جمال الشوفي

* كاتب وباحث سوري، دكتوراه في الفيزياء النووية ومدرس جامعي سابق، عضو رابطة الكتاب السوريين.

  1.  توطئة:

منذ 17 اب 2023 وحتى غاية يوم 8 كانون أول 2024، يوم سقوط استبداد نظام الحاكم العرفي لسوريا في دمشق، برزت مدينة السويداء كظاهرة سورية متميزة تتركز عليها الأنظار المحلية والعربية والدولية، من خلال تظاهراتها اليومية المتواصلة في ساحات الكرامة وعنوانها الأوضح: التغيير السياسي وسوريا لكل السوريين.

السويداء هي المدينة السورية الجنوبية ذات الغالبية العظمى من الأقليات السورية المعروفة بالموحدين “الدروز”، حملت مشعل الموجة الثورية السورية الثانية بتظاهرها السلمي والمدني اليومي، رغم حر الصيف وبرد الشتاء ومحاولات اجهاضها أو حرفها عن مسارها، لكنها استمرت دون كلل أو ملل، فكانت مشاركة محورية في سقوط نظام الطغمة الحاكمة في دمشق لعقود خلت.

تظاهرات السويداء السلمية الشعبية الواسعة حملت عناوين سورية متعددة، فهي:

  • سياسياً: استحقاق التغيير السياسي على المستوى الوطني العام وفقاً لمخرجات القرار الأممي 2254/2015 القاضي بالدخول بمرحلة انتقالية سلمية سياسية تقودها حكومة وطنية مؤقتة.
  • محلياً: عرت ورقة النظام التي طالما استند إليها بادعائه زوراً حماية الأقليات.
  • عربياً: أتت هذه الموجة الثورية في مرحلة حساسة لنظام دمشق، إذ كانت جامعة الدول العربية قد بدأت بإعادة تطبيع علاقاتها معه بعد انقطاع دام منذ 2011، لتظهر السويداء رفض السوريون لهذا النظام سورياً وعربياً ودولياً.
  • معرفياً: الإنارة الثقافية والحضارية متمثلة بالتمسك بالسلمية ورفض الانجرار لمخططات العنف الذي حاولتها أجهزته الأمنية، وتصدر النساء والنخب المثقفة ساحات التظاهر متمسكين بالحرية والسلام والحق المدني السوري العام في المواطنة والحياة الكريمة.
  • وجودياً: مساواة السوريين جميعاً في الحقوق والحريات لا يفرق بينهم عرق ولا دين ولا جنس، تجمعهم دولة المواطنة والحق والقانون.

المميز في هذا المسار أنه لم يكن إعلان سياسي أو شعار نظري أو مؤتمر لا يمكن تنفيذ مخرجاته لتعنت النظام مقابلها، بل هو محتوى ومكنون مجتمعي يعبر عن مطالب السوريين جميعاً، وانعكاس لبيئة السويداء المدنية خاصة، وفهم عميق لمسار التحولات التي طالت الثورة السورية خلال أعوامها السابقة، وممارسة واقعية لمفاهيم الحرية والكرامة الإنسانية، وتشارك واسع بين كافة شرائح المجتمع محلياً وسورياً في استعادة دورهم في الحياة السياسية ونزع احتكارها من السلطة.

  • خصائص وسمات المجتمع المحلي في السويداء وحراكها السلمي:

من الهام بمكان القاء الضوء على البنية المجتمعية والأهلية للمجتمع في محافظة صغيرة كالسويداء معرفياً وحياتياً. تلك التي عبرت عنها الثقافة العامة السائدة في هذه الرقعة الجغرافية في سوريا، والتي بقيت معتم عليها طوال حكم نظام السلطة القائمة وغير معروفة للسوريين ولمحيطها العربي والإسلامي بشكل عام. ومع أن هذه الميزات والخصائص ليست استثناء سوري بقدر ما هي نموذج عام للحياة والثقافة لم تظهر بعد على الساحة العامة السورية بحكم تجاهلها ومنعها من الرواج بحكم نظام الحكم المستبد والمتغول على حياة السوريين أجمع، لكنها تركزت كثافتها بصيغة عمومية بهذه الرقعة الجغرافية رغم التهميش التي عانت منه السويداء. هذه السمات والخصائص المحلية يمكن الدلالة عليها بالمعطيات العامة لأبناء هذه الأقلية، فالسويداء:

