طال الزمن أم قصر، ستطاول العدالة كافة أركان حكم عائلة حافظ الأسد، حتى فئة الذين هربوا إلى الخارج، أو اختبأوا في الداخل. لن يبقى أحد بمنأى عن المحاسبة. قد يتأخر الموعد، لكن ستأتي اللحظة التي تطرق فيها العدالة أبواب الجميع، كي ينال كل ذي حق حقه. لن ينفد الذين تلطخت أيديهم بالدماء، ومن نهبوا المال العام، أو استغلوا السلطة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، وإلحاق أذى بالآخرين.
هذا حق عام لن يتنازل عنه الشعب السوري. وحتى تبرهن الحكومة مصداقيتها واحترامها لنفسها، عليها أن تطبق قانون العدالة الانتقالية من دون مواربة. وهذا يعني أن الحساب لن يقتصر على عائلة الأسد فقط، بل سيشمل كل الدوائر في محيطيها المدني والعسكري، وما يتجاوزهما إلى بقية الميادين، وعلى هذا سوف تتعدد اللوائح، لتضم إلى رجال الأمن والعسكر وأصحاب رؤوس الأموال، شخصيات دينية، وفنانين، وكتاب، وصحافيين، وشيوخ عشائر.
والملاحظ أن القسم الأكبر من هذه الفئات، التي تمتعت بامتيازات على مدى نصف قرن، وكوّنت ثروات بطرق غير قانونية، واعتدت على الآخرين، وسرقت من المال العام والخاص، تحاول أن تقلب صفحات ماضيها بوسائل مختلفة. لكن ذاكرة السوريين مثقلة بقدر هائل من الانتهاكات الفردية والجمعية. كما أن الكثير من الأدلة موثقة، سواء في وثائق تم العثور عليها في خزائن النظام البائد، أو من خلال وسائل الإعلام والتواصل. ومثال ذلك الدكتورة الجامعية في كلية الإعلام بجامعة دمشق نهلة عيسى، التي أُوقفت عن العمل، بعد احتجاج طلابي، نادى بإقالتها على خلفية تاريخها المرتبط بالنظام السابق. وليس هناك دليل على إدانتها أقوى مما هو منشور منذ أعوام في صفحتها، تتفاخر فيه بتسليم طالبات وطلاب للأمن من داخل قاعة الامتحان.
ظاهرة ما بات متعارفاً عليه بـ”التكويع”، تبدو نافرة في وسط الفنانين والكتاب والصحافيين، اكثر مما هي ملحوظة في ميادين السياسة والاقتصاد. وفي الأسابيع الماضية، قام بعض المعروفين بولائهم للنظام السابق ونفاقهم له، بإطلاق تصريحات أو الكتابة في وسائل التواصل، محاولين تمويه السجلات القذرة، من خلال تأييد الثورة، والتعبير عن الفرح بسقوط النظام. لكن معظم هؤلاء من المعروفين بأن أفعالهم تجاوزت منافقة النظام السابق، إلى محاربة زملاء لهم في داخل سوريا وخارجها، ومنهم من مارس نفوذه في الداخل للتأثير في المهرجانات والجوائز لحرمان كتاب وفنانين معارضين منها، وهناك حكايات كثيرة سيتم سردها في حينه.
صحيح أن منطق الثأر غير مقبول، ولا يعبر عن توجه لدفن الماضي الأسود، وفتح صفحة جديدة، لكن مبادئ العدالة الانتقالية يجب أن تُطبق من دون استنسابية أو مزاجية، وهذا يعني أن المحاسبة يجب أن تكون الخطوة الأولى، وبموجبها يخضع كل أصحاب الجرائم والانتهاكات واللصوص والشبيحة للقانون، ومن بعد ذلك يصبح لكل حادث حديث تحت هذا السقف.
إذن لا بد من هذا الممر الاجباري. ولا يعني ذلك أن الفارين من وجه العدالة، أو الذين هربوا الأموال إلى الخارج، سيكونون بمنأى عن المحاكمة، بل سوف ينطبق عليهم ما يسري على غيرهم في الداخل، وهذه أمر يكفله القانون الدولي. وستبقى العدالة منقوصة إن لم تُطبق على الذين فروا أو هربوا الأموال، وهناك عدد كبير من هؤلاء الذين غادروا البلد فجر الثامن من كانون الأول وقبله، وبعضهم لديه استثمارات ماليه كبيرة في العالم العربي وخارجه، تعود في أصولها إلى أموال منهوبة من الشعب السوري الذي يواجه أزمات حادة من جراء ذلك.
السجلات السوداء لا تضم أسماء سوريين فقط، بل هناك عدد كبير من جنسيات أخرى، استفادوا من النظام، وأدوا له خدمات كثيرة، واستقووا به على آخرين، وهذا ينطبق على تمدّد نموذج الأسدية إلى بلدان مثل لبنان، الذي لا يقل الخراب الذي لحق به عن الذي حل بسوريا وأهلها، فطرق العمل التي اتبعها النظام في سوريا طبقها حرفيا في لبنان، وخلق شرائح واسعة مستفيدة منه سياسيا، واقتصاديا، وأمنيا، وإعلامياً.
وقد يبدو غريباً للبعض أن النظام تمدد خارج سوريا، وبنى شبكات تدعمه وتدافع عنه من الصحافيين والسياسيين العرب والأجانب، وبعض هؤلاء شكلوا لوبيات سياسية وإعلامية ودينية للدفاع عن جرائمه، وكتبوا مقالات وكتباً تلمع صورته، وتقدمه على أنه علماني حامي الأقليات، ومن هؤلاء على سبيل المثال في فرنسا شخصيات تنتمي إلى اليمين المتطرف وأوساط دينية، كانت تمول بعض ميليشيات الدفاع الوطني. ولم يكن ذلك من دون مقابل مالي، كان يتم عن طريق بعض رجال الأعمال مثل رامي مخلوف، أو من موازنة السفارات. وفي الأحوال كافة، لا يوجد موانع قانونية، من أن تطاول العدالة كل من ألحق أذى بالسوريين، لأسباب سياسية، داخل سوريا أو خارجها.
*المدن
Leave a Reply