يتبدّى الاختراق الشمولي للغة في قضايا مركزية ثلاث:
أولا: غزو المفردات والتراكيب والمصطلحات ذات الحضور القيمي المؤثر في الوعي الجمعي، باستخدامات مفرغة الدلالة ومفتعلتها، تدفع بها في الغالب نحو مواقع مفهومية نقيضة لمواقعها الحقيقية؛ الشاهدُ الأقرب على هذا الصعيد، هو ما حلّ واقعاً بالقيمة الدلالية للمفردات والتراكيب التي شكّلت يوماً الشعارات الفاعلة في الاستقطاب والعمل الحزبيين، من طراز: “الوحدة” و”الحرية” و”الاشتراكية”، و”أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، و”الالتزام” و”الانتماء الحزبي والوطني” وكذلك بالتوصيفات القيمية السالبة من طراز: “الخيانة” و”العمالة” و”التآمر”، وكل الحمولات المفهومية الجديدة التي أُقحمت فيها.
ثانياً: رفد التداول الكلامي بتراكيب ومرادفات تبجيلية لا تنتهي لشخص “القائد”، من طراز: “القائد الخالد” و”القائد الرمز” و”القائد الفذ” و”القائد الملهم” و”قائدنا إلى الأبد”…إلخ. لكأن تلك المفردة المسكينة “رئيس” قد أصابها العقم المطلق، فغدت عاجزة تماماً عن إنتاج أي معنى مفيد، إن لم تُلحَق بحشد من مرادفات التعظيم والتمجيد. حين يتكفّل مسار ديمقراطي سليم ونزيه بإيصال القادة إلى مواقع الرئاسة، تُشبَع كلمة “رئيس” بمفهومها المتداول في كل لغات الأرض، على نحوٍ يغدو معه أي ملحق تعظيمي آخر نافلاً وبغير طائل، مَن هو أكثر قيمة وأهمية، ومن هو أرفع مقاماً، من رئيس منتخب حاز ثقة الملايين من شعبه…؟؟؟
ثالثاً: استحداث شعارات مشغولة أولاً وآخراً بتأكيد ولاء ينحدر بمكانة المواطن، التي أكدتها وسعت إليها كل الشرائع السياسية والمدنية منذ أولى حركات الإصلاح السياسي والاجتماعي في التاريخ، شعارات تختزل موقعه في مجتمعه وتكرسه للولاء والتصفيق وعبادة الفرد، من طراز: “بالروح، بالدم نفديك يا..”، و “الله وسورية وبشار وبس”، و”إلى الأبد إلى الأبد…” وأخيراً وليس آخراً: “سيد الوطن” …!!!
إن هذا الاختزال لمكانة المواطنين، إزاء هذه الهالة القدسية التي تُخلع على “القادة”، هو انحطاط بمعنى الوطن والمواطنة، لأن الوطن هو مجموع أفراد أحرار، اختاروا عقدهم السياسي/ الاجتماعي وارتضوا نتائج ممارسته بمسؤولية عقلية وقانونية كاملة، وليسوا عبيداً رهنوا حياتهم وقواهم لتمجيد قادتهم والتصفيق لهم والتسبيح بحمدهم، آناء الليل وآناء النهار، “سيد الوطن”…!!! من الذي اقترف هذا التوصيف المهين: وكيف جرؤ صاحبه على المساس بقدسية معنى الوطن، فأحاله عبداً في مزرعة…؟ ليس الوطن هو الذي ينتمي إلينا، بل نحن الذين نتشرف بالانتماء إليه. ولذا، فالوطن أبداً هو السيّد، سيّدنا جميعاً، مهما علت مكانتنا. هذا ما تعلمناه منذ نعومة أظفارنا، وهذا هو شرف المواطنة وشرف القيادة في آن معاً.
لقد فات أصحاب المشورة في جمهوريتنا، على ما يبدو، ما لم يفت نظراءهم الملكيين، من أن الألقاب الأكثر صخباً، هي الأكثر عجزاً عن تعزيز المعنى والمكانة؛ ذلك لأنها لا تنتج قيماً دلالية إضافية بل تنتج ضجيجاً يخنق المعنى ويحاصره، وإلا فكيف نفسّر هذه المفارقة البليغة: في التماس الأولين لقب (“خادم” الحرمين الشريفين)، في حين لا يكفُّ هؤلاء عن مطاردة أكثر الألقاب عظمة وتعظيماً…؟ إن هذا النمط الفج من الاستهتار باللغة ومحمولاتها وبناها وقيمها المكرّسة وقدرتها التي كنا نفخر بها ولا نزال، على مقاربة معانيها على الوجه الأكثر دقة وأمانة بغير إفراط، أو إخلالٍ، أو تَزَيّدٍ أو نقصان، وإخضاعها لغايات نفعية مرحلية، على مقاس “الديماغوجيا” الشمولية ورؤيتها القاصرة للأشياء، لهو تجلٍّ آخر لاستباحة هذه الشموليات وهدرها لحيواتنا ومصائرنا، مواطنين وأوطاناً. أيْ لغتَنا العربيةَ المغدورة… وا… لغتاه…!!!
Leave a Reply