“ثم جاء الليل، وكان الليل الأخير. من نافذتي في فندق ’سيسيل‘ وقفت فترة طويلة أتأمل الخليج وطريق النزهة، والسماء التي كان يضيئها بين الحين والآخر خط ضوء آت من المنارة. كان المشهد يعيد لذهني أحلى الذكريات، والبحر كان صاخباً وعتماً، وفي لحظة رحت أهيء حقائبي ثم نمت”. في عام 1933 كتب فرانسيس كاركو هذه الفقرة البسيطة الهادئة في كتاب رحلاته، وهذه الفقرة هي التي اختارها محرر كتاب فخم صدر قبل ربع قرن من الآن عن “فنادق الشرق” ليختم بها الكتاب. اختارها للخاتمة، لأنها تحمل في طياتها، وبين ثنايا سطورها القليلة، كل ذلك الألق الذي صنع علاقة الكتاب والرحالة الغربيين بالشرق، ولا سيما حين كان جزء كبير من ذلك الشرق يخضع لهيمنة حكوماتهم، وبالتالي يعتبر أماكن تجوال وترحال مشروعة.

توابل وثياب مزركشة

في ذلك الحين كان الشرق لا يزال شرقاً، وكانت الدهشة لا تزال دهشة، وربما يمكن القول أيضاً إن الكتابة كانت كتابة. لم تكن انتشرت بعد وسائل النقل المتطورة، ولا جرى اختراع “السياحة الهمجية”، ولم تكن التلفزة راحت تنقل في كل يوم وفي كل ساعة، كل تلك المشاهد التي من بعد ما كان لها غموض السحر صارت جزءاً من الذاكرة البصرية اليومية، ولم تعد الدهشة دهشة. في ذلك الحين كان السحر يقود الخطى والطريق، من أسمنت الغرب وزجاجه، إلى عبق الصحارى ومدن الغموض وروائح التوابل والثياب المزركشة، ولكن في ذلك الحين أيضاً كانت الستارة بدأت تنسدل، وأحرف كلمة “النهاية” تقترب. اليوم، لم يبق من كل ذلك الشرق سوى بقايا، وفي أحيان كثيرة لم يبق منه سوى النصوص والصور، والعبارات المبثوثة هنا أو هناك، تجمع في “انطولوجيا” أو تحول إلى أفلام، أو تصبح جزءاً من الشعر أو من المتاحف أو من المعارض الدورية. الذين اخترعوا ذلك الشرق، عرفوا كيف يأخذونه من مكانه ليجعلوه جزءاً من مكانهم. ومنذ ذلك الحين، راح ذلك الشرق يطلع عينه بين الحين والآخر، على شكل كتاب يدهش، أو فيلم يفاجئ، أو لوحة تبهر العين، أو يطلع في تأثيراته في الكتاب والفنانين. والكتاب – الألبوم، هو الشكل الأكثر حضوراً في مثل هذه الحالة، لأن الكتاب الألبوم يجمع ذكريات الشرق، نصاً وصورة، ويجسدها في تضافر هذين العنصرين، ليقول الحنين مرسوماً على الورق حروفاً وخطوطاً وألواناً.

cecil ap.jpg

واجهة فندق “سيسيل” في الأسكندرية (أ ب)

عبر ثقب الباب

من كتب الحنين هذه، كتاب “فنادق الشرق” هذا الذي نتحدث عنه هنا، انطلاقاً من كونه ينظر إلى الشرق، ولكن عبر “ثقب الباب”. وثقب الباب هنا هو الفندق، – تلك “الردهة” ANTI / CHAMBRE بالاستعارة من كلام رولان بارت على مسرح جان راسين – المكان الذي يظل فيه السائح قاعداً في غربة، على رغم حضوره في وسط الشرق، الذي ينطلق منه في رحيله اليومي المغامر إلى أزقة الشرق وصحاريه ووديانه وعالمه اليومي الساحر المخيف. في الفندق يعيش السائح أمانه اليومي، وانتماءه إلى غربه الأصلي، لأن الفندق، كالسفارة، وكالمطار، ولكن بصورة أكثر عمومية من الأول، وديمومة من الثاني، هو الملجأ من سحر اليومي الغريب. الفندق هو المكان الذي ينام فيه السائح الجوال في ليله بعد تجوال نهاره، ويطفق يحلم بما فعل اليوم وما سيفعل غداً، وفيه يكتب مذكراته اليومية، ويلتقي بالغربيين مواطنيه فيحدثهم عن السحر المحيط، أو عن حنينه إلى الوطن أو عن حبيبته، أو عن أي شيء يهم أو لا يهم. فحديث الفندق، ليس في الحقيقة، إلا خط العبور من الحدث إلى الحدث، مما تراه العين وتسمعه الأذن، إلى ما سيرى وسيسمع، ومن هنا كان للفندق دائماً سحره الخاص به. سحره المختلف عن سحر الشرق: إنه أشبه بـ”الهرمافروديت”، ذلك الكائن الواقف بين بين: لا هو بالشرق ولا بالغرب، يحمل جزءاً من غموض الاثنين في آن معاً.

