راسم المدهون
يختار علي سفر تعريف كتابه “الفهرس السوري” بأنه “نصوص” ويترك لنا نحن القراء أن نراه كما نريد، أو كما أرى قصائد شعرية تواجه الحواف القصية لحياة تواصلت يومًا، ولكنها كانت دائمًا توشك أن “ترتكب” نهاياتها. بل أجازف وأقول إن تلك النهايات حضرت في الكتاب كله كهاجس حتمي، أو شبه حتمي، ينتظر كل خطوة ويرفع لافتة الموت على أرصفة الموت، كما في أعالي البحار ووراء كل موجة تحبس الأنفاس، ثم تطلقها كزفير حياة طويل ينتصر على الموت ويؤجله أو هو يسلم مصائر البشر لـ”أقدار” عنوانها الكبير المنفى. فهي أقرب لأن تكون “يوميات شعرية” تنحاز إلى التعبير عن عصف الحياة السورية ذاتها بكل ما شهدته من عذابات كبرى أحرقت الأخضر واليابس وبدّدت البشر في الطرقات والبحار.
“الفهرس السوري” (منشورات المتوسط، ميلانو- إيطاليا، 2018) هو جموح الألم لرهافة المخيلة وانحيازها لمشاهد ومكابدات تلك السنين المثخنة بأوجاع فردية تتوحد مع أوجاع المدن والشوارع وحمَى الذكريات. جموح يمتحن جدارته بالإصغاء إلى الحنين واستنطاقه بيسر بليغ فيه الكثير من شفافية الوجد الذي يلتقط شعريته من مشهديات حاضرة في الواقع بألوانها وخطوطها ولكنها تكتحل بحزن واغتراب يستدرجان بنائية شعرية تتأسس على البساطة:
“في مثل هذا الوقت، كنا نمضي شرقًا، إلى (الغوطة) لنباشر “سيران الجمعة”.
اليوم ما نزال على عاداتنا، نمضي شرقا، لنباشر مأتمنا الكبير، في ظلال هذه الأشجار…
أغصان حياتنا تقصفت، لم نعد هناك”.
في بدء قراءتي قصائد هذه المجموعة تذكرت قصائد مجموعة علي سفر الشعرية الثانية “صمت” الصادرة عام 1994 في دمشق ومنها:
“الراكضون إلى آبار مستحيلة قبل المغيب
يلمون مطرًا متأخرًا
عفونة مرغت أنف الهواء”…
ثم:
“لم نزل بعضًا من ظلال الذي يطرق أبواب
القبور
شيئًا ممن يركضون دون الوصول
كآبار داشرة
مستحيلة قبل المغيب”…
قصائد علي سفر الجديدة “الفهرس السوري” تنتمي تمامًا إلى ذلك العالم المثقل بالوجع والذي رسمه لنا في مجموعته القديمة “صمت”، لكنه أيضًا مختلف: هنا نقف على اتساع الرؤية وانحيازها إلى شجن مختلف. أعتقد أنه يقارب الروح الفردية في الزمن السوري العاصف من حدقة تنتبه كل مرة إلى الغياب الكبير الذي خرج منه كثيرون وتركوا لنا ظلالهم وآثار أقدامهم واغترابهم الطويل في البلدان البعيدة عن الشام. يشبه علي نفسه هنا أكثر من أية تجربة إبداعية أخرى له، ولعله يفعل ذلك محتشدًا بفداحة التراجيديا التي صبغت موهبته بالتجربة والمهارات الفنية على نحو يستدرجنا إلى القراءة العميقة بما هي حضور حارٌ ورؤى تعيد رسم الواقع ببصيرة المخيلة وانتباهاتها العميقة والمؤثرة:
“ما يتوافر في الغوطة الآن: آلاف الأمتار من القماش الأبيض
تكفي لمليون ونصف سوري…
قماش سيبقى أبيض
حتى وإن غطاه التراب”…
“يشبه علي نفسه هنا أكثر من أية تجربة إبداعية أخرى له، ولعله يفعل ذلك محتشدًا بفداحة التراجيديا التي صبغت موهبته بالتجربة والمهارات الفنية على نحو يستدرجنا إلى القراءة العميقة” |
هي حالة وجد تنهل من سفر عميق في معنى الوجع الإنساني ومعنى الغربة معا: قصائد تحنو على ماضيها الحاضر بقوة كدلالات إنسانية على مراحل قديمة لم يتبدد ماؤها إذ هي ذاكرة حياة تقطّعت بها السبل وفاجأتها القنابل في المنامات والمدن البعيدة فجاءت في صورة استعادات تلمع ببرقها وتمضي بنا لملاقاة الشعر في تجليات عاصفة. هي تجربة تبدو للنظرة الأولى في شكلها الفني هادئة تتثاقل في مشيتها، لكنها بما حملته من مرايا لا تحصى، عكست انتسابًا إلى الشعر يتكئ في درجة قصوى على لغة رشيقة وسبك مفعم بالليونة واليسر، يعيدنا إلى معنى بلاغة المشهد الشعري الذي ينجح في ترويض اللغة والصورة على نحو جميل:
“سنسقط قريبًا، كلنا سنسقط، قصفًا، حرقًا، اختناقًا، ذبحًا، قهرًا وتسرطنًا وتجلطًا”.
تبدو هذه السطور الشعرية في أحد وجوهها “سردًا” إخباريًا معتادًا، ولكنها في السياق العام للقصيدة تندمج متوحدة مع دراميتها المشغولة من فكرة اللقطة العاصفة، الحادة وإن تكن واقعية، والمحتفلة بانتسابها للحياة ذاتها المهددة في كل لحظة، بل والمحتشدة بمشاهد الدم في الشوارع والأحلام معًا والتي تنطلق من إدراك سياق الشعر وبنائياته معًا.
على نحو لافت تشير قصائد علي سفر الجديدة إلى علاقة وثيقة بالواقع فهي تقترب منه وتقاربه بالمخيلة أيضًا. ونحن، في حالة شعرية كهذه، نلحظ ما حملته القصائد من شجن كخيط لامرئي ينظم السطور الشعرية ويعيد تقديمها لنا على نحو فيه الكثير من صدقية اللغة والصورة وما تحملانه من معنى نقاربه ونلمس عصفه كما جمالياته. هي إضافة أخرى، جميلة وأكثر نضجًا لتجربة سفر وحضوره في المشهد الشعري السوري الذي جاء مشبعًا بجمالياته وسلاسته وصوره ومشاهده.
ضفة ثالثة
Leave a Reply