  • ذات تركيبة سكانية مدنية بعمومها، غالبية سكانها (بنسبة تزيد عن 85%) تدين للمذهب التوحيدي المعروف ب“الدروز”. وهو مذهب إسلامي معتدل دينياً يقبل مختلف أنماط التعدد الثقافي والديني، وأيضاً مذهب غير تبشيري لا يفرض تدينه وممارسة طقوسه على الآخرين وحتى على أبناء جلدته. ويتعايش سلمياً وحقوقياً مع بقية سكان المحافظة من المسيحين والمسلمين والعشائر العربية البدوية.
  • الموحدون ذو منهج برهاني عقلي في قراءة النص الديني والأحداث الزمنية، يحبّون الكرم والعادات العربية الأخلاقية والتعايش السلمي مع محيطهم، ويكرهون الحرب إلا إذا فرضت عليهم، وهذه قيم إنسانية حقوقية عليا. تمثلت بموقفهم العام باستقبال النازحين السوريين من كل المدن السورية بأعداد هائلة معتبرينهم ضيوفاً كما هي عاداتهم الشعبية، ورفضهم الخوض في المعارك الدموية التي اجتاحت كامل الأرض السورية بعد عام 2013 من خلال سحب أبنائهم من الخدمة الإلزامية بعشرات الآلاف، معلنين حرمة الدم السوري ورفض القتل كقيمة إنسانية عامة نصت عليها الأديان عامة، والشرائع الدولية لحقوق الإنسان. واليوم يطالبون بالتغيير السلمي للسلطة السياسية القائمة.
  • السويداء محافظة قليلة العدد سكانياً (قرابة 550 ألف حسب احصائيات 2019 للسجلات المدنية)، وتعداد الأسرة الوسطي 4 أفراد، مهتمون بالعلم والتعليم كرأس مال اجتماعي، وهي الخالية من الأمية حسب اعلان وزارة الثقافة السورية عام 2008.
  • ذات النسبة الأعلى في البطالة، حيث بلغت 18.3% عام 2010 مقارنة بـ 8.4% بباقي سورية. وتكاد تخلو من المشاريع التنموية مع تهميش اقتصادي متعمد، ما يفسر نسبة الهجرة العالية بين شبابها لطلب العمل ومصادر الدخل. واليوم زادت نسب البطالة لما يقارب 75%، بحكم الثورة والحرب والملاحقات الأمنية لشبابها. مترافق مع تراجع حاد بالدخل وارتفاع الأسعار وانهيار بسعر صرف الليرة. ومع اعتماد غالبية أبنائها على دخل الوظائف الحكومية ما يعني الافقار شبه العمومي (راتب الموظف يعادل وسطياً 20 دولار شهرياً، وهي دون خط الفقر العالمي بكثير والمحدد ب 1.9 دولار للفرد يومياً أي 57 شهرياً).
  • رغم حياد السويداء الإيجابي من المقتلة السورية، لكنها تعرضت للتطرف الداعشي عام 2018 تصدت له أهلياً بمفردها مع شكوك واضحة حول دور النظام في ذلك. كما واُستثمر في عطالة بعض شبابها عن العمل في الترويج لتجارة المخدرات، ومع هذا قام المجتمع الأهلي بمحاربة هذه الظاهرة باجتثاث أخطر عصاباتها صيف عام 2022، وحرق مقراتها بعد اثبات تبعيتهم للأجهزة الأمنية والميليشيات الإيرانية وحزب الله. الظاهرة التي أوضحت جلياً رفض السويداء الشعبي والثقافي للتطرف الديني والميليشاوي الإيراني ومنع الاستثمار في تهميش السويداء.
  • من السمات الهامة للسويداء تبرز موضوعة جدلية في الثقافة السورية لم تحسم لليوم، وهي مثار جدل ثقافي قد يمتد زمناً، ألا وهي العَلمانية ونواتها الثقافية. حيث الفصل الواضح بين رجال الدين والمجتمع المدني في هذه المحافظة سمة عامة، ويمارس رجال الدين حياتهم بشكل مستقل عن العمل السياسي إلا في الحالات التي تتعرض لها هذه الأقلية للتهديد الوجودي، ما يتطلب موقفاً موحداً وتكامل الأدوار المحلية عامة، كما شخصها ابن خلدون في مقدمته (حين تنهار الأمم تلوذ الناس بالعصب). وهذا ما ظهر جلياً في سنوات الاستعصاء السوري العام وارتداداته على السويداء. ما أظهر موقفها الواضح بدعوة أبناء الوطن السوري جميعاً للعمل معاً على بناء دولتهم الوطنية بعيداً عن الاستبداد والفساد.

