في إحدى زوايا الإنترنت..
كان هناك، كاتبٌ يُدعى «قمر الغامض». حلمه أن يُصبح عظيماً، لكن للأسف، لم يقرأ أحد كتاباته سوى عمته، وبعض الروبوتات الباحثة عن الأخطاء اللغوية. وتقرأه الغربان التي كانت تحط على شرفته بينما يكتب، وكأنها وحدها تؤمن بأن هناك شيئًا يستحق الإصغاء بين كلماته.
بدأ يُشكك أصلاً، حتى في أنه فعلاً، كل يوم يستيقظ، ويجلس إلى مكتبه، ويحدق في شاشة الحاسوب التي لم تُشرق عليها سوى شمس الرفض والنسيان. قصصه عن القيم الإنسانية، الفقر، التهميش… لا أحد يهتم بها. لا أحد يعيد تغريداته سوى صديق طفولته «سامر»، الذي يرد عليه كل مرة بعبارة: «انت لا تفهم السوق!».
ذات ليلة، وبينما كان يتسكع في منصات التواصل باحثا عن أي شكل من أشكال الحياة. شاهد معركة طاحنة بين جمهور «العواصف الحمراء» و«الزلازل الزرقاء». في لحظة إلهام مزيفة، وهو يتنقل بين تغريدات غريبة مليئة بالشتائم بين جماهير الكرة، عالم صاخب… دافئ بطريقة مشوهة. هناك شعر بالانتماء فجأة.
بدا قمر (محدثًا نفسه): «هؤلاء لديهم شغف.. لديهم قبائل! ربما لو دخلت قبيلتهم، سأصير أخيرا كاتبا له جمهور». خطرت له فكرة جهنمية: «لماذا لا أركب هذه الموجة؟».. «سأصبح نجم الجماهير! سأكتب عن الفرق! عن البطولات! عن الحق والباطل الكروي!».
في صباح اليوم التالي، أعلن ولاءه لفريق «العواصف الحمراء»، أشهر فرق الدوري. كتب تغريدة نارية: «العواصف الحمراء» هم أسياد الملاعب، ومن لا يعترف فهو جاهل بالتاريخ!». وفي لحظة، صار لديه ألفا متابع جديد!
فرح قمر حتى كاد أن يطير من مقعده. نسي مشاريعه الروائية، وراح يخوض معارك الكيبورد. كل يوم يكتب منشورات غاضبة و(ميمز) تسخر من الفرق الأخرى، ومنشورات قصيرة عنوانها دائماً: «لماذا نحن الأعظم؟».
كلما اشتدت الشتائم، زاد متابعوه. غيّر صورته الشخصية إلى شعار الفريق. كلما بالغ في الولاء الأعمى، صفقوا له كأنهم في ملعب ضخم. بدأ بتصعيد أشد وكتب تغريدة مليئة بالحماسة والعَبَرات: «حين تلعب العواصف، تتوقف الأرض عن الدوران». انهالت عليه التعليقات المؤيدة، المتابعون تضاعفوا في ساعات. بدأ يشعر بأن الحلم يتحقق. وأنه سيكمل بوتيرة سردية أجدى، مخترقاً العوالم الكروية وسيكمل الفكرة التي بدأها إدواردو غاليانو، بجزء مكمل لكتاب «كرة القدم في الشمس والظل» رائع أليس كذلك؟!
