العبور من النص إلى الواقع والمسكوت عنه في ثقافتنا
أنور بدر
رئيس التحرير أوراق
“اسمي زيزفون” هي الرواية السادسة للصديقة والكاتبة الدكتورة سوسن جميل حسن، التي التقيتها أول مرة في مهرجان العجيلي للرواية العربية في مدينة “الرقة” في كانون الأول/ ديسمبر 2010، والذي كان يُقيمه مدير ثقافتها حمود الموسى، مع كثير من الأنشطة الأخرى التي جعلت من الرقة مساحة مميّزة للثقافة في سوريا، قبل أن تُميّزها داعش بجعلها مركز خلافتها الإسلامية منذ بداية عام 2014.
وما بين هذين التاريخين بدأت انتفاضة السوريين/ ثورتهم أو صحوتهم ضدّ نظام الأسد المستبد والفاسد، وانقسم السوريون كما انقسم مثقفوهم بين من انتمى لناسه ولحركة التاريخ والشعب، وبين من خشي سطوة النظام وبطش أجهزته الأمنية فاستكان لواقعه أو صدق سردية النظام حول المؤامرة ضد سوريا، وفي النهاية نعرف كلنا ما حصل في المقتلة السورية من تدمير سوريا وقتل وتهجير السوريين وضياع الأحلام.
حين التقيت الدكتورة الحسن عام 2010، كانت تملك في منجزها الأدبي روايتين فقط، هما “حرير الظلام” و”ألف ليلة وليلة”، والآن امتد رصيدها إلى سبع روايات([1])، تركت كلّها بصمة مميزة في المشهد الروائي السوري والعربي، الذي تغير كثيراً في ضوء التحولات الدراماتيكية التي لحقت بسوريا والسوريين عموماً ومثقفيهم أيضاً، حيث هُجّر أو هاجَر أغلب هؤلاء المثقفين والكتاب، كما خاضوا في تجارب شخصية وإنسانية ومعرفية بالضرورة، أثّرت في طبيعة نتاجهم الذي بدأ ينوس بين تسميات أدب اللجوء وأدب المنفى وصولا لأدب الحرب، دون أن تغادر سوريا أبجديتهم وانشغالاتهم، هم ومن بقي من مثقفين وكتاب في سوريا، مع سمة أساسية لأغلب هذا المنتج الأدبي، تكمن في إعلاء قيمة الحرية مقابل الاستبداد الذي قاد سوريا والسوريين إلى أكبر مأساة إنسانية منذ نهاية الحرب الكونية الثانية.
هل هي مجرد صدفة أن المحور النقدي لمهرجان العجيلي للرواية قبل ثلاثة أشهر على اندلاع انتفاضة السوريين/ ثورتهم، جاء تحت عنوان “المحظورات في الرواية العربية”؟!
بغض النظر عن الإجابة أعتقد أنها كانت مناسبة ليقول أغلب المشاركين شهاداتهم في التعامل مع هذا المحظور في حياتهم وابداعهم، حيث قالت الروائية سوسن جميل الحسن في شهادتها: “تعودت على الكتمان منذ طفولتي، في البيت كما في المدرسة، كما في الجامعة، كما في العمل. كنت واحدة من تلميذاتٍ يَجلُسن على مقاعد الدرس لصق بعضهنّ، لمهمة واحدة فقط هي التلقي، كل ما يقدم لنا كان مسلمات علينا حفظها من دون طرح الأسئلة، كما في البيت، كانت قائمة المواعظ مفتوحة لا تنتهي، وهكذا حتى صار الصمت هو سمتي الكبرى، والحوار وطرح الأسئلة يستبدان بي في عالمي السري. فكان أول محظور أخترقه، هو سكوتي القسري بفعل سلطات عديدة، ومباشرة أول حوار بيني وبين الآخرين، عن طريق روايتي الأولى: حرير الظلام.”
