أحب الشعر والشعراء وما زلت أقرأ بقدر كبير ما يصلني من دواوين، أو ما تسمح لي ظروف النظر بقراءته على صفحات السوشيال ميديا. ليس جديدا أن أقول إن بدايتي في القراءة كانت مع الشعر العربي لشعراء من العصر الجاهلي، مثل أصحاب المعلقات وغيرهم، مثل الأعشى والنابغة الذبياني وأمرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد وعنترة بن شداد، والمتنبي وأبي العلاء المعري، وما زلت أذكر مقالات قرأتها مبكرا وأنا في المرحلة الإعدادية من الدراسة، في أعداد قديمة لمجلة «المقتطف»، في ما أذكر للباحث والأديب علي أدهم رأت في أبيات شعرية لطرفة بن العبد رؤية وجودية مبكرة مثل قوله:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى…
لكالطول المرخى وثنياه باليد
أو قوله:
أرَى العيش كنزا ناقصا كلَّ ليلةٍ…
ومَا تَنْقُصِ الأيّامُ وَالدّهرُ يَنْفَد
وكذلك في أشعار لأبي العلاء المعري مثل قصيدته «تعب كلها الحياة» التي يقول فيها:
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِيـسَ
بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْــنَت
عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ.
الحديث عن الشعر العربي كثير في كل العصور. ما يهمني أني أحببت في صباي قراءة الشعر القديم، ثم انتقلت منه إلى الشعر في العصر الحديث عند محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ثم صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ثم أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر، ثم شعراء السبعينيات حسن طلب وعبد المنعم رمضان وجمال القصاص وحلمي سالم ورفعت سلام ومحمد فريد أبو سعدة وأحمد طه ومحمد سليمان وعبد المقصود عبد الكريم وشعبان يوسف وأمجد ريان، وما أصدروه من مجلات تدشن مفهوما جديدا للشعر، وما كان لنا من أيام جميلة في ذلك الوقت، حين كنت أدير النشاط الثقافي في قصر ثقافة نجيب الريحاني، في منطقة حدائق القبة في القاهرة وكانت لهم ندوة أسبوعية.
قرأت عن كل المعارك الأدبية بين الشعراء لتجديد الشعر، كما يرى كل فريق في شكل وبناء القصيدة، مثل معركة مدرسة الديوان، التي قادها العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري، ثم معركة مدرسة أبولو، ثم معارك أنصار الشعر الحر، حتى وصلنا إلى قصيدة النثر. أدركت كيف كانت هذه المعارك كلها نتاجا لتطور الحياة السياسية أيضا والاجتماعية، تريد كلها أن تتسع الحياة بالشعر، أو يتسع بها فدخلوا في رفض ما حولهم بقصائد لهم أو مواقف سياسية، ومن ثم كان الشعراء محل اضطهاد الأنظمة السياسية، عرفتهم السجون والمنافي أكثر من الروائيين. شمل الأمر طبعا شعراء من العالم العربي في العصر الحديث وحتى الآن. بالطبع بيننا الآن كثير من الشعراء في مصر، محل تقدير مني، ومن الحياة الثقافية يطول الحديث عن أسمائهم.
لم تقل قراءتي في الشعر، رغم ما هو شائع عن زمن الرواية، وأحيانا أضع على صفحتي شذرات مما أقرأ، لكن الحياة حولي مليئة بالمشاكل تجعلني كثيرا ما أنسى.
شمل الأمر شعر العامية المصرية، فكم من ليالي سهرتها استمع إلى رباعيات صلاح جاهين بصوت علي الحجار، وتلحين سيد مكاوي، أو إلى الشيخ إمام وقصائد أحمد فؤاد نجم، ودواوين قرأتها لزين العابدين فؤاد، أو سيد حجاب حتى وصلت إلى سعدني السلاموني ثم مصطفى إبراهيم وغيرهم.
لم يكن كل من ذكرت وغيرهم بعيدين عن قضايا الوطن والحياة، كما قلت، ومن بعضهم تعلمت، ومع بعضهم أمضيت أياما جميلة في المقاهي أو الندوات، أو في انتفاضات ومظاهرات، حين كانت الصحة والمزاج بخير، وحين لم تكن هناك سوشيال ميديا تذكرني الآن بقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تَبِع له
بتاتا ولم تضرب له وقتَ موعدِ.
