هرب الأسد! وبقي علينا بناء دولة المواطنة

أنور بدر

رئيس تحرير أوراق

التغيير الذي حصل في سوريا لم ولن يكون حدثا عابرا بالنسبة لسوريا وللسوريين مهما اختلفت أو تباينت آراؤهم ومعتقداتهم، بل سيكون هو حدث مؤسس لما بعده بالتأكيد، وتحديدا بعدما قطع مع “الأبد الأسدي”، الذي حوّل سوريا من وطن إلى مزرعة ألحقت بآل الأسد لتصبح سوريا الأسد، وتورّث بصفتها ملكية خاصة من جملة ممتلكاتهم المنهوبة، عبر عقود من الاستبداد التي سبقت 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.  

ففي ذلك التاريخ انكسرت حلقة “إلى الأبد” التي صنعتها تلك العائلة، فسقط الصنم ونظامه وهرب الوريث وسلالته، دون قتال حقيقي أو معارك عسكرية، حتى أنّ العالم أجمع يتساءل أين ملايين أعضاء حزب البعث الحاكم ومعهم قائمة ليست قليلة من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية؟! بل كيف تلاشى جيش النظام الذي صمد لأربعة عشر عاما من الحرب ضد شعبه فدمّر وفتّت الوطن الموكل بحمايته؟! وكيف تبخرت معه كل الميليشيات المحلية والمستوردة من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، وتطول القائمة بمسمّيات وانتماءات تتبع كلها بشكل أو بآخر لإدارة وتمويل وإشراف الحرس الثوري الإيراني؟! 

يُعلّمنا التاريخ أن هذا هو مصير كل أنظمة الاستبداد الشمولي التي تنهار دفعة واحدة كأحجار الدومينو، هكذا انهار الاتحاد السوفيتي السابق وغيره من الإمبراطوريات الأيديولوجية والشمولية، حيث تَفضح آلية سقوطها هشاشة تلك البنى وزيف ادعاءات القوة وكذب الشعارات التي تملأ الفضاء العام، فحزب البعث الذي رفع شعار “وحدة *حرية * اشتراكية”، هو ذاته الذي ساهم بتمزيق الجغرافيا السورية باسم الوحدة العربية، وقمع الشعب السوري وسلب كل حقوقه باسم الحرية، ونهب ثروات البلاد وأفقر السوريين باسم الاشتراكية، وفي المحصلة استبدل آل الأسد الدولة بالسلطة الأمنية المستبدة وغرقت الدولة في مستنقع الهشاشة، وعند أول فرصة سانحة هرب الأسد الصغير وعائلته بكل ما استطاعوا نهبه من أموال السوريين، فتبخر الجيش وأجهزة الأمن، كما تبخرت الميليشيا الطائفية بكل مسمياتها، لتتأكد مقولة أنه مهما طال الزمن فالاستبداد زائل والشعب وحده الباقي.

أهمية انكسار “الأبد الأسدي” أنه فتح المستقبل أمام سوريا الجديدة، التي ضحّى السوريون كثيرا من أجل ولادتها، قبل انتفاضة/ ثورة أذار 2011، وخلالها، تضّحيات من أجل الحرية والكرامة وبناء دولة المواطنة والقانون، تضحيات ترافقت بالكثير من الآلام والخيبات والخسائر أمام تعنت الطاغية الأسد الصغير، والذي أمعن في إذلال السوريين وتدمير عمرانهم وعلاقاتهم الاجتماعية طيلة 14 عاماً، مما خلّف لنا بلدا مُمزقا وشعبا مُفقرا وكارثة ملايين السوريات والسوريين الذين قُتلوا أو غُيّبوا في سجون الاستبداد أو هُجّروا من ديارهم كنازحين بعيدا عن بيوتهم وأملاكهم أو كلاجئين في أصقاع العالم، دون أن ننسى الخراب الأخلاقي وتعميم الفساد في شتى المستويات الاقتصادية والادارية والقانونية.

لذلك من الطبيعي أن تحمل هذه الولادة الجديدة الكثير من إرث السنوات العجاف للاستبداد البعثي، وليس من باب التبرير، بل من باب ربط النتائج بأسبابها، وهو إرث لم يقتصر على الإفقار والتهميش والتميّيز والقتل والتشريد والتطييف فقط، بل طال منظومة القيم والأخلاق وتشكّل مظلوميات عدة، وانتماءات متباينة لهويات صغرى أو كبرى دخلت كلها بصراع مع الهوية الوطنية لسوريا، حتى أصبحنا سوريات عدة وشعوبا متباينة، وهذا جَعلَ أي تغيير في سوريا شبه مستحيل بخسائر أقل ممّا شهدناه حتى الآن، دون أن تكون تلك الخسائر مبررة أخلاقيا وإنسانيا وقانونيا، خاصة وأن هنالك أطراف دولية وإقليمية وصراعات مستمرة على صعيد المنطقة ككل ونحن في القلب منها تأثرا وتأثيرا.

وربما يدفع هذ أهل الانتفاضة/ الثورة التي انطلقت في آذار 2011 أو بعضهم، للشعور بتهشّم الأحلام التي عاشوها وانكسار الآمال التي توقّعوها بالنسبة لسوريا المستقبل كدولة ديمقراطية تبنى على الحريات وحقوق المواطنة المتساوية، وهو شعور حُمِّل على كل ما عانوه وما ضحّوا به خلال 14 عاماً.   

