حوار عبد اللطيف الوراري
فاطمة الزهراء بنيس شاعرة تنتمي إلى جيل التسعينيات في الشعر المغربي المعاصر. مثلتْ مع بنات جنسها صورة الحضور النسوي القوي داخل مدونة هذا الشعر، الذي تَعزز في مطلع الألفية الجديدة. شهدت هذه الحقبة التي صاحبتها متغيرات سياسية وحقوقية وسوسيوثقافية، إقبالا من لدن النساء الشواعر على الإفضاء بتجاربهن ونشرها في كراريس ومجاميع تعاظم زخمها في فضاء النشر الإلكتروني. نحن اليوم أمام متن شعري بارز ومتنوع، تخترقه مُتخيلات كتابية مشبعة بالأنثوي بما هو موقف صريح من العالم، أكثر منه مجرد أسلوب؛ بحيث عمل على «جَسْدنة» اللغة وأعاد تسمية مفرداتها المادية والرمزية، على نحو يفصح عن مواجع تاريخها الشخصي، ورغبتها في بناء عالم يتسع لحريتها وأحلامها ومشاغلها الصغيرة. تكتب فاطمة الزهراء بنيس قصيدتها التي تعكس هشاشة الأنثى، بما هي قدرها الأنطولوجي، وغنائيتها الخاصة وشرط حياتها وموقفها من المجتمع والقيم، بأسلوبٍ يمزج بين ما هو حسي وجسدي منشرح بالغبطة والافتتان، بقدر ما ينفتح على المرجع الصوفي، باعتباره تأويلا لـ»حماية رمزية وملاذ لغوي» يُغني معجمها الشعري ويوسع منظورها للعالم الذي تتطلع إليه. صدر لها في الشعر: «لوعة الهروب» 2004، و»بين ذراعي قمر» 2008، و»طيف نبي» 2011، و»على حافة عمر هارب» 2016.
*أسألك ابتداء: ما الذي قادك إلى الشعر؟ متى سمعت بهذه الكلمة السحر لأول مرة، وفي أي عمر وجدت نفسك تكتبين؟ وهل ثمة واقعة أو ذكرى قادت خطاك إلى درب القصيدة؟
ـ البحث عن الذات الضائعة في المنظومة الجماعية؛ البحث عن القيم الإنسانية والجمالية التي كانت تتجلى لي، حينئذ، في عوالم الشعراء؛ البحث عن صياغة جديدة لكينونتي؛ هذا ما قادني إلى الشعر. في سن مبكرة انتبهت حواسي إلى هذه الكلمة السحر، حيث انجذبت تلقائيا إلى قراءة شعراء عرب كبار. أذكر منهم: جبران خليل جبران، عمر أبو ريشة، نازك الملائكة، فدوى طوقان.. هكذا وجدتني أسرح بخيالي بعيدا عن واقعي، لأكتب محاولات أدبية أستمد منها توازني النفسي وألقي الأنثوي، ثم أخفيها حتى لا أقلق أحدا.
في سن السابعة عشرة تجرأت وأرسلت إحدى خواطري الأدبية إلى صفحة (الشباب) في جريدة «الميثاق الوطني» التي كان يشرف عليها الشاعر العراقي المرحوم فراس عبد المجيد، وقد نُشرت في بداية التسعينيات؛ فكانت نقطة انطلاقي إلى عالم النشر على صفحات الجرائد المغربية. توقفتُ بعد ذلك، وهمتُ في عوالمَ لا تُشبهني، ثم عدت مطلع الألفية الثالثة بروح ثائرة، وقلم عاشق للحياة، فأصدرت أول دواويني الشعرية «لوعة الهروب» عام 2004. وقائع كثيرة جعلتني أنتفض بوحاً، منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي، ولكن ما رسّخ قدمي في فضاء القصيدة، هو حدسي العميق بأنني سأبدع طريقا آخرَ لي غير الطريق الذي رُسم لي سلفا. دائما كنتُ أتخيلني امرأة أخرى غير أنايَ المُحاصرة بالأعراف والأوهام. وفعلا صدق حدسي، وكنتُ امرأة بعكس الصورة النمطية للنساء في محيطي الخاص.
