- أبو ريشة و مجزرة حماة
ذات يوم بعد عام 2000 زارني في عيادتي في حماة الراحل ” سعيد نابلسي ” . ما إن جلس قبالتي حتى أخبرني أنه جلب لي هدية . كانت مجموعة من الأوراق بعضها مطبوع و بعضها مكتوب بخط اليد . من بين تلك الأوراق كانت قصيدة الشاعر عمر أبو ريشة التي لم يكن قد سمع بها الا عدد قليل جدا من الناس ” عودة الغريب ” .
كتب عمر أبو ريشة هذه القصيدة في الثمانينات، و قد اختُصر موضوعها فيما بعد بأمرين هما : رثاء حماة و هجاء حافظ الأسد . كان الشاعر من الذكاء بحيث قدّر أنه لا قدرة له على مواجهة آل الأسد و لا عاصم له من اجرامهم رغم وجوده في العربية السعودية. و هو اجرام فاق الخيال و مغطى من أعلى مراكز القوة النظام الدولي ….. قدّر الشاعر أنه تجاوز في هذه القصيدة كل الخطوط الحمر لذلك لم ينشرها في حياته .
أخبرني سعيد نابلسي الذي كان يعمل رئيساً لديوان نقابة المحامين في مدينة حماة أن القصيدة وصلت إلى ديوان النقابة عبر رسالة عادية مرسلة من خارج سوريا ، فاستلمها و بعد أن شاهد محتواها أخفاها و لم يسجلها في سجل الديوان . بعد عدة أيام جاء الأمن العسكري يستفسر عنها . فأنكر وصول مثل هذه الرسالة . حقق معه الأمن مطولاً فظل على انكاره، ثم دققوا السجلات فلم يجدوا ما يشير لها . و عرف فيما بعد أن كل نقابات المحامين في سوريا قد استلمت نسخة مشابهة بنفس الطريقة .
احتفظت بالقصيدة لسنوات طويلة . و بعد اندلاع ثورة عام 2011 حرصت على اخفائها بشكل جيد كي لا تقع في يد الأمن أثناء حملات التفتيش . ثم انتشرت القصيدة خاصة بعدما أن أنتج تلفزيون أورينت حلقة في برنامج ذاكرة سوريا السياسية تحدثوا فيها عن مجزرة حماة من خلال هذه القصيدة.
من هذه القصيدة
وأزاحت الأيـام عـنه نقابـه فأطلَّ مسْخاً بالضـلال مـزوِّدا
ترك الحصون إلى العدى متعثراً بفراره، وأتى الحِمَـا مُسْتأسـِدا
سـكِّينـه في شـدقه ولعـابُه يجري على ذكر الفريسة مُزبدا
ما كان هولاكو ، ولا أشـباهه بأضلَّ أفئـدةً و أقسـى أكـبُدا
هذي حماة عروسةُ الوادي على كِبْر الحداد، تُجيل طـرفاً أرمدا
هذا صلاح الدين يخفي جرحه عنها،ويسأل:كيف جُرْحُ أبي الفدا
سرواتْ دنـيا الفتح هانتْ عنده وأصاب منها ما أقـام وأقعـدا
ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى فتناثرت رِممـاً، وأجَّتْ موقـدا
كم سُـجـَّدٍ فـاجـأهـم، وما كانوا لغير الله يـومـاً سُـجّدا
- في الهند
قضى الشاعر شطراً كبيراً من حياته بالعمل الدبلوماسي في الهند حيث خدم هناك فترة اول بين عامي 1954 – 1958 م و في المرة الثانية سفيراً للجمهورية العربية المتحدة بين عامي 1958 – 1959 م أما المرة الثالثة فكانت بين عامي 1964- 1970
و خلال هذه المدة الطويلة تعمقت علاقاته مع الشخصيات الهندية الفاعلة و منها رئيسة الوزراء أنديرا غاندي . حيث كانت تعامله كصديق شخصي لذلك كانت تتجاوز في علاقتها معه الأعراف الدبلوماسية . و هكذا كان حال أبو ريشة في الولايات المتحدة عندما صار سفيراً هناك فقد نشأت بينه و بين كينيدي صداقة شخصية .
يروي الكاتب عبد الله الطنطاوي أن السفير الذي جاء بعد أبو ريشة إلى الهند سمع هذه المعلومات . فظن أنه من حقه أن يرث الصداقة التي تجمع بين أبو ريشة و غاندي مثلما ورث وظيفته . فتصرف منذ أول لقاء على أنه امتداد للسفير السابق .