في تلك الرواية بَنت الكاتبة حكايتها حول شخصية “أعمى” أو كفيف البصر، محاولةً الغوص في نفسية هذه الشخصية وآلية وعيها وطريقة تشكيلها للمعاني والمفاهيم والأشياء، في غياب أي منظور لتحديد الشكل أو الّلون أو الجمال بعيداً عن الدلالات التي تصل عبر الحواس كالتذوق والشم واللّمس وصولا إلى اللّغة وسماع الأصوات وما تحمله من معاني يَجهد الأعمى لتشكيل معادل مفهومي لها في وعيه، غير أنّ الكاتبة اتكأت على هذه الشخصية المحورية وعجزها في الرواية لتُظهر أهمية المرأة في حياته، كما عبّرت في إحدى الحوارات معها: “تظهر المرأة بصورة الأم التي تحبه وتتفهم حالته، وتأخذه إلى منزل العائلة الريفي قرب النهر، ليمارس هواية تشكيل الأجسام بالصلصال، ما نمّى إحساسه بالكتل والقياس الخاص به، وليتعلّم عزف العود، ثم يتزوج وينجب، ويعرض تماثيله في معارض، إلا أنّه يستعيد النظر بعد تطور العلم، ليتفاجأ بأنه متأخر 40 سنة، وليشعر بالوحدة والوحشة، ولا يندمج مع محيطه في المجتمع ونظمه القيميّة، وبأن زوجته التي كان يراها من منظوره فائقة الجمال، قبيحة، ويجد تماثيله بشعة، وأخذت الحواجز تنشأ بينه وبين ابنه، ويحاول العزف فلا يستطيع، ليصاب بنوبة غضب ويبدأ بتكسير كل شيء، العود والتماثيل، ولينتحر أخيراً”.
المرأة الأم والحبيبة أو الزوجة هي العنصر الفاعل في هذه الرواية، وهي التي تدعم شخصية الكفيف وتمنحه المساعدة والحب والولد، لكنه هو نموذج الذكورة في مجتمع تسلطي بات متخلفاً عن الحياة والعصر أكثر من أربعين سنة، لدرجة أنه يُدمّر كل شيء جميل في حياته ثم ينتحر، فهل تكون الذكورة بدلالتها السلطويّة عمياء في مجتمعنا، ومستعدّة في نوبات غضبها لتدمير كل شيء كما فعلت لاحقاً؟
الرواية لا تتحدث عن السلطة، بل اكتفت بتقديم أشخاصاً محدّدين بسمات وأسماء وهويات، ومنحتهم فرصة التعبير عن ذواتهم ومخاوفهم ومشاغلهم بعيداً عن أي تحميل سياسي أو أيديولوجي، لكنّ الأدب ومن خلال كل ذلك يشي بالضرورة بما وراء النّص الثقافي، أو بمجاله العام إن صحّ التعبير، وفق اقتراح الروائي والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، في كتابه “التخلي عن الأدب”([2])، لتتعدى القراءة “إلى الواقع والخلفية الثقافية التي تَشكّل فيها النص أو تُرجم، أو انتقل في حوضها اللغوي من الشفوي إلى المكتوب”، فالحكاية تبدأ في الواقع وتنتهي فيه بالضرورة، وهذا ما يمنحنا تلك القدرة على طرح علامات استفهام بالحد الأدنى في قراءتنا لأي نصّ جيد، دون أن نتعدى على دور الروائي الذي أتاح لنا قراءة نصه وبناء منظورات خاصة بنا لفهم هذا النص، وهو ما يعني قدرة كُل قِراءة وكُل قَارئ على إعادة إنتاج النص أو دلالاته وفق وعيّ وذائقة خاصة بهما، حتى لو لم يكن القارئ ناقداً.
