فوجئت يوم السبت الخامس من أبريل/ نيسان 2025 بمقال للصديق الناقد العراقي حاتم الصكر، الذي سبق لي أن تناولت عددا من كتبه بالعرض، والتقريظ، تحت عنوان «التنظير لقصيدة البورتريه»، متسائلا عن غياب هذا التنظير، ظنا منه أن أحدا لم يلتفت لهذه الفكرة، ولتلك القصيدة.
ويؤسفنا شيوع هذه الظاهرة، وهي ظاهرة عدم الالتفات للدراسات السابقة التي تنم عن التعاون غير المباشر، أو المقصود، من لدن النقاد العرب، في ما بينهم للتوصل لأفكار، ومفاهيم مشتركة. فالصديق الصكر، في ما يبدو، لم يطلع على ما كتبته عن هذه الظاهرة بالاصطلاح المقترح نفسه «قصيدة البورتريه» في مقال وافٍ نشرته في عام 1997 عن ديوان «عندما نلتقي» لمريد البرغوثي الصادر في عمان عن دارالكرمل للنشر والتوزيع 1992 في أحد أعداد مجلة «عمان» الشهرية. وأعيد نشره في كتابي الموسوم بعنوان «من معالم الشعر الحديث في فلسطين والأردن» الصادر عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع في عمان سنة 2006 أي بعد 10 سنوات تقريبا من نشره في المجلة المذكورة. وفي المقال الذي أصبح فصلا في الكتاب يقول صاحب هذه الكلمات ما يأتي: في هذا الديوان يقترح مريد البرغوثي نموذجا للقصيدة، هو قصيدة البورتريه، حيث الكلمات تتحول إلى خطوط وألوان وأضواء وظلال ترسم وجها من الوجوه، أو ملامح لشخص ما بأسلس عبارة، وأقوى إشارة، وابسط تكوين، لتمضي بالقارئ نحو نهاية حادة تنتهي بمفارقة تخالف جل ما هو متوقع. وهذا يكاد ينسحب على قصائد «عندما نلتقي» جميعا، حيث الصورة الشعرية ليست تشبيها، ولا رمزا، ولا مجموعة من الاستعارات، ولا الأساطير، وليست كأي رسم آخر بالأدوات والخامات الأخرى، وإنما هي بالكلمات.
ففي بعض هذه القصائد تستوقفنا تفاصيل الحياة اليومية لدى صاحب البورترية، رغوة الصابون، حلاقة الذقن، المرآة، الشاربان، تعديل ربطة العنق، شاي الصباح، المنديل، الطفلة والزوجة، وكل ما يخطر ببال الفنان الحاذق، والرسام البارع؛ حقيبة السمسونايت، وزجاجة العطر، أو الكولونيا، وهذا النموذج لا يشبه ما اقتبسه الصكر من قصائد صلاح فائق، ولا من قصيدة «طباق» لمحمود درويش، فتلك القصيدة تضم مجموعة من المقاطع التي تنمو في خط تصاعدي درامي أين هو من هذا البورتريه:
بوجه تموج رغوة الصابون، تبعث عطرها
يده تشذب شاربيه أمام مرآةٍ أنيقة
يده ترتب ربطة العنق الحرير على القميص الأبيض الرسمي
ينتصف المثلث لا يميل إلى يمين أو يسار
ويمدها للسكرية
قطعتان ونصف قطعة
ويقلب الشاي المعطر، ينتهي
ويقبل البنت الصغيرة والفتى
ويضم زوجته، وتعطيه الحقيبة
قال: والمنديل؟
رفت عينه اليمنى، وصار الأبيض المطوي في يده
ويذهب للوظيفة
في هذا البورتريه يرسم البرغوثي ملامح هذا الموظف الكبير، وصفا لا يخلو من سخرية، فهو يسلط الضوء على أناقة مفتعلة لديه، ترتيب ربطة العنق، المرآة الأنيقة، معجون الحلاقة برائحة العطر، الرائحة تعبق من الرغوة. تناول شاي الصباح المعطر، أسلوبه في تحريك وإذابة السكر، المنديل المنشى، المطوي بأناقة، طقوس المغادرة، والقبلات على وجنتي البنت والابن. صورة لا ينقصها الإطار؛ فعندما انتهى من هذه الخطوط، ومن تلك الظلال، ابتعد قليلا عن اللوحة، وقد أصبحت في غير حاجة للمسات الأخيرة بالفرشاة، لينظر إليها من بعيد، متأكدا من أن كل شيء على ما يرام:
رجلٌ وسيمٌ، متقنٌ، في المقعد الخلفي
بعض شؤون منصبه
اقتياد العاشقين،
من الغيوم الرائقات
إلى حبالِ المشنقة
فقد ألقى الشاعر بالريشة، وبلوحة الألوان، وعمد إلى الركن المتحوِّل من النص. فإذا به يعقب على المنظر الساكن، بالقول: إن الرجل الذي ترون صورته جلس بأناقة في المقعد الخلفي من السيارة، وهذه هي عادة كبار المسؤولين الذين يغادرون إلى مكاتبهم بعربات فارهة فاخرة، يقود كلا منها سائقٌ وسيم، فيما يجلس المسؤول في المقعد الخلفي. صحيح أن هذه الإشارة تقع خارج الإطار الذي تلتقي فيه الخطوط بالظلال، وبالأضواء، والألوان، ولكنها تضفي على هذا البورتريه الشعري تكاملا. إذ ليس الغرض أن يتدرب الشاعر، أو الفنان، على الرسم، وعلى استعمال الألوان، أو القماش (الكنفص) وإنما الهدف، والغاية، هي أن ينشد من وراء ذلك، ومن أمامه، مغزىً معيّنا، وهذا المغزى يتجلى في جمالية المفارقة التي تكسر حاجز التوقع لدى القارئ، وتخالف المرتقب لدى المتلقي، فإذا بهذا الموظف ذي المنصب الرفيع، لا يمل القيام بواجبه الوضيع، فهو الذي يقود العشاق والعاشقات من فضاءات الحبّ الرائق، والعشق الفائق، إلى المشانق. وهذه المفارقة تضفي على الصورة نفورا منها، وإحساسا بالتقزز من هذا الموظف، لا استئناسا به، وميلا إليه أو إعجابا.