المفهوم الحديث للعَلمانية المتحققة حياتياً في عوالم الغرب المتقدم ورغم صعوبة الحوار المجتمعي السوري حوله يظهر سلوكياً في مظاهر ثقافية متعددة يمكن الإشارة لها في هذا السياق من جذروها التي بنيت عليها في منابعها الغربية. ففي كتابه “العصر العَلماني”، يعرف تشارلز تايلور العَلمانية بأنها “الانتقال من الترتيب الهرمي للروابط الشخصية إلى الترتيب غير الشخصي القائم على المساواة. الانتقال من عالم عمودي العلاقات عبر وسيط إلى مجتمعات الوصول الأفقي المباشر. فالكلّ على مسافة متساوية من المركز، ونحن على تماس مباشر مع الكل”. وهذا التوزع الأفقي للحقوق الايمانية المتوازية والحقوق المدنية والسياسية المتساوية يختلف اختلافاً جذرياً عن الهيمنة السلطوية الشاقولية. ويتجاوز المقولة النظرية السائدة بأن العَلمانية هي فقط فصل الدين عن الدولة والسياسة وكفى. فعلى أهمية هذه الجملة، لكنها بذات الوقت لا تتيح المحتوى النقدي لمفهوم السلطة، ومن يمارسها وكيف يمارسها. فالتوزع الأفقي للحقوق العامة يجعل من نظام الحكم انعكاساً لبنية العلاقات الاجتماعية دون فوقية أو تعالي، ودون انكار لدين أو فكر أو حق مدني. فالكل متساوون أمام القانون، وكلٌ يعمل في مجاله لبناء المجتمع بعيداً عن اختزال العَلمانية الخاطئ معرفياً وسياسياً في محاربة الأديان وحسب.

العَلمانية وفقاً لهذا التحديد المفهومي وممارستها العملية، متوطنة في السويداء بخلاصتها العامة، فمحتواها الثقافي والحياتي يعترف بالتعدد الثقافي وممارسة الحرية في الإيمان والتدين دون أن تتعارض في ذلك مع المجتمع بقواه المدنية والسياسية والبشرية ودورها في البناء المجتمعي. وهنا من الضروري بآن توضيح أن العلمانية المفترضة بهذا النقاش هي سمة ثقافية للمجتمع وبناه العامة ولا يجب الخلط بينها وبين الدولة والتي يجب أن تكون دولة حيادية بلا صفات وهذا اختلاط سياسي عام بين العلمانية كثقافة مجتمعية تتحقق تدريجياً بالحوار والتقدم العلمي، وبين الدولة كبنى مؤسساتية لإدارة شؤون الحكم دون تمييز عرقي أو ثقافي أو ديني او على أساس الجنس.