في روايتها الثانية “ألف ليلة وليلة” قامت الكاتبة باستعادة هذا العنوان الأشهر الذي قدمته الثقافة العربية إلى العالم، والذي يَعتبره البعض مدماك الفن الروائي الأول، ومن خلاله استعادت شخصية المرأة الراوية “شهرزاد”، لكنّها لم تكن شهرزاد زوجة الملك شهريار التي تدافع ضدّ موتها عبر الحكاية، بل جاءت شهرزاد معاصرة باسم “ديمة” الصيدلانية التي تعاني من العنف الزوجي، وهي تدافع عن أحلامها الموؤدة في هذه الحياة، أحلام المرأة بالحب والآخر الذي سمّته “مولاي”، تعبيراً عن إرث الثقافة والمخيال الذي عَبرَ مِنَ النّص الأصلي وبعد قرون من الزمن إلى وعي ديمة والتي مازال الواقع يَخذُلها كثيراً، ومازالت المرأة ترزح تحت وطأة السلطات الأبوية المتعددة دينيا واجتماعيا وسياسيا في واقعنا، وهو ما يَمنح شهرزاد المعاصرة مشروعية خوض معاركها من أجلِ مستقبل أفضل لها ولكل النساء وللعالم.
*****
بالعودة إلى رواية “اسمي زيزفون”، تستعيد الكاتبة التيمة الأساسية لشهرزاد الحكاية، مع شخصية الراوية الأنثى، التي بدأت في “ألف ليلة وليلة”([3]) قبل قرون من اكتشاف غوستاف فلوبير لشخصية الراوي، وفق رأي الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، ناسباً إليه “ابتكار الرواية الحديثة”، مضيفاً “زاوية التركيز دائماً هي عمل الراوي شبه الإله، الذي يُظهر الشخصية أو يخفيها وفقاً لتقلبات القصة المختلفة. ضمن هذا الإطار، يمكن معرفة كل شيء وإخباره، حتى الصمت الحكيم الذي يفرضه الراوي في سياق السرد”([4]).
لكنّ حضور الراوي في منجز الرواية السورية المعاصرة جاء باعتقادي بعيداً عن ابتكار فلوبير، وأقرب إلى الضرورة التي قادت شهرزاد في “ألف ليلة وليلة” كي تبدأ مسيرة السرد دفاعا عن حياتها، فيما جاءت زيزفون “الراوية” تدافع عن حكايتها أو شهادتها على هذا الواقع وضده بذات الوقت، إثر صحوتها من غيبوبة التَبسَتْ مع حالة “الموت الغشاش”، فبدأت مع هذه الصحوة الأخيرة تُسجل عبر دفترها شهادة أو يوميات تشهد على حياتها، والتي جاءت بمعنى ما شهادة على حياة مجتمع وثقافة أجيال من السوريين عاشوا ما بين خمسينات القرن الماضي وبدء انتفاضة السوريين/ ثورتهم أو صحوتهم في آذار 2011. أي لمْ تأتِ من باب الحفاظ على النسب مع شهرزاد الحكاية، بقدر ما جاءت استجابة لشرط الواقع السوري الذي استمرّ من الاستبداد إلى الحرب وأشكال الصراعات القائمة، هذا الشرط الذي ألغي إمكانية الحوار بين الأفراد وبين المجموعات أيضاً، حيث يتحوّل المجتمع بالنهاية إلى مجموعٍ من أفراد وأنوات متشظية ومستقلة عن بعضها البعض، كلٌّ منها يعيش هواجسه ومخاوفه من الآخر ومن الحياة أيضاً، أفراد يكاد يُدمرها الاحساس بالعجز عن بلورة ذاتها ضمن الكيان الاجتماعي الأوسع الذي يُدعى “شعب” أو “مواطنين”.
وهذا ما يُفسر طغيان الرواية السيريّة لدى الكثير من الكتاب السوريين في زمني الاستبداد والمقتلة تحديدا، كاستجابة لواقع غياب مساحة للحوار بين الأفراد وحتى المكونات، فتطغى في رواياتنا وحكاياتنا مونولوجات متشظية، أحالت كلأً منا إلى راوٍ يمتلك حكايته الخاصة، بديلاً عن الديالوغ والتفاعل بين الأفراد والحكايات والأفكار حول ما هو ممكن في مواجهة أزماتنا، ويبدو أن الروائية الحسن سَعتْ ضمن هذا الشرط لإنتاج “راوٍ ديمقراطي” وفق تعبيرها، لا يحتكر الحقيقة بذاته، بل يسمح للشخصيات بالتعبير عن ذواتها عند اللزوم.
