كيف يفرح الناس يا ترى؟ بودي أن أكتشف هذه القدرة الخارقة عند البعض ممن يسمون بشراً، هذه القدرة على عزل والانعزال عن آلام وأحزان وأوجاع ومصائب الآخرين والعيش في فقاعة كاتمة للصوت، فقاعة سميكة الحوائط، فقاعة لا يمكن اختراقها حتى بأشد أوجاع الناس وأقسى مصائبهم. يا سلام لو كانت لي هذه القوى الخارقة، هي بلا شك قوى خارقة أعتى وأشد إثارة للعجب والدهشة من طيران سوبرمان وتحريكه للكواكب وسفره عبر النجوم، من خيوط سبايدرمان التي تنطلق من جسده وتحمله إلى مرتفعات شاهقة، من القدرة على الاختفاء وقراءة الأذهان والتحول من شكل إلى شكل والسفر عبر الأزمان والأماكن، ما أجملها من حياة لو كانت لي القدرة الخارقة على تجاهل إبادة الأطفال وتجويع وتشريد أسرهم ودهس أجسادهم وبيوتهم بالدبابات وحرقهم أحياء، لو كانت لي القدرة على كتم صوت التفجير ومسح صور الأشلاء وإلغاء فكرة أكياس البلاستيك التي يحمل فيها الآباء والأمهات أطراف صغارهم، يا سلام كم كانت لتصبح الحياة جميلة.
يا لها من حياة لو كنت أستطيع أن أدير رأسي عن كارثة الاغتصاب والتجويع الجارية الآن في دارفور، عن المعاناة الحارقة الجارية الآن في اليمن، عن مآسي النساء في إيران، عن جريمة التفجير الصهيوني للبنان واليمن وسوريا، عن خطابات ترامب وسياسات كير ستارمر، عن الصمت العربي الذي سبقه تطبيع هو اليوم أحد أهم أعمدة حرب الإبادة الجارية في غزة ونواحيها امتداداً للدول العربية المحيطة، عن الحفلات والمهرجانات المقامة والأطفال أشلاء في أكياس، عن استمرارنا العادي في الحياة و»المحظوظين» من صغار غزة الذين استطاعوا البقاء على قيد الحياة يُهرسون في طوابير الماء والخبز، عن الصوت الغربي الشعبي المرتفع الرافض لجريمة القرن، وعن الصوت العربي الشعبي التائه المرعوب، والصوت العربي الحكومي الضائع تملقاً للقتلة وشراء لرضاهم، وبأي ثمن؟ لا شيء يذكر، أشلاء عشرات الآلاف من الأطفال، عدد يفوق كل قتلى أطفال العالم خلال كل نزاعات العالم إبان الأربع سنوات الماضية. يا بلاش..

يا سلام لو أقوى، لو تصبح لدي هذه القدرة الخارقة على بلادة الحس وتصلب المشاعر وموت الضمير وغباء وسخافة التفكير، أي حياة منعمة هادئة كنت لأحيا؟ أعيش في مستنقع دم، «ولا يهمني»، كل ما أفعل أن أرفع طرف ثوبي حتى لا يبتل، أتبختر على أطراف أصابعي حتى أفوت بين الجثث المتناثرة، أطوي بنطالي حتى لا يتلون بدماء الأطفال، آكل على مشاهد موتهم، أحتفل إبان جنازاتهم، وأسعد وهم يصرخون تمنياً اللحاق بماما وبابا، الذين غادروهم بلا سابق تنبيه، وأستكفي من المقاطعة (خلاص عاد مش قصة، إلى متى نقاطع) والأمهات تهذي: العيال ماتوا من غير عشا، العيال ماتوا من غير ما ياكلوا. بصراحة غلطتهم، هم يناشكون الصهاينة بالاعتراض والرغبة في الحياة. وعموماً هذه هي الدنيا، كل يجب أن يقبل بمكانه وبمصيره، بعضنا فوق، وبعضنا تحت، ونحن يجب أن نتبلد ونتوحش ونستغبي ونفحش حتى نعيش.
فقط قلت «عيد مبارك حزين، على كل الأصعدة» ليهبط عليّ جام غضب المغردين، فأنا نكدية جاحدة مخربة راغبة في إشعال فتنة، لا أعرف كيف أفرح، أعوذ بالله مني ومن «فألي» وكأن بالإمكان أن يكون هناك فأل أسوأ من واقعنا. لربما أنا «نكدية»، لكنني حقيقة لا أعرف كيف أفرح من القلب والأبرياء تدفن قصفاً وتجويعاً وتعطيشاً وحرماناً من الطبابة وتعذيباً في السجون وقهراً على الأحبة، لا أعرف كيف أبتهج والأطفال أشلاء في الأكياس، لا أعرف كيف أسعد وحزن الثكل والفقد واليتم يأكل القلوب. لربما العيب فيّ، لربما يفترض أن أؤجل الحزن على الأبرياء إلى أجل غير مسمى، وأفرح، وأن أؤخر الدموع إلى ما بعد الموت، أن أسر لنفسي أن هذا قانون الحياة الذي يعطي البعض ويحرم الآخر، وأن أحمد أنني ممن أخذ، وألا أحزن على من حُرِم. الدنيا حظوظ، بعضنا يعيش تحت سقف وأمام لقمة، وبعضنا يُحمل أشلاء في أكياس، عادي، لا بد أن نتقبل!

