إذا كان استطلاع الرأي الذي أجرته القناة (الإسرائيلية)، يؤكد أن 84% من الإسرائيليين ضد وقف الحرب في قطاع غزة، فما هي النسبة التي يسفر عنها الصمت العربي، شارعاً وحكومات، بعد أكثر من 600 يوم على حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة، والضفة أيضاً؟
إذا نظرنا إلى شوارعنا العربية مقارنة بشوارع المدن الأجنبية التي طالما رُميت بتهم الانحلال، على الأقل، فإن النتيجة محسومة لصالح شرف الانحلال هذا، مقارنة بعفة الصمت العربي.
وإذا كان الأمر مقارنة بين مواقف الحكومات العربية والحكومات الأوروبية في الأشهر الأخيرة، ومواقف كثير من زعمائها، ومسؤوليها الكبار، بعيداً عن الاستهلاك الإعلامي وبيانات التضامن العربية المرعبة في سقوطها، فإن النتيجة محسومة أيضًا؛ حيث لم تستطع أي حكومة عربية أن تهدد بقطع العلاقات، أو بتجميدها لأسبوع، وما ينطبق عليها ينطبق على عالم إسلامي بأكمله، إذا ما استثنينا مظاهرة هنا ومظاهرة هناك، وحملات الإغاثة الشعبية الشريفة.
أما إذا قارنّا بين نسبة القادرين على مواجهة أثر مواقفهم عليهم شخصيًّا، إذا أعلنوا موقفاً واضحاً مما يجري من إبادات يومية، فإن النتيجة ستكون أيضاً لصالح أولئك (الأجانب) الذين يتظاهرون ويستقيلون ويتصدّون لكل أشكال الكذب الذي يمارسه سياسيون وغير سياسيين في المؤتمرات الصحافية وفي قاعات الندوات وقاعات اجتماعات الهيئات العامة لشركاتهم العملاقة، غير عابئين بقرارات السجن والطرد.
وإذا قارنّا الأمر بمواقف فنانين عالميين، من ممثلات وممثلين ومخرجين، كما حدث في بيان المشاركين في مهرجان كان الأخير، وكذلك مواقف كتّاب وأساتذة جامعات، وشعراء كتبوا مئات القصائد وطلبة جامعات وغيرها، سنستعيد أغنية الشيخ إمام الرائعة «رجعوا التلامذة يا عمِّ حمزة للجدّ تاني،» إلى أن يصل إلى «لا كورة نفعت ولا أونطة/ ولا المناقشة وجدل بيزنطة» وكأن هذه الأغنية لم تغنَّ لا لطلبة مصر ولا لطلبة العالم العربي، وسنجد النتيجة لصالح الفنانين والكتّاب والطلبة والأساتذة (الكفار) ضد أعراف (المؤمنين الأصفياء) وزعاماتهم الذين يفوق عددهم مجتمعين حول موائد الطعام الباذخة عددهم في أي مؤتمر يترفعون عن حضوره إذا كان اسم فلسطين سيرد فيه.
يتصاعد يومًا بعد يوم حجم التوحش الصهيوني، ولا نعني هنا الجيش الصهيوني، الذي ولِدَ متوحشًا بعصاباته، منذ مذابح الطنطورية ودير ياسين والدوايمة وقانا وكفر قاسم وبحر البقر و… بل نعني هذا المعسكر العسكري، أكبر معسكر عسكري في العالم، الذي يسمى (إسرائيل)، وأضيفت كلمة دولة للتمويه ليس إلا، هذا المعسكر الذي يتشكل فعلياً، وليس مجازياً بنسبة تفوق الـ 84% المطالبين باستمرار الإبادة، من الجندي الفرد إلى الفصيل، السرية، الكتيبة، اللواء، الفرقة، الفيلق، وصولاً للجيش الذي يتكون منها كلها، ووحدات الاحتياط التي لا يخلو منها بيت، ومن كل ما يحيط به ليمنحه فرصة الظفر بأكبر عدد من القتلى في كل مذبحة يُقدِم عليها.
في هذا المعسكر يناصرون الحسم العسكري، كما كانوا دائماً، منذ ما قبل النكبة الأولى، كما تُظهِر ذلك الاستطلاعات ومعاهد الدراسة وليس منذ اليوم أيضاً.