تبدأ الراوية إثر صحوتها من الغيبوبة، تُسجل في دفترها ذاكرة طفلة في الصف الثاني الابتدائي، حين أُغلِقت المدرسة وسِيقَتْ مع باقي الطلاب إلى مظاهرة حاشدة أمام السراي الحكومي في مدينة جبلة، حيث يهدر هذا الحشد بشعارات وعبارات لا تفهم تلك الطفلة دلالتها: “يا بغداد ثوري ثوري خلّي عارف يلحق نوري” والمقصود عبد السلام عارف الناصري الانتماء، والذي تحالف مع البعثيين في العراق أثناء انقلاب 8 شباط/ فبراير 1963، لكنه لم يلبث أن اختلف معهم، فأصبح بالنسبة للبعث في سوريا بموقع عمالة نوري السعيد الذي صنع حلف بغداد مع الانكليز وتركيا في شباط 1955، فكيف لهذه الطفلة ونُظرائها من أطفال تلك المرحلة أن يعرفوا تلك التفاصيل ودور هذه الأسماء، أو يعرفوا من هي الرجعية التي يشتمها الخطيب على المنبر وهو يتوعد بالقضاء عليها وعلى “أذناب الاستعمار” أيضا، بينما كادت تلك الطفلة أن تتبول في ثيابها خشية ألا يصل والدها إليها في هذا الزحام ليُعيدها إلى المنزل؟ لكنّها عادت مع باقي التلاميذ عبر عربة ذات ثلاث عجلات تدّعى “طرطيرة”، كانت تقل الطلاب إلى مدارسهم، وتعيدهم إلى قراهم الموزعة في هذا الريف الشاسع.
وقد نجحت الكاتبة بوضع شخصية زيزفون في بيئتها وضمن سياق زمني يتسق تطوره مع تطور هذه البيئة، وتطور كل الأحداث والشخصيات الأخرى في النص، ففي خمسينات القرن الماضي ولدت زيزفون في مكان يُعرف ب “المقص” أو “دكان أم جهيدة”، والمقص تسمية شائعة لتقاطع طرق الريف مع الطريق العام الذي يربط مدينة اللاذقية بالعاصمة دمشق، حيث سكنت أسرتها في بيت صغير من ثلاثة غرف ولاحقا أصبحت إحداهن “دكان أم جهيدة” وخلف البيت أقيم “تنور” لصناعة الخبز، ثمّ تحوّل الدكان إلى استراحة للمسافرين القادمين إلى ريف هذه المنطقة، أو للمغادرين باتجاه مدن جبلة أو اللاذقية أو دمشق، وكما يتطور الزمن من الماضي إلى الحاضر كانت تتطور الشخصيات وتتعدد الحكايات، حيث نعرف أنّ والدا زيزفون هما من عشيرتين مختلفتين من عشائر العلويين، وهذا كان سبب رفض العائلتين لهذا الزواج، ومن ثم نزوحهما باتجاه المقص وتأسيس منزل سيغدو محطة أو استراحة للمسافرين.
يمكننا أن نلاحظ في الرواية الانقسام بين زمنين، الأول هو زمن الكتابة الذي لمْ يَتعدَ أياما أو أشهرا قليلة بعد صحوتها من “الموت الغشاش”، وبين زمن الرواية الذي يمتد منذ ولادة زيزفون عام 1958، بل وعبر الاسترجاع إلى ما قبل ذلك بكثير، لتشكل الرواية تاريخا لمنطقة الساحل السوري منذ تَشكُّل الدولة السورية تقريبا وحتى الآن، وهو بالضرورة تاريخ الطائفة العلوية التي سكنت تلك الجبال في مرحلة ما من التاريخ، وهو تاريخ الانقسام المذهبي في المنطقة بين اسلام سنة وإسلام علويين، دون الحديث عن مكونات وطوائف أخرى، وهذا الانقسام يرتبط بصيغة ما بالتوزع الجغرافي للريف والمدينة وبتداخلهما فيما بعد، حيث يجري الخلط غالبا بين ما هو ديني أو مذهبي وما هو سياسي.
