تطلُ الشمس على صحون الدور وتلاحق أقدامُنا بقعَها المتجولة، يفوح عطرُ زهر الليمون والبرتقال حول أخبار التقسيم والتكفير والنصر والثأر. نتشمس بحدقاتٍ واسعة تعكس الربيع الهش الذي يطل بلا أمطار ولا زهور، قليلٌ من العشبِ وكثيرٌ من الأشجار الرمادية. لوحةٌ من الأبنية والدروب والجبال، تستقرُ عيناي على قمم جبل الشيخ البيضاء الموشحة بالضباب. لأجل هذه الطلةِ اخترتُ بيتي الذي غادرته منذ أربعة عشر عاما. أخذوا جبل الشيخ، واستوطن العدو في أعلى نقطة في البلاد، سرقوه، ولو تمكنوا لسرقوا شمسنا منا.
شمسنا اليوم ربيعية لطيفة، تَفكُّ برفق قبضاتِ الشتاء عن النوافذ فتُرمى لها البُسطُ والطراريحُ والمخدات، وتتغطى جدرانُ الشرفات بألوان السجاد الكاحتة، وتتناولها السطوحُ لتغذي ألواح الطاقةِ الشمسية، شمسنا هي الوحيدة التي تمدُّ شعبنا الفقير بالدفء بلا مقابل ولا منية..
مباراةٌ مبكرة لأولاد الحي مع المفرقعات، أرخصُ تسليةٍ لهم في هذه الأيام، فتحُ أغلقة دكاكين التوتياء، قوقاتُ دجاجات بعيدة وديك يصيح، لا تشفيط سياراتٍ أمنية ولا سرعات جنونية، خلو المنطقةِ منهم يجعلني أسأل روحي مع كل التفاته.. أين ذهبوا؟ أحقاً اختفوا؟
يوضب صهري وأختي الأغراضَ في السيارة، ويعنُّ محركها استعداداً لرحلتهم الأولى بعد السقوط من دمشق إلى الأهل. مسميات عديدة يتداولها الناس لهذا التاريخ، السقوط، التحرير، الأزمة، الثورة، تماماً كما تنوعت مسميات الثورة الحرب، الأزمة، الانتفاضة. والواقعون في حيرةِ تحديدِ مواقفهم في كلا التاريخين يقولون « بعد اللي صار ما صار».
نقفلُ الأبواب بإحكام، ويتبنى الجيران مسؤولية سقاية الزريعة، وتفقُّدِ المنزلِ في أوقات انقطاع الكهرباء وعودةِ المياه، وإقفال الأبواب الحديدية والخشبية.
نغادرُ الحي عند اشتباكِ مجموعة كلاب ضالة مع مجموعة أخرى بموجة تسونامية من العواء المتبادل، يقول الناس هنا إنَّ هذه الكلاب تعيش على فضلاتِ حاويات المزابل وتستريحُ في مداخل البنايات، والمنظماتُ البيئية تمكنت في العهد الفاسد من حمايتها من قرار البلديات بقتلها، ولكنها لم تتمكن إلى الآن من رعايتها باللقاحات والغذاء والإيواء.
في ذروة الحرب السورية كان هناك فتية وفتيات يعتنون بالقطط والكلاب الضالة وبزراعة الأشجار ونظافة الشوارع. ملأت صدري بالهواء ونحن نقترب من جبل القصر الجمهوري، كم حمَّله خيالي من السراديب والغموض، وكم صفَّحتُه بالجنازير في سنين الخوف، كان ثقيلاً. أتراه يتنفس اليوم؟ آمالنا معلقة بانعكاس حنوِّك أيها الجبل على دمشق العتيقة، أمامك خياران لا ثالث لهما، إما أن تكون جبلاً محمولاً بأذرع شعبه، أو صنماً صخرياً محمولاً بجثث هذا الشعب.
نعبر الربوة، ساحة الأمويين، دار الأوبرا، المعهد العالي للفنون المسرحية، طريق المعرض القديم، أبتسم، جسر الحرية؟ لا يزال الناس يرددون ـ جسر الرئيس سابقا- كم نحتاج من الوقت ليغدو ذاك الرئيس وعهده ماضياً . تمشي السيارات بانتظام بلا إشاراتِ مرور ولا شرطة، المدينة تحمي نفسها بنفسها.
ركنا السيارة عند المحافظة ومشينا إلى سوق الهال، رميت نفسي عند أول بساطِ بابونج، أمام فلاحة تنادي «بابونج بعل» أحتار برزمة الأوراق النقدية التي غصت بها محفظتي بعد تصريف 100 دولار، تحاسب أختي عني وتدفعُ الآلاف مقابل كيس أسود صغير محشو بالبابونج، أنا مليونيرة الجميعُ هنا مليونيرية، يحمل البعض أموالهم في أكياسٍ سوداء بلاستيكية وتزوغ عيونهم وهي تتنقَّل من تسعيرة إلى أخرى. تستعرض أختي الفاكهة التي كانت تحلم بها وأصبحت متوفرة بعد التحرير، الأناناس الأفوكاتو الزنجبيل القشطة. المتفاؤلون يرددون:
-رخصت الخضار والفواكه
والمتشائمون:
– غلا الخبز والمواصلات
على كتف السوق، تنحني فوق البالة المطروحةِ على الأرض الهامات، ترتفع المؤخرات وتغوص الأذرع في الأكوام لتلتقط ما يناسب من ملابس أو أحذية
– ما يميزنا كمليونيرية هنا عن مولينيرية العالم، هو عدم اهتمامنا بالماركات العالمية، المهم هو السترة.