وقد أشرت في هذا المقال لنماذج عدة من قصائد البورتريه، لافتا لاندغام هذه البنية ببنية القصيدة القصيرة Epigram التي تقترب مما يعرف بالهايكو. وهذا مثال يرسُم لنا فيه البرغوثي صورة لفتاة تشارك في انتفاضة غزة 1987 مشيرا لما تُنْصحُ به من ضرورة الحذَر، وعدم المجاهرة بمقاومة الاحتلال، والتخفّي حتى لا تتعرض لما يسؤوها بوصفها فتاة لا شابا، ولكنها لا تصغي لهذه النصائح المكرورة:
الفتاة التي حذَّروها
من الضحكة الصاخبة
والتي علموها الرضا بالمتاح
واعتياد الندم
سترتها المتاريسُ عن أعين الجند
ولكنها فضحت نفسها بالعلم
فرَفْعُ العلم، الذي يشير له البرغوثي، هو الذي يخالف توقع القارئ، فبدلا من أن تتخفّي، وتعمل بما نصحوا، ترفع العلم مجاهرة ًبأنها «فلسطينية كانتْ ولمْ تزَلِ» على رأي محمود درويش. وهذه قصيدة من ديوان «الناس في ليلهم» (1999) تقول القصيدة عن أن أحد الشهداء ـ شهداء انتفاضة غزة ـ ما يأتي:
على مخدة وحيدة
سيدة تأملت سرير ابنها البكرِ
مرتبا للمرة الأخيرة
وفارغا إلى الأبد
صوت من النافذة المجاورة
يصيج أهلا ـ يا صباح الخير. كيف الحال؟
ويسرع الجواب
بخير
فهذه السيدة في صورة من لا يجزع لفراق الابن البكر. فهي تتأمل السرير وتراه خاليا من الحبيب، وهو خالٍ لأنه رحل مع الراحلين من شهداء الانتفاضة، وحرب الفاشيين على الأطفال خاصة، وعلى الأمهات، وفي الجانب الآخر من الصورة نافذة. والنافذة مفتوحة على كثير من الاحتمالات. الناظر في الصورة يتوقع أشياء عدة؛ تعزية، مواساة، مثلا.. لكن التوقع لا يتسق. فالمتكلمة تصيح: يا صباح الخير. ترى من أين يأتي هذا الخير؟ يعقبها كالعادة السؤال عن الحال. والسيدة الثاكلة تجيب كالعادة: بخير. مكابرةً، لا تريد أن تبدي الجزع والحزن، فالشهداء لا يموتون، ولا يسوغ عليهم البكاء، ولا الحزن.
وعلى هذا النحو يجد القارئ في هذا الديوان، وفي دواوين أخرى للبرغوثي، منها «مملكة الكائنات» و»قصائد رصيف» و»ديوان ليلة مجنونة» و»الناس في ليلهم» وغيرها.. نماذج من البورتريه الشعري الذي يقوم على:
1. لقطات يتألف منها رسم ما
2. تفاصيل قد تحيل لجانب من حياة النموذج اليومية.
3. خاتمة غالبا هي التي تضيء ما يتقدم عليها من لقطات، وتنم عن غاية الشاعر من هذا الرسم وأنه لا يلهو، ولا يتسلى، بل يقول ما يقوله متوخيا التأثير في المتلقي، وفي ذوقه الشعري.
4. يغلب على هذه البنية أن تنتهي بمفارقة تعبر بالتناقض عما هو غير متناقض.
5. تختلف هذه القصيدة البورتريه عن السيرة الشعرية كالتي استشهد بها من محمود درويش أو صلاح فائق.
كاتب أردني
القدس العربي
Leave a Reply