فما يُميّز هذه الرواية أنها مع أعمال قليلة أخرى التقطت بشكل ذكي ومبهر واقع الطائفة العلوية في الساحل السوري، ودخلت في هامش الممنوع أو المسكوت عنه، إذا كان النظام السابق يمنع استخدام كلمة الطائفية مع أنّه لعب دورا رئيسيا بتطّييف المجتمع السوري، ودخول الكاتبة لواقع الطائفية في سوريا، لم يكن معنيا بدلالتها الأيديولوجية والإيمانية، بل باعتبارها معطى تاريخي وثقافي موجود تقريبا في كل المجتمعات وفي كل الأديان أيضا، وعلى مرّ الأزمان، وهي يمكن أن تكون تلوين إضافي ضمن تلوينات وهويات صغرى متعددة في مجتمعاتنا تسهم بغنى هذه المجتمعات ثقافيا اقتصاديا وسياسيا، والتي قد تتحول إلى مشكلة صراعية بين هذه الهويات والطوائف.
فالمشكلة ليست في أي طائفة بذاتها، بل المشكلة في الطائفيّة التي يرى أصحابها أنهم الفئة الناجيّة فقط، ووحدهم من يمتلكون الحقيقة، وكل من عداهم إلى جهنم وبئس المصير، لذلك تدّعي هذه الطائفيّة امتلاكها حق قتال وتدمير وإلغاء ما عداها من طوائف وهويات أخرى، لكنها في هذا السياق تدمّر مجتمعاتها وتدمّر ذاتها ومنتسبيها أيضا، كما حصل للنظام البائد ومحاولاته تطييف المجتمع السوري. إشكالية هذه الطائفيّة بأنها مصرّة على العيش في سرديات الماضي وأساطيره، ولا تهتم بالواقع وشروطه، لذلك تفشل دائما في بناء دولة المواطنة المتساوية والحداثة المنسوبة إلى العصر.
رغم أن هذا الخروج ليس أمرا سهلا بعد ما جرى في سنوات الاستبداد والمقتلة السورية، وقد أشارت الكاتبة لهذه الصعوبة في حوار سابق معها حين قالت: “لا تنتهي الحرب فقط بصمت المدافع والرصاص، إذ بعد هذا الصمت سوف يظهر ما خلّفه الزلزال الكبير وهزاته الارتدادية، هناك وطن مدمّر، مجتمع مشظّى، كيان متهالك، ملايين من السوريين يعيشون في ظروف لا إنسانية، في الداخل والخارج، باكراً رحتُ أرصد التغيّرات المتسارعة التي تحصل في المجتمع وفي حياة الناس، كيف أخذت الحرب تُصدّع كل شيء، على الصعيد الفردي والمجتمعي”([5]).
نعم رصدت الكاتبة هذا الزلزال وهزاته الارتدادية، وهي تستخدم مهارات الطب في تشريح المجتمع السوري بكل فئاته، وبشكل خاص بيئتها هي “الطائفة العلوية” المحسوبة على النظام، الذي جيّش وسعّر كل الانتماءات ما قبل الوطنية، سواء كانت دينية أم طائفية أم قومية وصولا للحساسيات القبلية والعشائرية وحتى التجييش المناطقي أو استغلال حساسيات الريف والمدينة أيضا، لذلك لم تتردد الكاتبة في فضح سياسة النظام واستغلاله الطائفة ومفهوم الأقليات كبيئة حاضنة له في المستويات الاجتماعية والاقتصادية، تلك السياسات التي أدت إلى تفكيك المجتمع بل وحتى الأسرة الواحدة، فأخيها الضابط شعبان لا يتردد بتفجير منزل العائلة لحرمانها من امتلاك البيت الوحيد والصغير الذي بنته بجهدها، مع أنه يملك الكثير من البيوت الفاخرة والعقارات الكثيرة لكنه الجشع، وغياب الاحساس بالمسؤولية تجاه الأخت التي تركت التعليم واشتغلت لتساعد في تعليمه وفي إعالة العائلة بعد عجز الأب ومرض ثم وفاة الأم.