  • انبعاث السويداء في حراكها السلمي ومكنونها الوطني والاجتماعي تقدم بثبات متابعاً مسيرة السوريين في استحقاقهم الوطني البادي منذ 2011. لتظهر المدنية والسلمية كأحد أهم خصائصها العامة، فنساؤها وشبابها يقدمون ابداعاتهم الفنية والفكرية والثقافية، يجاورون فيه المجتمع الأهلي والديني على أسس التكامل والمساواة الأفقية في الحقوق. الأمر الذي يتوجب إعادة التفكير مجدداً في معطيات هذه البنية السورية بمحتواها الاجتماعي القائم فعلياً، والذي قد ينتج عنه تغيّراً في العناوين السورية السياسية غير المتوافق عليها ليومنا. ويتيح مساحة واسعة للعمل الوطني والتوجه بثقة ناحية المدنية والمجتمع المدني المتوطنة اجتماعياً في السويداء كنموذج لسورية المستقبل، والعمل على إعادة إحياء قيم ثورة الحرية والكرامة الأولى. ليثبت الزمن أنها قابعة في الوجدان السوري العام رغم ما أصابه من كوارث ونكبات. فالانفتاح والاستحقاق والجدارة عناوين رئيسية في التحضر والتمدن تستهدف القدرة على الحياة بكرامة وسلام، وتستوجب العمل بطرق متكاملة فكرياً وسياسياً واجتماعياً تتجلى بالحوار الوطني العام واتساع أفقه وتجاوز معيقاته بلغة الكلمة لا لغة السلاح والعنف كما أرادها وسعى إليها النظام طوال سنوات الثورة السورية وكوارثها الجسام.
  • تباينات الفرضيات السورية ومآلها:

تأخرت السويداء! لو أنها قامت مع ثورة ال 2011/2012 لحُسمت الثورة من وقتها! تساؤل وأمنية تحتمل الإجابات المتعددة بحجم الفرضيات التي تجيب عنها. في المقابل، لم تقدم السويداء خارطة طريق للحل الوطني في سورية! وإلا متى ستبقون في ساحات التظاهر؟ وهل الأغاني والاهازيج ستسقط النظام؟ ما هو مستقبل سورية؟ وكيف سيكون شكل الحكم فيها؟ وهذه أيضاً تساؤلات تتباين بين حدين واسعين، أولهما الإمكانية والمعادلة السورية، فيما ثانيهما قول جربنا قبلكم ولم تنجح سلميتنا ولن تنجحوا! اذاً، أين هي المعادلة التي علينا حلها؟

شهدت الساحة السورية طوال الأعوام السابقة العديد من فرضيات الحل فيها. منها وأبرزها الثورة السلمية مقابل الثورة العسكرية، الدولة المدنية و/أو الدولة العلمانية مقابل الدولة الدينية…. فيما عبر الشارع الثوري عن رغبته بإن مشاركة دمشق وحلب الصناعية والتجارية في التظاهر السلمي سيغير المعادلة السورية، كما ومشاركة السويداء كأقلية سيغير معادلة الثورة. وبعيداً عن عودة الجدل في هذه الفرضيات، والتي طالما نوقشت إمكانيات ومعطيات أي منها في دراسات سابقة (كتاب: المسألة السورية ومرايا الجيوبوليتيك الدولي، الصادر عن ليفنات- مصر 2021)، والتي أفادت سياقات الحدث السوري بتعدد مراحل الثورة وانتقالها من السلمية للعسكرة، ومن ثم للتدخلات الإقليمية والدولية الواسعة، هذا إضافة لتمدد وتوسع مساحات الثورة سلمياً وعسكرياً، ولكن لم تأت أي منها بنتيجة تحسم المسألة السورية. وهذا ليس سوى مؤشر واضح على أهمية المعادلة السورية في المنطقة، والتي استدعت هذا الحجم الهائل لشتى صنوف التدخل في مساراتها، سياسياً وعسكرياً. وبالضرورة لم يكن من الممكن الحسم النهائي بأن فرضية بعينها خطأ أو صواب بالمطلق، بقدر القول عنها جميعاً أنها فرضيات لم تكتمل شروطها الموضوعية تماماً. فالسلمية رافعة هامة وأساسية في الثورات، ولكنها لم تتمكن من التغيير السياسي لمواجهتها بالعنف العسكري شديد الوطأة. والعسكرة أيضاً استدعت تدخلات إيرانية وروسية وقوى التحالف الدولي، وما رافقه من تنامي التطرف وحرب الميليشيات الطائفية التي خرجت بجُماعها عن سياق الثورة واسقاط النظام أو التغيير السياسي. كما أن دخول العاصمتين دمشق وحلب، ورغم ما شكلاه من ثقل في المعادلة الثورية، لكن كانت النتيجة عام 2018 هو توقف الحل العسكري وعدم اكتمال المعادلة وقتها بعد تهجير معظم الداخل السوري. وبقيت المسألة السورية معلقة حتى تيسرت لها الشروط الموضوعية دولياً واقليمياً ومحلياً بإنهاء هذا النظام والدور الإيراني في المنطقة والدخول لدمشق بأقل التكاليف العسكرية والمدنية الممكنة.