*تنتمي فاطمة الزهراء بنيس إلى الجيل الشعري الأحدث الذي ظهر في مطالع الألفية الجديدة، وشهد حضور الصوت النسائي بقوة. ما هي أسباب هذا الحضور وقيمته الفعلية في تجديد الشعر المغربي؟ في المقابل، ألا ترين أن هذا الحضور ما زال يواجه بعض المُثبطات الذاتية والموضوعية؟
ـ أعتقد أن من أسباب حضور الصوت النسائي بقوة في المشهد الثقافي المغربي، هو تحرر المرأة المغربية من أقنعة اجتماعية زائفة؛ هذه الأقنعة كانت لسنوات طويلة تحاول قمع صوت المرأة باسم الدين. كما أن هذا الحضور النسائي في المشهد الشعري في المغرب يندرج ضمن حضور المرأة في مجالات مختلفة. أما القيمة الفعلية للشعر النسائي في تجديد الشعر المغربي، فهذا من شأن النقد، كما أن الزمن كفيل بغربلة الغث من السمين. ينطبق الأمر كذلك على الشعر الذي يكتبه الرجال، فليس كل ما يكتبه الشعراء المغاربة يساهم في تجديد القصيدة المغربية. مفهوم التجديد نسبي، والقيمة الحقيقية لأي نص شعري نسبيةٌ بدورها، فكَمْ من شاعرٍ لم يُلفت النظر في زمنه، وبعد رحيله ذاع صيته، والعكس كذلك.
شخصيا، ما يَهُمني في الكتابة الشعرية هو شرف المحاولة. يكفيني فخرا أنني حاولت فعل شيء جميل ومُثير هو الكتابة، ويكفيني أنني استطعتُ تقليص الهوة بين عالم الشعر وواقعي اليومي. كل المبدعين تواجههم المثبطات الذاتية والموضوعية، لأن المبدع بطبيعته يحتاج مساحة من الحرية الفردية للتفكير والتعبير والانزياح الخلاق، ومعظمهم لا يتوفرون عليها في معيشهم اليومي، ويعيشون تناقضا صارخا بين أفكارهم النورانية وسلطة الواقع، إلى جانب الانشقاق المؤلم بين ما تحلم به الذات المبدعة، والمُتاح.. يزيدُ عدم الدعم المادي الذي يُواجهه الأدباء من الجنسين، أثناء الطبع والتوزيع، الطينَ بلة، فما زلنا نعاني كيف سنخرج كتبنا إلى حيز الوجود. وانطلاقا من هذا المأزق، فضل الكثير من المبدعين غض البصر عن النشر الورقي، والاكتفاء بالنشر الإلكتروني.
* يلحظ قارئ أشعارك بساطة أسلوبك الذي يمزج بين ما هو حسي وجسدي، ولهذا فهو أسلوب يغلي في الصميم بمواجع أنثى غاضبة، ويحمل ثورة ناعمة على واقع الحال، إلى أي مدى يكون الشعر تنفيسا عن جرح شخصي، ومرآة صادقة لأحاسيس الذات، وجسرا للتواصل بينها وبين الآخر؟
ـ نعم، الكتابة عموما والشعر بوجهٍ خاص، تنفيس عذب عن جراحنا الباطنية، وترميم لغوي لتشوهات ألحقها بنا الواقع، وأيضا توثيق مجازي لخطواتنا الصحيحة والخاطئة في هذا الكون. لولا الكتابة لاندثرت أحداثنا الفردية والجماعية من سجل التاريخ… لولا الكتابة لما استطعتُ استرجاع صوتي المجهض. الكتابة لها مفعول السحر. جل التابوهات يُمكن إسقاطها بالكتابة؛ لهذا عندما أكتب أتحرر من الماضي، وأتطهر من خيبات الحاضر، وأحلم بمستقبل أكثر رحمة وإنسانية. عندما أكتبُ أتواصل مع الآخر عبر ما أقدمه من رؤى وأفكار. أي فكرة مهما كانت مرفوضة، عندما تتحول إلى ثيمة أدبية تنقص حدتها، وتتماهى معها الأغلبية.