باختصار غرامي بالشعر يجعلني أتذكر البدايات البعيدة جدا في القراءة، رغم كل هذه الأسماء الرائعة وغيرها الكثير، إلا أني في الأيام الأخيرة قرأت قصيدة لشاعرة شابة هي حنان شافعي، سمعت القصيدة في حفل دار صفصافة النهائي في بيت الشعر منذ أسابيع، الذي يديره شاعر رائع وملهم هو سامح محجوب. لقد كتبت هنا من قبل مقالا عن ذلك اللقاء، لكني لم أذكر شيئا من القصيدة في المقال عمدا، تاركا نفسي لكي أقرأها وأعيد قراءتها عشر مرات تقريبا حتى الآن. طلبتها من الشاعرة التي سمعتها لأول مرة، وأرسلتها لي بعد الندوة على «الماسينجر» لأقرأها. هي قصيدة نثرية لم أقف عند بنائها، فالنقاد أولى بالحديث، لكن صورها ومعانيها أيقظت في روحي الكثير. مؤكد أنها ليست الوحيدة التي حركت روحي، لكن هذا ما حدث معها وليس في حديثي تمييز لها عن غيرها. القصيدة عنوانها» نزهة صباحية في شارع لئيم» تقول في بداياتها:
«منذ عدت وأنا أتساءل
ماذا حدث لهذه المدينة؟
لكن لا أحدا يأخذني على محمل الجد
أمي لم تعد تصنع تاجاً على رأسها بضفيرتيها
استبدلت أغنيات الراديو بنشرة أخبار السادسة
وأخي الصغير أصبح أباً يدرب ابنه على القتل»
نقلتني إلى مدن ضاعت شوارعها وضاع اتساعها، وصارت مبانيها القديمة تتساءل بين فوضى البناء ماذا حدث لمن يمشون قربي، ولماذا لم يعد لجمالي القديم تأثير على سلوكهم كما كان يحدث يوما. وبالصدفة كنت نشرت هنا مقالا تقريبا في الأسبوع نفسه بعنوان» السريالية الدارجة حولنا»، حتى إنني، وقد جعلت الصدفة، الشاعرة تجلس جواري حين عادت إلى مقعدها، قلت لها جعلتني أسمع نفسي الآن.
ثم تقول:
«الشوارع معلقة في الهواء
والحانات تغلق أبوابها مبكرا
لم يعد في الليل سكّيرون ظرفاء
ولا في النهار ميادين تضم الحائرين
هجرها العازفون وتحول بائعو الورود إلى قناصة
لم يبق غير صفارات القطارات وعواء الإطارات على الإسفلتْ»
قلت لنفسي كم قابلت في شبابي وسط الليل وحيدين يمشون في صمت، أو يضحكون وحدهم وكتبت عنهم كأنهم ملائكة تنتظر صمت الليل وفراغه.
ثم تقول:
«طفل في المدرسة المجاورة، ألقى بزميله من الشرفة
ثم مضى يكمل شطيرة الجبن
وصديقتي، التي كانت تحب بوذا، قتلت حبيبها
لتتزوج في اليوم التالي
تقول: حين تركني في الشارع ومضى دون أن يلتفتْ
عرفت أنه «قاتل»
كثر القتلة في هذه المدينة
ماذا سأفعل وأنا لا أجيد القتل؟»
جعلتني اتلفت حولي إلى ما أحاول أن اتفاداه مما يحدث في البلاد من جرائم عبثية فاقت كل خيال، أو مما سميته بالسريالية الدارجة.
ثم تقول:
«كلما مررت في شوارعها تنهرني الأرصفةُ
كي لا أستسلم لفضولي
لا ذنب لي.. السيارة تزحف وقد أغلقوا كل المخارج
هذا الشارع لئيم.. يعرف كل أسرار المدينة
يعرف أني أحب النيل وألعن صمته
وأني أفكر، كل مرة يمنعونني من المرور، أن أنتقم»
ثم تقول:
«ورود حمراء أنيقة يبيعها شاب أسمر
مقتنع تماماً أن الحب حرام
عجوز يهذي في غضب
وشاعرة بظهر أحدب، تسأل مرتبكة عن عنوان ما
عربات مرسيدس فارهة
مواطن يتلقى جواز سفره من الشباك،
بينما يرتفع صوت الموظف: لم تحصل على الموافقة
أعلام المستعمرين القدامى فوق قصر الملك
والملك نفسه خرج ولم يعد»
وتنهي حنان شافعي القصيدة بقولها:
«أرض فضاء كُتب عليها: «مملوكة للأميرة بنت الأمير»
يحرسها جندي لم ينم منذ شهر
وبائع المناديل الوسيم.. برجلٍ واحدة على كرسي متحرك،
لماذا خبأ المناديل حينما التقت عينانا؟
سوف أسأل عنه الرصيف غداً
أريد أن أمنحه رِجلي
وأشرب عينيه في قبلة واحدة»
وأتوقف عن أي تفسير هنا حتى لا أفسد النص الفاتن الذي جعل روحي كل مرة أقرأه تتوق إلى الفضاء الضائع في مدن صارت تمنع عيوننا أن تصعد إليه، وأسعد رغم الألم بتلاقي أرواحنا رغم فارق العمر الكبير.

*القدس العربي