وهي لا تفكك البنية الطائفية بكل دلالاتها وترفضها فقط، بل تفكك البنية الذكورية الطاغية بدلالتها السلطوية المستبدة بدءا من الوالد القابع في عجزه وتردده، واستمرارا بأخيها شعبان وكل الشخصيات المسيطرة في هذا النظام باختلاف انتماءاتها الدينية والجغرافية، حيث تُظهِر نسوية طاغية في شخصيتها وفي منجزها الروائي في مواجهة الثقافة الذكورية التي أنتجت نظريات نقدية ولغة إقصائية تمّ تعميمها لتشكل حاملاً لتقاليد وأعراف المؤسسة الذكورية الاستعلائية.
فقصة الأب الذي رفض ذهاب أليات المؤسسة التي يحرس مستودعها لتشتغل عند أحد النافذين، لا يلبث أن يتلقى عقابا وضربا مبرحا أورثه إعاقة وفصل من العمل، وبعد وفاة زوجته تصبح جهيدة هي المسؤولة عن رعايته، ومع ذلك وتمسكا بالتقاليد البالية يرفض أن يورث ابنته أي شيء، هي التي ضحت وما زالت تُضحي بكل شيء للاهتمام به!
أرادت زيزفون أن تقول لنا أن الاستبداد خَانَةٌ تَضم كل المنتفعين منه، وبغض النظر عن خلفيتهم الدينية أو المذهبية، فعبد الجليل هو الذي وشى بحمّادة وغيبه داخل السجن، مع أنهما محسوبان على ذات الجهة الطائفية “السنّة”، فيما الشيخ أديب هو الذي شيّع على زيزفون علاقتها بالأستاذ “عابد” القادم من دمشق، وعرضها لفضيحة اختبار الشرف وفق تقاليد المنطقة عبر المرور من فتحة في جدار “مزار أبو طاقة”، لكنها ورغم شهادة البراءة التي حصلت عليها، أصرّت لاحقا على إحراق “مزار أبو طاقة” بكل دلالته المقدسة، فتخبرنا: “أنا زيزفون التي خلعت عنها جلد جهيدة، نعم حرقت المزار أبو طاقة في تلك الليلة الخريفية”.
سْعيّد ابن القرية والذي رفض الإذلال الذي تعرض له في الكلية الحربية، وسُجِن ثم سُرِح بدعوى الاختلال العقلي، وينعته كثيرون بالمجنون، اكتشفت زيزفون مؤخرا مع اندلاع انتفاضة السوريين/ صحوتهم ونزول الجموع إلى الشارع تطالب بالحرية والكرامة، أنّه الحب الوحيد لديها كان أبا ومرشدا ومعلما منذ أن أفلتَ كلابه على شيخ المقام لإنقاذها من خدعة “مزار أبو طاقة”، لكنه في النهاية وجدّ مقتولا مع كلابه بالرصاص الحي في البرية!
ويبدوا أن الراوية اهتمت بكل الشخصيات المهمشة في بيئتها، وكان في طليعتهم مْنيّر الذي يقضي وقته في البراري يصطاد الأفاعي من أوكارها، لكنه في أوقات الجَدْ تراه مدركا للكثير من التفاصيل، بل يمكن أن يساعد في القضايا المهمة كالتستر على أبن الأستاذ “عابد” الدمشقي، والذي لم يجد مكانا يختبئ فيه من المقتلة إلا قرية “المقص” عند زيزفون، وبمساعدة مْنيّر، والذي أمّن له طريقا للفرار خارج سوريا. ومْنيّر هو الذي يُخبرها أن أهل القرية كلهم رفضوا الذهاب إلى تعزية أخيها شعبان في قصره بوفاة والدهما، فيما هم جَاؤُوا إليها معزين.