الحنين موضوع خاص

كتاب “فنادق الشرق” يجعل من هذا الحنين والغموض موضوعه الخاص، مستخدماً في ذلك عشرات الصور، القديمة والحديثة، وعشرات النصوص ذات الأطوال المتفاوتة، وهو يستخدم الصور والنصوص والأفكار والرسوم واللقطات الكبيرة حتى لأصغر التفاصيل، ليروي لنا حكاية تلك الأماكن، من بيروت إلى القاهرة، ومن مراكش إلى طوكيو، ومن حلب إلى بومباي، ومن القدس إلى بغداد فهونغ كونغ وما بعدها. ذلكم هو الحيز الجغرافي الذي يتجول فيه الكتاب، في مقابل حيزه الزماني الذي يمتد من أواسط القرن الـ19 إلى نهايات القرن الـ20، إذ لا يزال ثمة وجود لبعض الفنادق التي اكتسبت مع الزمن طابعاً أسطورياً: “سان جورج” في الجزائر – “يا ماتو أوتيل” في دابلان بالصين – فندق “بارون” في حلب (هل ما زال صامداً على رغم دمار المدينة الجميلة وخرابها؟) – “شيبرد” و”بالاس أوتيل” في القاهرة – “السان جورج” في بيروت – “كاتاي أوتيل” في شانغهاي – “رافلز أوتيل” في سنغافورة – “غراند أوتيل” في كلكوتا – “أميركان كولوني” و”غراندنيو أوتيل” في القدس. في المجموع، أكثر من 200 فندق يتوقف عندها الكتاب، ويتجول في ما بينها: بعضها زال من الوجود، بفعل الزمان أو الحروب، أو انتفاء الحاجة الاقتصادية إليه، وبعضها لا يزال قائماً يشهد ربما سنواته الأخيرة، وبعضها تغير وتبدل وبدل زبائنه، من الجوالين الأوروبيين الأفاقين، إلى زرافات السياح الأميركيين واليابانيين من آكلي الهامبرغر والسوشي

آغاثا وحفنة من رفاقها

في الفنادق يتجول الكتاب بين الأروقة والحدائق، بين غرف النوم والشرفات، بين الواجهات التي تدخلك في الحلم مباشرة، والأبواب الخلفية الجديرة بروايات آغاتا كريستي وقصص بول موران أو سامرست موم. وفي كل مكان ترى الناس: قوم زاروا هذا الفندق في تسعينيات القرن الـ19، وقوم زاروه قبل سنين: ضيوف الخديوي الذي بنى قناة السويس في بهو الشيبرد، رحالة إنجليز في بهو “الرافلز” في سنغافورة، أسرة أميركية أنيقة في حديقة فندق هندي. وهذا العجوز الجالس باسترخاء يرسم على شرفة فندق في مراكش وينستون تشرشل، أما عرفتموه من هدوئه وانصرافه الغارق في ما يفعل؟ ومن هناك على شرفة فندق بارون في حلب؟ عبدالناصر وتيتو، يوم كانت السياسة سياسة والسياسيون سياسيين. ومن فندق بارون نفسه فاتورة للورانس العرب تعلن إقامته في حصن الإخوة مظلوميان الحصين، وفي فندق بسول، الذي بناه الجد الذي كان في أول أمره مكارياً ثم مع ازدهار السياحة تطور ليصبح فندقياً من الطراز الأول، من تلك المرأة الجالسة وحدها في البهو لا نرى منها سوى شعرها؟ أفتراه سيخطئ من يعتقدها شخصية في قصة قصيرة لخوليو كورتازار؟ وهل ترانا حين نتأمل جلسة الاسترخاء على شرفة “حلوان بالاس” في حلوان بمصر، سنتعرف على وجوه الجالسين سعداء في مصر يوم كانت مصر مملكة خاصة بكل واحد منهم؟

بين المتاهات والمرايا

إنها رحلة المتاهة والمرايا، رحلة الصمت. فالقاعدة هنا هي الصمت الذي يطلع من أركان الصورة، ويلوح قانوناً في العيون الناظرة في غالب الأحيان إلى الكاميرا التي تصور. الناظرة باحترام إلى تلك الكاميرا، وبخوف أيضاً، لأن الكاميرا هي العنصر الأساس ها هنا، هي العين التي تلتقط لحظة الزمن التي ستضيع فتؤبدها وتعطيها لمسة الخلود، فإذا كان بورخس قال دائماً إن كل أحداث العالم إنما حدثت لكي توضع في نهاية الأمر في كتاب. فإن ما يمكن قوله هنا، بالاستعارة من بورخس، هو أن كل ذلك الحنين صنع ليوضع في نهاية الأمر في صورة. و”فنادق الشرق” كتاب صورة من الطراز الأول: صور بالأسود والأبيض، صور بالسيبيا، صور بالألوان الطبيعية، صور بالألوان اليدوية، صور… صور… هي تلك التي بقيت من بعدما زال كل شيء، لكنها بقيت إلى جانب النص: نصوص من الكتب ومن المذكرات ومن الأشعار. نصوص تقول لحظة الفندق، تلك اللحظة الضائعة، كما ضياع الفندق، التي بالكاد كانت تذكر، وها هي اليوم عبر ما تبقى من صور ونصوص تعيد الحنين لأوله، أو تعيدنا للسر الأول، للحظة اللقاء الوهمية تلك بين عين الغربي، والشرق الذي راحت تلك العين تخترعه انطلاقاً من الفندق.

اندبندنت