الأسئلة السورية المتباينة هذه افصحت عن نفسها وتكامل شروطها العامة واعتلال الفرضيات السابقة بقدرتها عن الإجابة القطعية، لكنها اتضحت جلياً في ليلة 8/12/2024:

  • اكتمال المعادلة الدولية والإقليمية على انهاء ورقة النظام السوري ودوره الوظيفي في المنطقة ورفع الحماية التي كانت يتلظى بها منذ 2013 اقليمياً و2015 دولياً.
  • جاهزية السوريين داخلياً للدخول إلى دمشق عسكرياً ومدنياً وإدارياً وملئ الفراغ الذي تركه النظام المنهار فجاءة. تمثل ذلك عسكرياً بدخول فصائل هيئة تحرير الشام من الشمال السوري قابلها دخول فصائل درعا والسويداء من الجنوب السوري إلى دمشق وانهيار مرتكزات النظام السوري عسكرياً وأمنياً بشكل كامل، وإدارياً باتخاذ قرارات جريئة بانتقال حكومة الإنقاذ من إدلب للعمل كحكومة تصريف أعمال مؤقتة في كامل الجغرافية السورية.
  • سوريا دولة لكل السوريين هي معادلة التظاهر السلمي الذي خاضته السويداء في سنوات الثورة الأخيرة هي المعادلة التي يبحث عنها كل السوريون في مستقبلهم. تجلى هذا في المساهمة في وضع أسس بناء الدولة السورية الناشئة بعيداً عن التفرد في الحكم وضرورة مشاركة الكلية السورية في هذه المعادلة.
  • الحوار الوطني السوري والذي انفتحت بواباته الواسعة في عديد ورشات الحوار المحلية التي استضافتها السويداء بانفتاح واتساع، والتي توجت بمؤتمر الحوار الوطني الذي دعا للدخول في المرحلة الانتقالية سياسياً ودستورياً والعدالة الانتقالية، وجميعها ترجمة جلية للهم السوري العام وخلاصة تظاهراتها السلمية.
  • مواجهة تحديات المرحلة الحالية من الفوضى وتثبيت الأمن والأمان وعودة الضابطة العدلية وسيادة القانون تتطلب المزيد من المسؤولية والتشاركية والتفاهمات المحلية واستبعاد الأجندات الخارجية التي تريد الاستثمار في ضعف وهشاشة الدولة السورية الناشئة، ما يضع السوريين جميعاً أمام أسئلة الاستحقاق والجدارة والفعالية. 
  • فيما أن الجدل المستمر حول مستقبل الدولة السورية وصفاتها، لليوم كان ولازال محط خلاف واسع محمول على جملة من التوجهات الأيديولوجية والمحمولة على الرغبات والأماني، متجاوزة فكرة التعاقد الوطني وكيفية الوصول لها خلال المرحلة الانتقالية بالمبدأ وانتخاب هيئة تأسيسية لصياغة دستور سوري لجمهوريتنا الثالثة يحسم الجدل في مواضع الخلاف السياسية ويذهب للتوافق الوطني العام تعاقدياً.

