لأننا كلنا بشر، بيولوجيتنا تعرضنا لذات الهزائم والانحرافات الجسدية والفكرية والنفسية، تشابهت إلى حد ما ردود فعلنا ونحن نشهد حرائق كاليفورنيا المفجعة. لم يستطع أحد منا أن يتفادى هذا التوازي الخارق للمشاهد الكارثية بين فاجعتي الشرق والغرب: صور الأشخاص الهاربين من النار والدمار والنازحين خارج بيوتهم وأحيائهم السكنية والهاربين إلى المستشفيات ومراكز اللجوء، كما لم يستطع أحد منا أن يتخطى هذا الاختلاف العميق بين الحالتين: الأولى تحققت بفعل احتلال حقير يُعمل حرب إبادة بشعة موجهة تحديداً تجاه الأطفال في الشعب الأصلي للمنطقة، والثانية تحققت بفعل عوامل الطبيعة (أو في النظرية التآمرية بفعل تآمر حكومة مجنونة)، الأولى موجهة تجاه شعب مسجون في منطقة صغيرة جداً ومكتظة بسكان يعيش أغلبية جيدة منهم تحت خط الفقر، والثانية موجهة تجاه طبقة متوسطة مرتفعة وطبقة مرتفعة من الأمريكيين الذين يحيون أحراراً محفوظي الحقوق، وفي الغالب حياة مرفهة سخية لن تتأثر حد وضعهم موضع التشرد بعد الكارثة التي حلت بهم، الأولى عدد ضحاياها وكمية خرابها يفوق التصور والعقل حد صعوبة إحصاء الضحايا وحصر آثار الدمار، والثانية عدد ضحاياها محسوم وبسيط (نسبياً) ومعوض خير في الغالب. أما هذا الخيط الرفيع للعامل المشترك بين الحالتين والمتمثل في المساندة الأمريكية المادية والتسليحية والبشرية للجيش الصهيوني المعتوه، فهو تحديداً المصدر المباشر للشماتة والتشفي أحياناً وللذهول أمام القدر الذي يقلب الطاولة ويغير المصائر من أعلاها إلى أدناها في لمح البصر أحياناً أخرى، فهذه المساندة والتسليح هما تحديداً ما حرم الشعب الأمريكي من الميزانية التي كان يفترض بها أن تؤمّن بيوتهم وتمكّن أجهزة الإطفاء وغيرها من الأجهزة من الغوث المباشر، وما يحرمه الآن من المساعدات المطلوبة والتي يفترض أن تكون على أعلى مستوى لكبح جماح الحرائق ولتأمين الناس وإغاثتهم ومن ثم تعويضهم بشكل سريع وفوري.
ورغم كل هذا التوازي والتنافر، ورغم قرب المشاهد المفجعة للحدثين وفي الوقت ذاته، البعد الشاهق للحقائق ولحجم المأساة ولعظمة الفقد ولوحشية الجريمة التي تقف خلف هذين المشهدين، يبقى أننا كبشر يفترض بنا أن نتعاطف مع كل ألم إنساني، وألا يَجُبّ ألم أكبر حق البشر في التعاطف مع ألم أصغر، فمن حق الحزينين على مصاب الكاليفورنيين أن يحزنوا، هذا مما لربما لا يتطلب الكثير من التبرير، ولكن هل من حق الشامتين أن يشمتوا؟ يقول حسام معروف في مقال له على منصة 22 «أدعو من ينتقد الشامتين إلى أن يأتي ليختبر نصف تجربتنا، ثم يقر بحكمه. لا يمكنني أن أمنع أو أقنن غضب الناس ويأسهم، كما لا يمكنني أن أسحب خيط الإنسانية من شخص مهدد بأن يكون جثة تأكلها الكلاب والعصافير والقطط بعد أيام». وعليه، لا أتصور أن هناك إنساناً عاقلاً منطقياً، يحمل شيئاً من الذكاء والعاطفي ويشترك مع بقية البشر في التركيبة البيولوجية والنفسية، أن يرى فظاعة في شماتة الغزاويين، إذا شمتوا، ذلك أنهم تُركوا بمفردهم يواجهون قتلاً ممنهجاً عصابياً يستهدف أطفالهم قبل كبارهم، يواجهون تحطيماً مسلسلاً مرتباً لبيوتهم وأحيائهم في محاولة