جاء السفير الجديد ليقدم أوراق اعتماده لكن أنديرا غاندي تأخرت حوالي عشر دقائق عن الموعد الرسمي للمقابلة . اعتذرت عن هذا التأخير . فأجابها السفير الجديد ، باعتباره وريث صديقها الشاعر أبو ريشة ببيت لبهاء الدين زهير :
عرف الحبيب مكانه فتدللا وَقَنِعتُ مِنهُ بِمَوعِدٍ فَتَعَلَّلا
لم يترجم المترجم الكلام . طلبت أنديرا غاندي الترجمة فامتنع المترجم . لكنه تحت الحاحها فعل . على الفور أنهت أنديرا غاندي المقابلة دون أن تتقبل أوراق الاعتماد ، ثم طلبت وزارة الخارجية الهندية استبدال السفير و هذا ماكان .
3- عمر أبو ريشة و معاهدة 1936
كان الشاعر ينتمي إلى حزب الشعب الذي أسسه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر و كان معارضاً لمعاهدة 1936 م بين سوريا و فرنسا. التي صورها رموز الكتلة الوطنية على أنها حدث اعجازي فأطلقوا عليها أوصافاً مثل ” معجزة القرن العشرين ” كما وصفها فارس الخوري ، أو ” عروس الشرق ” بحسب وصف جميل مردم بيك . كما رد سعد الله الجابري على منتقدي تلك المعاهدة بالقول ” أنه لم يبق على فرنسا إلا أن تعطينا مرسيليا ” . و بالطبع لم تكن تلك المعاهدة لا معجزة ، و لا عروساً للشرق ، و لم تتخل فرنسا عن اللاذقية فما بالك بمرسيليا !
حاولت الكتلة الوطنية تسويق المعاهدة بالقول إنها تشبه المعاهدة البريطانية – العراقية و كن عقد معاهدة شبيهة بهذه المعاهدة حلماً عند الشعب و الطبقة السياسية السورية . لأن تلك المعاهدة أدت لاستقلال العراق و قبوله في عصبة الأمم . فنّد الشهبندر هذه الدعاية بأمرين أولهما موضوع الجيش . فقد اعترض على أن الحكومة السورية ” تأخذ تحت مسؤوليتها القوى العسكرية المنظمة مع تكاليفها و واجباتها العسكرية ” فقال ” أن سورية تأخذ على عاتقها جيشاً من لمامات أُلف ليحارب أبناء البلاد كلما رفعوا صوتهم . و إن هذا الجيش المؤلف سيكون نواة الجيش السوري القادم ، و ما بني على الفاسد هو فاسد طبعاً . و زاد في الطين بلة و في ميزانية البلاد نكبة أن المراسلة الأولى تنص على اعتراف سوريا بالحقوق المكتسبة التي حصل عليها ، في هذا الجيش الملفق ، الضباط و صغار الضباط و العسكريون السوريون ..”
في حين أنه في المعاهدة العراقية – البريطانية . رفض العراق الجيش الملفق المماثل الذي لفقته بريطانيا رفضاً باتاً بقضه و قضيضه خوفاً من انتشار اللا وطنية في الجيش الجديد الذي يؤلفه .
أما الأمر الثاني في اعتراض الشهبندر فهو قضية الأقليات . فالمعاهدة العراقية لم تطرح قضايا الأقليات . يقول ” و الجواب على ذلك أن العراق للعراقيين لا للسنة و لا للشيعة و لا للآشوريين و أن الجمارك في البصرة و في بغداد و في الموصل لأبناء العراق ” في حين أن معاهدة 1936م السورية .أقرت بوجود لبنانيين و علويين و دروز و سوريين ناهيك عن اسكندرون و ينفصل بعض هؤلاء انفصالاً تاماً ، و بعضهم الآخر تربطهم خيوط أوهى من خيوط العنكبوت .
في هذا الجو كتب أبو ريشة قصيدة تهجو المعادلة أسماها العروس الفاجرة .
جلوها عروسا و كدوا لها
الحناجر بالنغمة الساحرة
و برقعها من خفي الطلاسم
يأخذ القلب و الباصرة
و يستمر أبو ريشة في وصف موكب العروس و ما رافقها من طبول و زمور إلى أن يصل إلى البيت المفاجيء
صريع الهوى إن خلف البراقع تلك المطلقة الفاجرة
نشرت جريدة الأيام هذه القصيدة فأحدثت ضجة كبيرة فأصدرت الحكومة أمراً بإغلاقها . لم يُضمّن الشاعر عمر أبو ريشة هذه القصيدة في الأعمال الكاملة التي صدرت عن دار العودة في بيروت. كما لم تكن في الديوان الذي صدر قبل سنوات في دمشق تحت اشراف الأستاذ محمد قجة و كان الدكتور سعد الدين كليب أحد المشاركين به . و قد سألت الدكتور سعد عنها فأخبرني أن الأستاذ محمد قجة كان هو المعني الأول بالبحث عما تم نشره في الصحف هاتيك الأيام فلم يعثر عليها . و قد كانت بذهنه أثناء البحث . فسأل عنها ابن أخت عمر أبو ريشة الذي يحتفظ بأرشيف ضخم من قصائد خاله . فلم يعثر عليها أيضاً.
Leave a Reply