في العودة لمعادلة السويداء، تأخرتم! وتأخرتم سؤال يبدو اشكالي في ذاته، فبعضه أمانٍ لاستعجال الحل السوري كما كان حول دمشق وحلب، ولكن في موقع آخر سؤال القنوط والتهكم! لكن السويداء لم تتأخر عن المشاركة في الثورة السورية، بل شاركت فيها ولكن وفق رؤيتها الخاصة وبفاعلية هامة هو تحريم القتل والقتل المضاد. أما وإن شارعها الشعبي لم يتظاهر بشكل واسع ضد النظام إلا في لصيف 2023، فهذا الوصف هو تقطيع في الأوصال السورية، وعدم القدرة على رؤية مشهد المسألة السورية من كامل جوانبها، واختزالها في طائفية الثورة وحسب، وهو قول يجافي حقيقة أنها ثورة لكل السوريين. فالثورة السورية ولكونها مفصل رئيسي في معادلة الربيع العربي، وكيفية استقرارها والشكل الذي يمكن أن تصل إليه، سيغير وجه المنطقة برمتها. أضف لكونها ثورة جذرية تعددت مساراتها ولم تقتصر على السياسية والعسكرية منها وفقط، بل اجتاحت البنى المجتمعية كافة، وخاضت في معترك متعدد المستويات سواء على مستوى السلطة السياسية والسلطات الدينية والأهلية والأبوية، واتسعت لمساحات الجدال الفكري والثقافي، والذي سبق ووصفته بكتاب “التحولات الكبرى والمسار الشاق” الصادر عن ميسلون صيف 2023. وبالضرورة كانت ولم تزل المسألة السورية معادلة محلية وإقليمية ودولية متراكبة عنوانها الأبرز اليوم: الاستقرار والسلام والاعتدال.

استقرار سوريا والمنطقة برمتها، والسلام ودفع محفزات الحرب والاقتتال الذي أدى لكارثة سورية كبرى ومثلها إقليمية جسيمة، والاعتدال يعني الحكم دون غلو أو تشدد سياسي أو أيديولوجي أو ديني أو مذهبي، وهي معادلة وعنوان ساحة الكرامة في السويداء المتتالي يومياً: دولة الكل الاجتماعي، دولة الحق والقانون، دولة لكل السوريين.

  • خاتمة: الحوار الوطني وأسئلة السويداء:

المعادلة التي تحاول الاكتمال اليوم سياسياً واجتماعياً وثقافياً والدخول في المرحلة الانتقالية فعلياً. اذ تمر سوريا اليوم بمرحلة حرجة وحساسة ومؤشرات الخطر فيها كبيرة أهمهما:

  • الشروخ العامودية التي خلفتها سنوات الاقتتال الدامي والتي نتج عنها التشنج الطائفي ومسببه الأساسي النظام السابق والتطرف الدخيل على البنية المجتمعية السورية، الامر الذي يتطلب تطبيق العدالة الانتقالية ومحاسبة رموز النظام السابق وتقديمهم للعدالة.
  • المشكلات الأمنية والخدمية والاقتصادية التي تعاني منها سوريا الناشئة كنتيجة لتركة النظام السابق بعد سلبه ونهبه مجمل مقدرات الشعب السوري، الامر الذي يتطلب تشكيل حكومة انتقالية قادرة على التعامل مع هذه الملفات بحرفية ومهنية، وتستجيب لمتطلبات المجتمع الدولي والعربي في الاعتدال والتوازن وتحقيق العدالة لرفع العقوبات عن سوريا كمقدمة لإعادة إعمار.
  • التمايزات السياسية والمجتمعية التي لم تتحقق بعد فيها مفهوم المواطنة والمساواة بين جميع السوريين من حيث الحقوق والحريات بكافة أشكالها، ما يتطلب اعلان دستوري واضح المعالم يفيد المرحلة الانتقالية ويؤسس لدولة لكل السوريين. وليس فقط، بل انتخاب هيئة تأسيسية لصياغة الدستور الدائم للبلاد خلال مدة محددة تنتهي بنهايته المرحلة الانتقالية والدعوة لانتخابات تشريعية عامة.