واضحة وممنهجة لمحو كل أثر لحيواتهم ولبناء مستوطنات صهيونية جديدة على الأرض التي لا شيء فوقها الآن، وكل شيء تحتها الآن، أرض محشوة بالأجساد الطاهرة المعجونة بالدماء أحياناً كاملة، وأحايين أكثر مقطعة مبعثرة، وكأن أرض غزة ترقد على بحر من الأطراف البشرية المتوزعة في أنحاء باطنها ليكون لكل غزاوي أثر في كل شبر من غزة. هذه الفكرة تستحضر سؤالاً مبتوراً عن سياق المقال: ألا يخاف الصهاينة الذين ينوون الاستيطان على هذه المقبرة الضخمة من الجثث والأشلاء الطاهرة من البعث القادم لا محالة؟
الجزئية الوحيدة التي أراها مذهلة في الموضوع هي ذلك الاعتقاد أن ما حل بكاليفورنيا هو عقاب إلهي نتيجة مساندة الأمريكيين للإبادة القائمة. هل هذا العقاب على قدر الفعل؟ هل يعتقد البعض منا الذي يقرأ كل ما يحدث بمنطق غيبي، أن الخالق حين يعاقب مفعّلي أكبر حرب إبادة في تاريخ البشرية الحديث، سيأتي ذلك عن طريق إشعال حريق في منطقة مرفهة يسكنها أشخاص سيكون تأثرهم المادي والحياتي محدوداً؟ هل سيأتي ذلك عن طريق معاقبة أشخاص عاديين لا علاقة مباشرة لهم بالجريمة القائمة في غزة، عائلات وآباء وأمهات وأطفال لا يملكون أي تأثير حقيقي على مسار حرب الإبادة، عوضاً عن إنزال جام غضبه على الساسة الآمنين في واشنطن الذين لا يزالون يفعّلون سياساتهم القذرة ويرسلون أموالهم الملوثة تمويلاً وتسليحاً لإسرائيل؟
والسؤال الأهم: لم يعتقد أصحاب نظرية التدخل الغيبي أن الخالق سيتدخل معاقبة للطرف المذنب، عن طريق ضرب الأبرياء منه، ولا يتدخل لإيقاف المجزرة بحد ذاتها؟ لماذا تتمحور النظرية الغيبية حول الذهاب للعقوبة لا الذهاب للإنقاذ؟ ماذا استفاد أهل غزة من اشتعال الحرائق في كاليفورنيا؟ كيف أثر ذلك على مسار حرب الإبادة؟ وكيف تحقق ها هنا أي مقدار من العدالة أو الإنصاف القدري للغزاويين الذين يعانون لا من سنة ونصف فقط بل منذ سبعين عاماً وتزيد؟ أين المنطق هنا؟
أتفهم السيكولوجية الشامتة والمتشفية ولا أشترك أو أشارك فيها، أتقبل التنفيس الفلسطيني الذي يعكس ألم الفلسطينيين ومخاوفهم وفزعهم وفقدهم وحرقة قلوبهم والأهم وحدتهم التي رميناهم نحن جميعاً فيها، لكن ما لا أتفهمه ولا أستوعبه هو تسيد هذه العقلية العربية الغيبية على الآخرين والتي ترى في حدث مثل حرائق كاليفورنيا، عقوبة على آخر لربما هو الأفظع في تاريخ البشرية الحديث، التي تعتقد أن الخالق بأوصاف العدالة والحكمة والرحمة، سيتجه لمعاقبة الجاني من خلال المكون البريء منه، قبل إنقاذ المجني عليه وإيقاف العذاب والمعاناة والوحدة والجوع والتشرد والنزوح الذي يمر به. كيف تقيّمون الخالق وكيف ترون مسار الأقدار في هذا الكون؟ يا لوحدتنا في هذا الكون الشاسع ويا لضعفنا ويا لبرودة الأقدار المحيطة بنا.
مبارك قرار وقف إطلاق النار، نستقبله بقلوب مكلومة معصورة لم تعد تعرف الفرح. نريده قراراً ملزماً بكل التفاصيل، نريده قراراً دائماً، نريد محاسبة مجرمي الإبادة، نريد إمدادات مساعدة مكثفة وفورية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً حتى تغسل البشرية عار هذه الجريمة من على جسد جنسها العجيب.

*القدس العربي