ينظر مَن في هذا المعسكر، كما نظروا دائمًا إلى كل شيء تعلّق بفلسطين، لا بغزة وحدها، من منظور أمني معزَّز بفكرة التهديد الوجودي، مع إسقاط كامل لأيِّ بعد إنساني يمكن أن ينتج عن جنونهم الأمني سيلحق بأي طفل أو امرأة أو رجل، أو بيت أو شجرة أو مصدر ماء، متعامين تمامًا عن أي نتيجة، لثقتهم الكاملة بأنهم فوق المحاسبة وفوق البشر، وفوق القوانين كلها، منذ أول بند خطّه العقل البشري، والضمير الإنساني، معزَّزين بجيش إعلامي بأفراده وفرقة وفيالقه ومرتزقته وخلاياه النائمة واليقِظة المُنتشرة في كثير من دول العالم التي يهيمن فيها إعلام مسيطر مُعادٍ للقيم البشرية وناطقون إعلاميون قتلة.
وفي وقت تؤثر فيه الاحتجاجات ومواقف النُّخب على قرارات الحكومات الأوروبية، بات السؤال المقرف الذي يتردّد بين حين وحين بين مثقفين عرب، أو في اللقاءات الأدبية، أو اللقاءات الخاصة، هو: ما الفائدة من أن نفعل كذا؟ أو نكتب كذا؟ أو نحتج؟
ودائماً تكون الإجابة لمن يسأل: ولكن هل يمكنك أن تقول لي ما جدوى صمتك؟
لا يُطالب الشعب الفلسطيني أخوته بجيوش تحرّره، كما حررته عام 1948! تاركة فلسطين فريسة سهلة لتحتل العصابات الصهيونية أكثر من ثلاثة أرباعها، وتاركة بقيتها الضفة الغربية وغزة، مع سيناء والجولان، فريسة أخرى في مثل هذا اليوم من عام 1967، التي تساوي مساحتها ثلاثة أضعاف ما تم احتلاله عام النكبة تقريباً، في ستة أيام فقط، في حين تتجاوز الحرب الإبادية على غزة 600 يوم.
لا يطالب الشعب الفلسطيني بهذه الجيوش، لكن له الحقّ في أن يتساءل، ويظل يتساءل إلى الأبد، أين هي الشعوب؟
تتحوّل أوروبا تدريجيًّا، حياءً، أو انطلاقاً من مبادئ كانت غافية أو متغافية، عمياء أو متعامية أو متواطئة، لكنها على الأقل تفتح عينيها اليوم وتتّخذ قرارات أو تُنذر باتخاذ قرارات، لكن لا أحد يفتح عينيه هنا لا في عالمنا العربي ولا الإسلامي، أو يملك جرأة رفع إصبعه في وجه الوحش الصهيوني، كما لو أن الوحش الصهيوني كيان مقدس، من سينتقده سيدخل النار. ورحم الله ناجي العلي الذي كانت إحدى الشخصيات في أحد أعماله تصيح: أخي في العروبة، ولا يسمعها أحد، أخي في الإسلام ولا يستجيب أحد، ثم تهتف وهي باكية «أخي في الدنمارك!»، وفي عمل آخر يقول: «من راقب الأنظمة مات هماً»، فما الذي كان يمكن أن يقوله لو عاش ليرى الأنظمة تفعل ما تريد دون أدنى أشكال المراقبة، للهرب من الموت همًّا.
وبعــــد:
هذا الكيان لا يتغير ولم يتغير؛ ففي عام 1984 أجرت صحيفة هآرتس استطلاعًا بعد قيام الجيش الصهيوني بقتل شابين فلسطينيين، وأسر اثنين آخرين واقتلاع أعينهما وتهشيم جمجمتيهما، بعد استيلائهم على حافلة (أطلقوا سراح امرأة إسرائيلية حامل) مطالبين بإطلاق سراح أصدقائهم من السجون، وكانت أعمارهم بين 17 و20 عاما:
«قَـتْلُ الفلسطينيين اللذين اشتركا في خطف الحافلة هو أمرٌ: خطير ويبعث على القلق؟ يتعارض مع القانون؟ يقبله المنطق؟ وكانت النتيجة أن 84.4% ممّن وجّه إليهم السؤال أجابوا بأنه أمرٌ يقبله المنطق».
القدس العربي
Leave a Reply