تبدو سوريا اليوم حالة تشتت وفوضى عامة وهي نتيجة طبيعية لارتدادات الثورات في التاريخ، وتبدو مشاركة السويداء فيها في هذا السياق مشاركة يفترض بها الفاعلية والمبادرة. فمبادئ التظاهر السلمي الذي عاشتها قبل سقوط النظام هي مبادئ سورية عامة يطلبها الشعب السوري. ما يتوجب عليها وعلى جميع السوريين الحوار الجاد والبناء حول معظم الإشكاليات والتحديات التي تواجه المرحلة الحالية وأهمهما:

  • الانفتاح بالحوار الوطني حول حرية التدين والإيمان دون فرض أو إكراه أو تكفير وألا تشكيل ضرراً على المجتمع، وهذه مسألة دستورية واجبة.
  • قبول الاختلاف والتنوع واحترام الآخر بذاته، وهذا ضرورة ثقافية وعصرية عامة وقيمة معرفية وجدت بمعظم ثقافات العالم الحي الدينية منها والزمنية، وحديثاً أسست للديموقراطية والتعددية في بناء الدولة والاستقرار.
  • المساهمة في عمليات البناء المجتمعي والسياسي والدستوري بالحوار المنتج والابتعاد عن الغلو في الطروحات المتعلقة بالشرعية الثورية لأي طرف من الأطراف.
  • حسم خيارات الهوية الوطنية وكبح لجام التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري، مع التأكيد على العمق العربي في بناء سوريا واستقرارها، وهذه مسؤولية وطنية عامة بلا استثناء.
  • تحتاج مفاهيم كالأكثرية والأقلية لتغيير فحواها ومضمونها والانتقال بها من سمات المجتمعات الأهلية، ما قبل دولة، على أساس العرق والطائفة، إلى سمات سياسية تترجم انتخابياً وبشكل ديمقراطي. وهذه مسؤولية النخب السورية والمجتمع المدني الناشئ في توطينها تدريجياً مع الزمن.
  • الاستفادة من تجربة السويداء الثورية بالتكامل بين الشرائح الشعبية بتعددها والنخب الفكرية والسياسية والقيم المجتمعية العامة كرافعة قيمية تدين الفتل والعنف والتمسك بالسلمية والحوار ونفي أي احتمال لعودة العنف أو احتمال اللجوء لحل العوائق السورية بلغة السلاح كما فعل النظام السابق.

السويداء جزء من رئيسي لا يتجزأ من سوريا ومن المعادلة السورية، لم تزل لدليها مخاوفها التاريخية سواء من السلطة السابقة او من التطرف الديني العام، لكنها منفتحة على الحوار والتوافق الوطني العام. وتملك رصيداً وطنياً وعمقاً عربياً تاريخياً واسعاً، عليها أن تستثمره في المعادلة السورية الحالية والمساهمة في عملية بناء مؤسسات الدولة من جديد، سواء القضائية أو القانونية أو الدستورية والمؤسسات التي تحفظ أمن المواطن كالشرطة والضابطة العدلية. فيما أن تلك المشاريع التي تطل بين الفينة والأخرى المتعلقة مرة بالانفصال أو بالإدارة الذاتية وتتجاوزها للفيدرالية فهي مشاريع قصيرة النظر سياسياً ومادياً وليس لها حاضنة اجتماعية أو وطنية، لكن التركيز الإعلامي عليها وتروجيها من جهات خارجية تجد لها بعض حوامل محلية يظهرها وكأنها عمومية، فيما أن المحتوى العام والتاريخ والسياقات الحالية تظهر خلاف هذا كلياً. وتتبدى مشكلة سوريا التاريخية لليوم هو نظام الحكم وتجربة الاستبداد المريرة والكارثية هي التي تجعل المخاوف تزداد سورياً ومنها في السويداء والأقليات الأهلية بعموم سوريا. اذ لم تزل هذه النقطة مثار جدل سوري واسع لا يقتصر على السويداء وحسب بل هاجس سوري عام وطني يمكن الإجابة عليه بالحوار والحوار الوطني العام. وخلاصته المتوقعة والمنتظرة سوريا دولة لكل السوريين.