وإذ نتشارك مع أغلب السوريين هذه المشاعر، إلا أننا نؤكّد أولا أنّ ما نحصده الآن من أخطاء ومظلوميّات شتى هو نتاج ما زرعه نظام البعث عبر عقود الاستبداد السابقة، حين أباح الجغرافيا السورية أمام داعميه للاستثمار في أرضها وثرواتها وفي سكانها وعقائدها تخريبا وتتطيفا.

وثانيا أنه لا توجد في التاريخ ثورة أو تغيير ناجز في لحظة دحر النظام السابق، ولنا في الثورة الفرنسة الأشهر في التاريخ دروس في التحولات المتعددة والأطوار التي مرّت بها، لتنتهي إلى مقولة “أنّ الثورة تأكل أبناءها”.

لذلك أكّدنا منذ بدايات التغيير في سوريا، ضرورة أن نسارع جميعا كسوريين للمساهمة به وبرسم مساراته، باتجاه دولة المواطنة والقانون مهما بدا الطريق صعبا وشاقا، ومهما كان تأثيرنا قليلا، فهي خطوة تمتلك مشروعيتها وأهميتها الآن وحتى تحقيق أهدافها، طالما أن السوريين امتلكوا هوامش التعبير عن مخاوفهم، وهي ميّزة حُرِمنا منها في زمن الطغيان الأسدي، كذلك امتلكوا هوامش التنظيم واستعادة الحقل العام السياسي والمدني بشقيه الاجتماعي والنقابي، بعد عقود من احتكار سلطة البعث للمجال العام، باعتباره عنوان استبدادها الذي لخّصه الأسد الأب ضمن معادلة “الراعي والرعية”، وهي معادلة لا تنتج مواطنين، ولا تنتج شعبا، لذلك مَضتْ أعمارنا طيلة تلك الحقبة ونحن مجرد أفراد في قطيع الرعية الذي يَسوسه الراعي بعصا الديكتاتورية الغليظة، وبَقينا كأفراد سوريين خارج التاريخ وخارج المواطنة، والآن علينا استعادة الحقل العام في بلدنا بالمعنى السياسي والاجتماعي كي نعيد انتاج أنفسنا ككتلة تاريخية بصيغة الشعب، ولنصبح مواطنين في دولة القانون والمساواة.  

هذه الطموحات لن تتحقق دون ردم الهوة مع الماضي البغيض لإرث الديكتاتورية الأسدية، وأول خطوة في هذا الطريق تبدأ من “العدالة الانتقالية”، وضرورة إنشاء ألية خاصة بالحالة السورية ووضع سياسات فعالة لملاحقة وعقاب كل المجرمين والقتلة الذين استباحوا الدم السوري، كي نحمي البلد والسوريين من فكرة الانتقام والثأر البدوي، فللدولة وصايتها على الجميع، وهذا يُسهم بالحفاظ على استقرار المجتمع وعلى حدة بلدنا وحريته وكرامته.

ولا يجب الاكتفاء بوضع مسارات للعدالة الانتقالية في مجتمع متنوع كسوريا، بل لابُدّ من وضع آليات موازية لإدارة التنوع المجتمعي بدلالاته المتعددة، التعدد الثقافي والقومي والعرقي والديني والطائفي، والتي تتسع مساحتها في بعض الدول لتشمل المهاجرين والملونين والتفرقة على أساس الجنس أو السن أو الإعاقة، وربما تكون سوريا وبلدان المشرق العربي عموما، من أغنى دول العالم بالتعددية في شتى المجالات السابقة، مع الإشارة إلى أن أنواع التعدد القومي والعرقي واللغوي والديني وحتى الطائفي ليست حكرا على سوريا أو مجتمعاتنا العربية فقط، فالطوائف ظاهرة تاريخية موجودة في أغلب المجتمعات وداخل كل الأديان السماوية، وكذلك الإثنيات نجدها في كل المجتمعات تقريبا، وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية في هذا الحقل أن هذا التنوع قد يشكل أداة لتدمير المجتمعات، في حال لم تهتم أنظمة الحكم بإدارته بشكل جيد، لكنه يُمكن أن يكون أداة غنى وتطور في حال أديرت بشكل يبتغي المستقبل الأفضل، بدل البقاء في قبو الماضي المظلم، فالإدارة الناجحة للتنوع المجتمعي تساعد على جني ثمار التنوع الإيجابية أسوة بالديمقراطيات الحديثة، التي نجحت بتحويل التعددية من سياق الصراع والتنابذ إلى آليات إغناء للمجتمع ككل، في المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. مع التأكيد أنّ تلك الإدارة هي مسؤولية سلطة الدولة، وهي السلطة السورية في حالتنا العيانية، لكنّها لن تحرز النجاح دون تعاون المجتمع المدني معها للسير باتجاه مشروع دولة المواطنة المتساوية والديمقراطية، التي تؤكد حيادية الدولة تجاه عقائد وانتماءات مواطنيها.

وقد باشرنا في رابطة الكتاب السوريين مع العديد من منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والروابط الثقافية العمل في سوريا منذ بدء التغيير، وندعو كل منظمات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب، إلى احتلال موقعها الطبيعي والمستقل عن السلطة السياسية والحكومة، لتمارس دورها الرقابي ودورها التنموي في هذه المرحلة الانتقالية باتجاه إنتاج مجتمع حر ونظام ديمقراطي تكون فيه الدولة على مسافة واحدة من الجميع.

أعلى النموذج