في الكتابة حول الرواية والأدب عموما نواجه دائما مستويين للقراءة، الأول يتعلق بالحكاية أو القصة التي يسعى الكاتب/ة ليرويها لنا، وبالأفكار والقيم والمفاهيم التي يجري العمل في مناخاتها أو التفكير من خلالها، والمستوى الثاني يتعلق بالأسلوب وكيفيّة عمل الكاتب/ة على صياغة الأفكار أو محاولة توصيلها إلى القارئ/ة، وكنت دائما أتمنى أن لا يسرقنا الاهتمام بالمستوى الأول ونقاش الأفكار، من الاهتمام والتفكير بالمستوى الثاني للنص باعتباره الحامل لتلك الأفكار، كمبنى وأسلوبية ولغة وشخصيات وأحداث تنوس كثيراً بين الواقعي والمتخيل والعلاقة بينهما، وتُسهم بطريقة أو بأخرى بإعادة تشكيل الموقف من الموضوع.
وها نحن الآن، وبعد قرابة أربعة أشهر من سقوط نظام الفساد والاستبداد البعثي، ومحاولات إعادة تشكيل سوريا المنهارة اقتصادا واجتماعا، والمنهكة نتيجة صراعات وانتماءات وهويات صغرى وكبرى، نشهد بروز تناقض مهم بين من يحلم بدولة المواطنة والحريات الديمقراطية، وبين من لا يستطيع التفكير خارج إرث المظلوميات التي رعاها النظام البائد كثيرا لتسهم بتأبيد سلطته من خلال تطييف المجتمع وتجزئته، وبالتالي عرقلة تطوّره وتحديثه، ولذلك أجد ضرورة التوقف مليا مع المستوى الأول دون إهمال المستوى الثاني والأهم لقراءة الرواية، إذ أشعر الآن أنّ هذه القراءة باتت ضروريّة في سياق الجدل الدائر في حياتنا بين ما كان وما يُمكن أن يكون، متشجعا بموقف كيليطوا لطرح أسئلة جديدة تتعلق بالضرورة “بما وراء النّص الثقافي أو بمجاله العام إن صحّ التعبير”، حيث اشتغلت الكاتبة على فضح سياسة النظام واستغلاله الطائفية باسم الطائفة ومفهوم الأقليات كبيئته حاضنة له في المستويات الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، تلك السياسة التي نجحت بتفكيك المجتمع بل وحتى الأسرة الواحدة.
والحسن لم تهتم في هذه البيئة التي التقطت تفاصيلها بفضح الطائفية التي اشتغل عليها النظام بل اشتغلت بشكل موازي بحثا واهتماما بكل الهوامش في تلك البيئة وفي مستوى الشخصيات، لتبرز كل ما هو مضاد لتلك الثقافة الذكورية المسيطرة في مستويات المقدس والجنس واللغة أيضا، ولا تتردد بكشف دوافعها للكتابة، حيث تقول: “سأعيد حكاياتي على كل النساء اللواتي يسكنّ داخلي، على كل واحدة ظنّوها تعيش خيبتها وهي التي كانت تضحك من خيباتهم”.
([1]) – صدر للكاتبة السوريّة سبع روايات بالترتيب:
1- “حرير الظلام” دار الحوار ط1 2009، ط2 2011.
2- “ألف ليلة في ليلة” الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2010.
3- “النباشون” دار الآداب عام 2012.
4- “قميص الليل” دار نون للنشر في الإمارات العربية المتحدة عام 2014.
5- “خانات الريح” الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة: إبداع عربي عام 2018.
6- “اسمي زيزفون” 296 صفحة، دار منشورات الربيع بالقاهرةط1 2022.
7- “وارثة المفاتيح” 230 صفحة، منشورات دار الربيع، ط1 2025.
([2]) – “كيليطو، عبد الفتاح” “التخلي عن الأدب”، مشورات المتوسط – إيطاليا، ط1 2022.
([3]) – عبد الله بن المقفع، “ألف ليلة وليلة”، مطبعة بولاق الأميرية في مصر، ط1 1860م.
([4]) – حسين جرود، “ماريو بارغاس يوسا: كلُّ الأشياء ممكنة؛ الشباب الأبديّ لكتابة فلوبير”، مكتبة تكوين، رابط:
([5]) – بسام جميدة، حوار مع الكاتبة في جريدة عُمان، 02 حزيران/يونيو 2023. رابط:
Leave a Reply