زيارة ثانية يجريها الشاعر والكاتب السوري بشير البكر إلى دمشق، بعد زوال نظام الطاغية وأربعة عقود ونصف من الغياب والترحال أصدر خلالها العديد من دواوين الشعر وكتب السياسة والسيرة، خارج البلاد.
شاءت الأقدار أن تتزامن ولادة كتابه الأخير “بلاد لا تشبه الأحلام” مع ولادة سوريا الجديدة، ليصنع البكر من هذه الحالة لحظةً استثنائية جَمَع فيها عشرات الأصدقاء والمحبين من الأدباء والكتاب والفنانين السوريين والعرب، أمس الإثنين، عبر حفل توقيع كتابه في مقهى الروضة بقلب دمشق.
و”بلاد لا تشبه الأحلام”، سيرة روائية صادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان ببيروت، يسرد فيها بشير البكر تفاصيل طفولته في الجزيرة السورية، وترحاله اللاحق بين مدن وبلاد الأرض طيلة 45 عاماً.
تنطلق السيرة عبر 256 صفحة، من منطقة الجزيرة السوريّة، من طبيعتها الخاصّة وجبالها الجاثمة على الخرافة والسِحر كجبل سنجار، بنفَسٍ روائيٍّ شاعريّ فريد، محاولةً إعادة إحياء تاريخٍ مهمَّشٍ للجزيرة، وراويةً حكاية أهل تلك المنطقة المغيّبة ثقافيًّا، ومضيئةً على شخوصها كالرعاة وشخصيّة اليزيدي الفذّة. وفي تناقضٍ ممتع، تنتقل نحو المدن في سوريا ولبنان وفلسطين، وفي أوروبا والعالم العربيّ، راصدةً ملامح اجتماعيّةً وثقافيّةً في تلك البلدان.
بالتنقّل بين القطارات والمطارات والمقاهي، ومن خلال اللقاءات بأناسٍ واستحضار بورتريهات شخصيّاتٍ سياسيّةٍ وفنّيةٍ كياسر عرفات ومحمود درويش، يدوّن الكاتب شهادته على أحداث عاشها أو عايشها، مستعيدًا التاريخ السياسيّ للمنطقة، ومعرّجًا على الشيوعيّة والناصريّة والبعث وحرب الـ67 وانهيار الوَحدة بين سوريا ومصر. في رؤية متكاملة لهذا التاريخ في الستينيّات والسبعينيّات.
وباعتماد التخييل الروائيّ، والانطلاق من الخاصّ إلى العامّ، ترتفع الرواية بالسرد إلى التوثيق لتاريخٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ وسياسيّ. في تجربة الكتابة هذه، التي تربط بين السيرة الذاتيّة والتاريخ الجماعيّ، فصولٌ لحكاية مسافرٍ اكتشف بعد رحلةٍ طويلة أنّ البلاد لا تشبه الأحلام. قد تكون أعلى قامة، أو على العكس، أقرب إلى الكوابيس.

من صفحات السيرة
لن تراها ثانية
“لست مستقرا على حال منذ أن تسلمت جواز السفر والتذكرة صار الرحيل على بعد يوم وليلة، بقي عليّ أن أغلق الباب ورائي جيدا، وأغادر غير مرة عبرت الحدود كمن يجتاز نفقا، يكفيه أن يغمض عينيه، ومن ثم يفتحهما على النور في الطرف الآخر. هكذا هان الأمر، هي قفزة في الهواء دونما حساب. ومن بعدها كان البحث عن درب للخطى الشاردة.
يختلف الأمر هذه المرّة. الانتظار يُغيّر مذاقها، يجعله مالحا. وكلما زاد تخطيط العملية ترتبت عليها حسابات تثقل العقل والمشاعر، وتشتت الكائن، لكونها تُفجّر لديه تفاصيل كان قد حبسها في مكان قصي، وأهال عليها التراب. وفي الوقت الذي كنت أنتظر فيه موعد إقلاع الطائرة، ازداد استهلاكي من السجائر، وقل نومي وطعامي، ولم أعد أطيق شرابا. لا خوفًا ولا قلقًا، بل حالٌ من اختلاط الأشياء، الذي يأخذ إلى صفاء نقطة الصفر، التي تظهر التفاصيل بأضعاف حجمها الفعلي.
القطيعة إذن. راودتني عدة مرات قبل هذه المرة، لكني تملصت منها، حاولت أن أبعدها. والآن تبين لي أني كنت أؤجلها.
فقط، لم يكن في وسعي مقاومة الإغراء، الذي حملته لي في الأيام الأولى، بعد أن تجاوزت الحدود، وصرت قادرا على التحليق بعيدا. عن تلك البلاد، التي تحوّلت إلى ثكنات عسكرية وسجون”.
بشير البكر
شاعر وكاتب وصحافي سوري من مواليد محافظة الحسكة عام 1956. غادر سوريا منذ عام 1982، متنقلاً بين البلاد والدول العربية والأوروبية ليستقر أخيراً في لندن.
شغل سابقاً منصب رئيس تحرير صحيفة “العربي الجديد” وكان أحد مؤسّسيها، وهو أحد مؤسسي مجلّة “بيت الشعر” في أبوظبي. تسلّم رئاسة تحرير “تلفزيون سوريا” عام 2019 قبل أن يتفرغ للكتابة. نال جائزة الصحافة العربية (2008).
وللبكر العديد من المجموعات الشعريّة المطبوعة، أبرزها: “معلقة الكاردينال”، “قناديل لرصيف أوروبي”، “أرض الآخرين”، “ليس من أجل الموناليزا”، “عودة البرابرة”، “ما بعد باريس”، “آخر الجنود”، وتُرجمت قصائده إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة والتركيّة.
في السياسة نشر البكر كتابين هما “القبيلة تنتصر على الوطن” و”القاعدة في اليمن والسعودية”. وفي نهاية عام 2022 أصدر كتاب “سيرة الآخرين”، الذي ضم سيراً لعدد كبير من الأدباء والكتاب والمفكرين السوريين والعرب الذين سبق للبكر أن تعرف إليهم.
(تلفزيون سوريا)
Leave a Reply