس مجلس النواب، كانت هناك مطبعة لوالدي مع شريك لبناني من آل دياب. مع انطلاق الحرب الأهلية رفض الكثير من الزبائن دفع فواتيرهم فتدهورت الأوضاع وأغلقت المطبعة، ثم احتلت المكان الواسع منظمة مسلحة، في استعارة موفقة لمجمل الوضع اللبناني.
بدا الشارع مختلفا تماما عن ذكرياتي التي تدهدأت، مثل رأس مقطوع، بين طفولتي الشقية في دمشق وبيروت، وباقي حياتي في لندن. تعرّف، أخيرا، أحد الأشخاص على شارع ابن منظور، وتذكرت اسم البناية، التي بدا أنها اجتازت امتحان الزمن. لم تتغير أسماء السكان تقريبا، لكن الورثة حلوا محل آبائهم. تذكرت جيراني من آل التنير، الصيداويين، الذين كنا نلتقي وإياهم بجيراننا في البناية المقابلة: مصري متزوج بحمصية سورية يعمل في دار نشر، وعائلة إيرانية موظفة في السفارة (أيام الشاه).
كان هناك آل حسين من الهرمل، وقصب من صيدا أيضا، والقاروط، والعريسي وعيتاني من بيروت. غالبت رغبة في طرق بعض الأبواب، غالبت أيضا رغبة المرور بمدارسي القديمة. واحدة كان صاحبها من آل الرز، والثانية في الخندق الغميق، والثالثة، «رأس النبع الرسمية» التي تركتها مع اشتداد الحرب الأهلية، لأعود لاحقا كي تمتصني خنادق السياسة، ثم لأعود لدمشق لأقف على الحواف الخطرة لمعارضة النظام، ثم أتركها إلى بريطانيا، في ما بدت رحلة من دون رجعة.
خرجنا إلى شاطئ البحر ولفت نظري ميل عند أصحاب المحلات إلى الاستفاضة في الوصف والشرح الزائد على اليافطات: «مطعم بربر المشهور» و»مطعم زرزور الفاخر» و»زنود الست – مطعم لبناني»، كما انتبهت، إلى انتشار عام لرغبة تأكيد الحنين عبر صور على الجدران، تظهر مباني قديمة، أو رجال شرطة باللباس القديم، أو أسواقا من بيروت الخمسينيات والستينيات. بدا ذلك عودة جماعية لأطلال الذكريات، مع هجاء مبطّن للحرب. تركت تلك الحرب آثارها في كل شيء. إحدى اليافطات، أثناء مرورنا بحي الصنائع، أشارت إلى أننا نمر بحيّ ذي طابع أثريّ، وبمواجهة بناء جليل بديع لعله لوزارة السياحة، انتصب مبنى قديم مهجور وفيه كتابات غرافيتي ناقمة تسب إحداها «أم» الحرب بلفظ بذيء. ستتكرر رؤية مبان ضخمة مهدمة نبتت الأعشاب كالأشجار حتى في طوابقها العليا. سائقو الأجرة أشاروا إلى أنها من حقبة الحرب. نبتت في أحدها شجرة التين الملعونة في الطابق السابع. «الدولة لا تهتم» و»خلاف بين الورثة» علّق سائقو الأجرة إلخ.
حاولت موظفة الاستقبال في الفندق أن تثنينا عن الذهاب إلى شارع الحمرا، الذي كان في مخيلتنا القديمة أحد أقداس الفخامة البيروتية. «لقد تراجع كثيرا بعد أن دخله السوريون». استدركت بعدها، «والعراقيون.. والأجانب»!
سيعيد سائقو الأجرة فكرة لوم السوريين والفلسطينيين والعرب. أكثرهم شراسة التقط حديثا عابرا مع ابنتي وزوجتي حول أنسب ترجمة لجملة «منتهى التحضر»، فشن حملة شعواء على «همجية الإسلام»، والمسلمين. استدرك بالقول إنه مسلم أيضا، لكنّ باقي حديثه جمع بين إعلان العداء لإسرائيل وكراهية الفلسطينيين!
في الفترة القصيرة حتى الوصول إلى الفندق أوضح السائق أخيرا من هم المسلمين «الهمجيين»: الذين خربوا سوريا التي كانت «بلدا آمنا» أيام الأسد. جملته الأخيرة كانت نقدا لانقلاب زعيم سوريا الجديد أحمد الشرع، بدل السعي إلى «لقاء الرسول انقلب ساعيا للقاء ترامب». منطق السائق التقى فجأة بمنطق الأكاديمي كاتب الرأي، وكان ظريفا، فوق ذلك، أن رنّة هاتفه كانت لموسيقى فيلم «العراب».
تتابعت مظاهر الخلاف بين «ورثة لبنان» فاقعة. في مطعم «موراي» المطلّ على البحر في الزيتونة أشعّ جامعٌ بالأخضر وتعالت أنغام مولد نبويّ. تكررت الهرمية المتبعة بين الموظفين في مجمل المؤسسات: لبنانيون في الأعلى، سوريون في الأوسط، ونيجيريات وفلبينيات وإثيوبيات في الأدنى.
ستتوالى علينا السرديّات الفولكلورية الطائفية ـ الطبقية وزجليات الغلبة مع صعود وهبوط التضاريس الجغرافية والاجتماعية والسياسية «زحلة لا تنقلب ولا تنغلب» (سنحتاج غوغل لتفسير السياق السياسي للجملة!)، «صمدنا وصبرنا وانتصرنا» (الحزب التقدمي في عاليه وبحمدون في إشارة إلى سقوط الأسد)، «حزب الله أمة والأمم لا تموت» (البقاع).
عند نقطة العبور في الجمارك اللبنانية، وفي سخرية من أقرانه في أمن النظام السابق سيمزح معنا الشرطيّ: «وين الهوية؟». «أنت مطلوب للفرع 270». توقفت سيارتنا قبل عبور الخط الفاصل بين أطلال حياتي في لبنان وسوريا ورددت مع عنترة: هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهم؟

القدس العربي