*تعتمدين في التعبير عن الذات على التجريد حينا، وعلى المرجع «الصوفي» حينا آخر. إلى أي مدى يكون مثل هذا التعبير جزءا من ضريبة الشعر في أزمنة الخوف ومؤسسات الرقابة؟
ـ لا يمكن أن ننكر أن سقف حريتنا محدود في التعبير عن ذواتنا، لأن البوح الجريء كان وما يزال يُشكل خطرا على الكاتبة. أغلب الكاتبات يُعانين في بداية مشوارهن الأدبي من التجريح اللاذع وتضييق الخناق، وهنا استحضر الأسماء المستعارة في بداية القرن العشرين لكاتبات لامعات فضلن النشر بعيدا عن ألقابهن الحقيقية، تفاديا لأي اصطدام أسري أو اجتماعي. لهذا، تَجدني دائما أبحث في المُعجم الصوفي عن أفق ألوذ به. لا أعتبر أن اللجوء إلى العوالم الصوفية ضريبة، بقدر ما هو حماية رمزية، وملاذ لغوي يُغني معجمي الشعري. أنا مدينة للصوفية مذهبا ولغة وفكرا، وأعتبر الصوفية بحرا مُضيئا في عتمة صحرائنا العربية.
* هل يمكن أن يسهم إمكان البوح والإفضاء بذات الأنثى ومشاغلها الصغيرة داخل الشعر وغيره من الفنون، في ازدياد الاهتمام بخطاب المرأة بدل تهميشه، وفي تصالح المجتمع معها، على نحوٍ يساهم في توسيع رؤيتنا للعالم وإثرائه؟
ـ نعم، كلما اشتغلت المرأة على ذاتها وعلى خطابها، وحاولت الخروج من دور الضحية، عبر ما تُنتجه، من إبداعات وفنون، ازداد الاهتمام بها، على نحو يُبلور عجلة التقدم في المجتمع، أي تقدم إنْ لم يواكبه تقدم فكري ووعي بالمساواة بين الجنسين، يظل تقدما سطحيا. للأسف الشديد، ما يزال البعضُ في مجتمعنا المغربي يريد أن يرجع بنا إلى الوراء، وهذا ما أظهره تعديل مدونة الأسرة، مع أن الاهتمام بالمرأة وبإنتاجها والحفاظ على حقوقها يضبط إيقاع المجتمع ويرفع من شأنه وثقافته.
*ألَمْ يأتِكِ خاطرٌ بأنك تكتبين بيد شاعرة ماتت قبل مئات السنين، وتحلمين بدلا عنها، وأن صوتك هو امتداد لأصوات نسائية جريحة من أزمنة وحقب مختلفة؟
ـ نعم يراودني هذا الشعور بالامتداد نحو أصوات نسائية جريحة، لكنها تركت أثرا جميلا وحاضرا في كل الأزمنة. هذه الأصوات ليست فقط في الشعر، بل في الفنون كلها. مثلا، فريدا كاهلو أرى فيها ما يُشبهني: عشقها للألوان، شرودها الدائم. أيضا فيرجينيا وولف ودعوتها الخالدة إلى ضرورة إيجاد غرفة خاصة للمرأة من أجل الكتابة. إنها فكرة، دوما أدافع عنها من غير قصد. وفي الشعر تسكنني شاعرات من مختلف البقاع، ولكن من تُشبه صفعاتُها صفعاتي، هي الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان. صحيح أننا لم نلتقِ في الزمن، ولكننا التقينا في عشقنا الفطري للبوح وامتطاء صهوة المستحيل. أنا لا أكتب بيد شاعرة انقرضت، وإنما أواصل قدر الإمكان ما بدأته.
*هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟ وهل تعودين إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟
ـ العزلة هي شرطي الوحيد في الكتابة، لا يمكنني ان أكتب وسط الضجيج. لا يمكنني أن أكتب وأنا محملة بأعباء لا علاقة لها بعوالم المجاز، أعتقد أن الكتابة، خاصة الشعر، إنتاج حميمي للذات.. انصهار الممكن مع اللاممكن. كل هذا الانزياح، اللغوي والحسي، يُحتم علينا الانعزال من أجل الإصغاء لذبذبات الباطن، وتدوين هلوسات الذات. هنا أعود إلى فكرة فيرجينيا وولف حول الغرفة الخاصة للكاتبة، وهي فكرة تختصر ضرورة الاختلاء من أجل الكتابة. دائما أعود إلى قصائدي لقراءتها من جديد قبل النشر، ولكن ليس بالضرورة من أجل تنقيحها. ليس كل القصائد تحتاج إلى التنقيح، بعضُها يَنزلُ كاملا مكتملا مثل نص مُقدس، والبعض الآخر يحتاج إلى التنقيح. بعض النصوص الشعرية تكون وليدة انفعالات نفسية خاصة جدا، وبالتالي تتدفق كوحي سماوي غير قابل للمراجعة.
*القدس العربي
Leave a Reply