روى لي صديق سوري يعمل في صحيفة أميركية كبرى، أنها أوفدت فريقاً إلى دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد، بلغ تعداده 20 صحافية وصحافياً. وبقي الفريق يعمل على قضايا البلد السياسية والأمنية والاجتماعية لفترة تجاوزت الشهر. كتبوا تحقيقات عن حال سوريا الراهن، وما تعانيه من فقر وتردي خدمات، وزاروا السجون والمقابر الجماعية والتقوا بعض المعتقلين الناجين من سجون النظام السابق وأهالي المفقودين والمغيبين قسرياً، كما أجروا مقابلات مع مسؤولين من الإدارة الجديدة، سياسيين وعسكريين، وكذلك الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات اقتصادية وثقافية، وغادر بعضهم دمشق، وتجولوا في المدن السورية الكبرى، حلب، حمص، واللاذقية.

انتهت مهمة هذا الفريق إلى استنتاج مهم، مفاده أنه عثر على كنز مدفون ومادة إعلامية غنية لها قراء ومتابعون في الغرب، يريدون أن يتعرفوا على ما حصل في هذا البلد خلال الأيام الـ12 من المعارك التي انتهت بسقوط النظام، والتركة الكبيرة التي خلفها حكم عائلة الأسد لسوريا لأكثر من نصف قرن، ومحاولة قراءة الخطوط العريضة لخريطة الطريق نحو المستقبل.

وتجدر الملاحظة هنا أن الغالبية العظمى من الصحافيين الأجانب حضرت إلى سوريا، رسمت سيناريوهات غير التي عاشوها حين وصلوا البلد، ولم يكن في الحسبان أن عملية سقوط النظام لن تولد حرباً أهلية طاحنة. وحين بدأ النظام يخسر المدن الكبرى، بدءاً من حلب، كان التقدير بأن المعركة المهمة سوف تكون في دمشق، كونها المعقل الكبير للنظام وقواته الأساسية مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، كما أن العاصمة كانت مسورة بعد كبير من الأسلحة التدميرية. وحينما لم يحصل هذا السيناريو، بقي البعض يضع احتمال حصول مواجهات في محافظات أخرى، خصوصاً في منطقة الساحل التي هربت نحوها أعداد كبيرة من فلول النظام، وعزز من هذا الاعتقاد التركيز الأمني من قبل إدارة العمليات على هذه المنطقة، لجهة إجراء تسويات للعسكريين والأمنيين القدامى وسحب السلاح منهم، والقيام بعمليات تمشيط وملاحقة لتوقيف شخصيات ذات ماضٍ أمني اجرامي مثل قاضي صيدنايا محمد كنجو، الذي لم تكن عملية اعتقاله سهلة، وحصل اشتباك سقط فيه عدد من القتلى بين الطرفين.

رغم أن المهمة الكبرى تم إنجازها بأقل الأضرار، إلا أن هناك نقاطاً عديدة غير محسومة تتعلق بالوضع في شرق سوريا وجنوبها. في المحافظات الشرقية الثلاث، الرقة، دير الزور، الحسكة، ما زالت “قوات سوريا الديموقراطية” ترفض الدخول في عملية التحول السوري، وتحاول انتزاع امتيازات، منها الحكم المركزي. أما في السويداء فما زالت المرجعية، ممثلة بالشيخ حكمت الهجري، تعارض تسليم سلاح الفصائل، ودخول قوات “هيئة تحرير الشام” إلى هناك، وتتذرع بضمانات تحيلها على قيام دولة مستقرة. وفي الحالتين، تنتظر وسائل الإعلام حصول تطورات مثيرة، في حال لم يتم التوصل إلى تسويات سياسية تنزع فتيل التوتر والتصعيد.

الفترة المقبلة في سوريا لن تقل أهمية عما حصل حتى الآن، وابتداء من آذار المقبل سنشهد الدخول رسميا في المرحلة الانتقالية، التي لم يتم حسم مدتها حتى الآن. ومن المنتظر أن تتضح معالم خريطة الطريق إلى المستقبل السوري، وستكون نقطة البداية من تشكيل حكومة انتقالية تتولى قيادة البلد لمدة تتراوح بين 3 و4 أعوام، وفق الخطاب الأخير لرئيس الجمهورية أحمد الشرع، وتقديرات بعض الخبراء القانونيين. واعتباراً من هذا التاريخ ستأخذ التطورات منحى آخر لأنه سيتم وضع حجر الأساس للنظام السوري الجديد، وكتابة الدستور، والعدالة الانتقالية، وبناء جيش وطني، وبدء المؤسسات الإعلامية والثقافية عملها، التابعة منها للدولة، أو المجتمع المدني، والخاصة.

الملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن سوريا باقية في دائرة الضوء الإعلامي لمدة عام على الأقل، وذلك لأسباب متعددة. الأول هو أن المادة الإعلامية وجدت نسبة عالية من القراء والمشاهدين، وحسب تقديرات خبراء غربيين لم يتراجع الاهتمام بها. والسبب الثاني يتركز حول مراقبة التحول السوري ومدى توافقه مع جملة الشروط الغربية التي تم تبليغها للحكم الجديد، من أجل الانفتاح عليه، بما يساعد سوريا على السير في طريق التعافي السريع، ويتعلق ذلك بالتشاركية في الحكم، واحترام قواعد التمثيلية، وحقوق النساء، والحريات الفردية. والسبب الثالث يتعلق بأن النموذج السوري بتطبيقاته السياسية والاقتصادية والثقافية، محل اهتمام ومراقبة من الرأي العام الغربي.

*المدن