أما على الصعيد المحلي فالغضب كان أكبر، فالبعض ظن أنني ألمح لحزني على فقدان آلاف السيدات الكويتيات للجنسية بعد قرار سحب جنسية المادة الثامنة من السيدات المتجنسات بالتبعية لأزواجهن الكويتيين، وهو ظن -لعمري- صحيح. فبغض النظر عن إن كنت ككويتي تتفق مع هذا التوجه أو تختلف معه، ترى فيه صالحاً أو طالحاً، تعتقده نافعاً أو ضاراً، أليس في نهاية الأمر محزناً؟ ألم يكسر آلاف القلوب ويقلب آلاف الحيوات؟ كيف أفرح وهناك من بين أهلي وصديقاتي ومعارفي، من أهل بلدي، من عشرة عمري، من النساء اللواتي هن من جنسي بكل ما يحمل الانتماء لهذا الجنس من مصاعب وآلام ومشاق، أقول كيف أفرح وهناك من بين كل هؤلاء من انقلبت حيواتهم، وتبدد شعورهم بالاستقرار، وتجمدت عيونهم بالدموع ولو اختلف المجتمع على تقييم الأمر؟ لو أن اكتساب الهوية أمر جلل، ففقدانها أمر أكثر جللاً، أشد خطورة وتأثيراً، فكيف نتجاوز ونفرح؟
بودي، والله، أريد أن أصبح «سوبر وومان». أريد القدرة الخارقة على تجاوز الدم والموت وجثث الأبرياء ودموع الأطفال وطوابير الجوع والعطش، أريد «السوبر باور» لانعدام التأثر بمشاهد القصف، بمشاهد هرس الأجساد تحت الدبابات، بمشاهد العيون الزائغة التائهة تحملها أجساد مطحونة ووجوه ممصوصة للأسرى المحررين، بالمشاهد المحكية لتعذيب الأطباء في سجون بني صهيون، أريد أن أكون بليدة معدومة الشعور جلفة أنانية مجردة قشرة إنسان، لكن يبدو أن الله ابتلاني بشيء من الشعور، شيء من الإحساس.
أريد أن أصبح امرأة خارقة، أعيش وأتبضع وأضحك وأحتفل دون أن أتوقف لحظة فأفكر في آلام غيري من النساء، دون أن يحمل قلبي هم صديقة أو جارة أو زميلة عمل، دون أن أحزن على هذه السودانية أو السورية أو اللبنانية أو العراقية أو اليمنية أو الإيرانية أو، أم كل الأوجاع، الفلسطينية، دون أن أتأثر بالأحداث حولي ما دامت لقمتي في بلعومي، وسقفي فوق رأسي، وهدمتي في دولابي. أريد هذه البلادة الخارقة التي تجعلني أسرها لنفسي: أنا ومن بعدي الطوفان. أريد هذه الحياة السطحية الهشة، ما أجملها وأسخفها من حياة، لكنني لا أستطيع، ببساطة لا أستطيع. عيدكم مبارك حزين، على كل الأصعدة.

القدس العربي