ظهر له فجأة شاب يُدعى «سامي الهادر»، قائد مشجعي الفريق على الإنترنت. أرسل له رسالة خاصة: «مرحبا في صفوفنا يا أسطورة». فرح قمر الغامض فرحا طفوليا، وقال لنفسه: «لقد وجدت مكاني!». صمم مُلصقاً أحمر ثم استنسخ فقرة من مقالة كروية حورها بما يُناسب وألصقها على الملصق الأحمر بالأزق، نكاية بفريق العدو «الزلازل الزرقاء»: «رينيه لا فليت» أي الزهرة الصغيرة، هو مفاجأة عالم التدريب، شخصيته، طريقة لعبه.. أسلوبه يليق بفريقنا، يعتمد التحليل الدقيق للعبة والتركيز على مهارات اللاعبين، وصحيح أن لا فليت شخصية هادئة ومتزنة، لكنه يمكن أن يكون حازماً عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات المهمة، ماذا نقول أكثر؟! يكفي قيادته فريق العواصف الحمراء إلى تحقيق النجاحات».. صار يكتب كل يوم منشورات تشيد ببطولات الفريق، حتى لو خسروا! وقصائد ركيكة عن «الأبطال بالقلوب لا بالأقدام». تغريدات ليلية يشتم فيها الحكام والمدربين واللاعبين وحتى أحذية الفرق المنافسة.
بدأ يتعامل مع كلمات غاليانو بطريقته، على الرغم من «حين يلمس الكاتب المزيف كلمات الكاتب الصادق، تحترق بين يديه كأوراق خريفية ترفض أن تخون جذورها»، خاصة فقرة غاليانو: «كرة القدم هي صورة مجازية للحرب، ويمكن لها أن تتحول أحياناً إلى حرب حقيقية. وعندئذ يتخلى الموت المفاجئ عن كونه مجرد اسم لطريقة دراماتيكية في التعادل في المباريات. فالتعصب الكروي في زماننا احتل الموقع الذي كان يقتصر في السابق على الحماسة الدينية، والعاطفة الوطنية والهياج السياسي. ومثلما يحدث مع الدين والوطن والسياسة، هناك فظاعات كثيرة ترتكب باسم كرة القدم وكثير من التوترات تنفجر بسببها».. لكن الحقيقة المؤلمة كانت تكبر في الظل، قمر لا يعرف ما يكفي عن كرة القدم!
يوماً بعد يوم، صار يخون فريقه بالخطأ، يمدح فريق العدو بالسهو، يكتب أسماء اللاعبين بالخطأ. ثم ارتكب الخطيئة الكبرى! نشر تغريدة كتب فيها: «المباراة اليوم كانت عظيمة، فاز فيها فريق «الزلازل الزرقاء» عن جدارة!»
«الزلازل الزرقاء»؟
في أقل من دقيقة، هاج عليه المشجعون كالجراد. انهالت عليه التعليقات: «خائن!» «مندس!» «أنت لا تفهم كرة القدم أصلاً!» «روح اكتب قصص أطفال!». أحرقوا صوره الافتراضية بالميمز. أنشأوا هاشتاغا ضده بعنوان: # قمر _المدعي.. فقد آلاف المتابعين في ساعات. ارتبك ودخل دوامة وكتب متعجلا لتدارك الخطأ، كتب أن الفريق سجل «هدفين من الضربة الركنية المباشرة»، ففضح نفسه أمام الجميع. تدخل «سامي الهادر» وأرسل له رسالة تهديد: «لو مو فاهم اللعبة، لا تعلق! إحنا مو ناقصين فضايح!» ومع مرور الأيام، زادت زلاته، وكبرت فضيحته. النقطة التي فجرت كل شيء جاءت عندما نشر قمر الغامض، تغريدة ناعسة بعد قيلولة ثقيلة: «مبروك لفريق الزلازل الزرقاء، أداء رجولي كالعادة!» (وهو كان يتحدث عن خصمهم اللدود). انهالت عليه التعليقات الساخرة والمزمجرة. بدأوا يسخرون من كتاباته: «كاتب نص كم!». «ارجع اكتب شعرا عن الغيوم!». «أنت السبب في خسارتنا!»، بل أنشأوا حسابات مخصصة فقط للسخرية منه: @ الغامض_المندس، @ قمر_الفاول. وسامي الهادر نفسه قاد حملة لإخراجه من «مجتمع العواصف»، بل رفعوا ضده شعارا موحشا: «الكلمات لنا.. أنت للعدم!».
القدس العربي
Leave a Reply