جوقةٌ هائلة من الإعلانات المسجلةِ بأصواتٍ ذكوريةٍ رتيبة، تستعرض منتجات صينية رخيصة على بسطاتها، أساور، قداحات، كماشات، ماسكرا، جلدات حنفيات، إلخ. وتّرني الضجيجُ وعجَّل بخطواتي نحو السيارة، وحرَّضني، لم لا أسّجلُ إعلاناتهم بطريقة احترافية وبأصوات جاذبة وأهديها إليهم؟ ألن يكون هذا أرفق بآذاننا وبسياحتنا؟ ولكنَّ بائعاً شاباً في ظل بناية أمام تمثال يوسف العظمة غيرَ دربي. وكأنه خرج من إحدى لوحات أبو صبحي التيناوي، سروال وشال، وشوارب يقف عليها الطير، يستعرض ما عنده من بصلات الزنبق، طلبت أختي بصلة الزنبق الأزرق، أما أنا فطلبت منه أن يختار لي اللون، ابتسمت عيناه الرائقتان، وقال «اخترت لك الأحمر».
أغمض عينيَّ في السيارةِ، وأسلم وجهي للنسيم، أحيانا يأتي التفاؤل كالجرح ويكون بالغَ الأثر ومنبعُه عيون فلاحٍ طيبة وصافية لا أكثر.
تطلُ – دوما- بجلال جدرانها التي أمست عيوناً مفقوءة، مناخلَ تركها البائد ليرعبَ بها السوريين، كما فعل أباه تماماً في حماه، لكنها غدت الشاهدَ الحقيقي على جريمته، وعلى حكاية الورد الذي حوله بالقوةِ إلى رصاص. تقطع أفكاري تيجان جبال معلولا الشهيرة وذكريات رحلاتنا بين بيوت الصخر، والمصاطب والمغارات، تتالى الحواجز الفارغة وصور الديكتاتور الممزقة، تدور الشمس على بقايا حروف شعاراتها الممسوحة وألوان خشبها الكالحة، لقد صار ارتزاق الجنود ماض. وتنبض في الأرضِ الآن شرايين الهواء. تضيء فكرة كمصباح، علّ هذه الحواجز اللعينة تتحولُ إلى محطاتٍ شاي وقهوة مزينة بصور من فقدناهم فيها من خيرةِ أهلِ البلد، وحيث كان يقف العساكر والأمن يقف عازفون تساعدنا ألحانهم على إكمال دروبنا بسلام.
أهمل ارتجافات الموبايل بإشعارات الأخبار العاجلة والمحللين شرقاً وغرباً، ديمقراطية، سلفية، مجتمع مدني وعقوبات. تزقزقُ نافذة السيارة وأنا أفتحها ليعبثَ الهواء بشعري الذي صار أبيض:
ـ ليت صبانا تذوق نعمة هذا الخلاص.
أنتقل إلى محطات عبد الوهاب، شادية، عبد الحليم، علّ هؤلاء يمنحوننا من زمانهم بعض الأمل والأمان. تنعشني رائحة البابونج الحقيقية التي ملأت السيارة، أتساءل..»ترى ما الذي نقصده نحن المغتربين بالحقيقي.. البقدونس الحقيقي، الخيار واللبن الحقيقي، هل ما تنتجه أراضي الشعوب الأخرى ليس حقيقياً؟ أم أن ما نشأنا على رائحته وطعمه هو ما نعتبره الحقيقي؟ أنكون متورطين في أفكارنا ومعتقداتنا أيضا في اللبس ذاته؟
تتجاوز السيارة البراري الجافة والتلال الصغيرة، ورفيقيَّ يعيدان تأهيلي بترتيب خطط الاستقرار في منزلي، كيف أمنعُ خزان المياه من الطوفان؟ وأربطُ الراوتر بالبطارية، وموعد شراء المياه من صهريج عين الفيجة، وخيرت بين شراء الغاز بالكيلو، أو شراء عبوة كاملة؟ كثيرة هي الإجراءات اليومية التي تعوَّد عليها شعبنا المعاقب، تشغيل الطاقة، فصل البطارية، اللدّات، كانت تسبق شروحاتهم جملة «لو قررتِ البقاءَ في البلد» ليسوا على ثقة بأننا سنرجع فعلاً.
قالت لي سيدة أمس:
– أرجوكم، ما عاد تسافروا.
المتفائلون يبتهجون لعودتنا، أما المتشائمون فينظرون إلينا غير مصدقين، وجوازات سفرهم بين أيديهم.
كثيرة كانت سيارات نقل الأثاث على الطريق، تُسقط الريح القلمونية حمولة – بيك آب – كبيرة من فرشٍ منزلي وأثاث. توجعني حيرة السائق وتوقف تساؤلاتي
-أتراه رحيل موظف أقيل من وظيفته؟ أم رحيل مذعور من جريمته، أم رحيل طائفي أم هو مجرد رحيل.
انصرفت إلى لوحات الطريق التي تشير إلى العراق والأردن ولبنان، ولوحة إلى دير مار موسى لن أنسى مي سكاف، وهي تطرح قضيتها للأب باولو:
– أبي مسلم وأمي مسيحية، ألا أمثل الثقافتين معاً؟
وكان جوابه داعماً ومدعوماً بدعوتنا لزيارة مكتبة الدير الغنية بالكتب الإسلامية والتاريخية، وتقديم إحدى مغارات الدير لنا في اليوم التالي لنعرض فيها مسرحيتنا. حان الوقت لتتشمس قصصنا الغامضة وإحداها اختفاءُ جامع الطوائف، الأب باولو. أحدق اليوم في العيون بأمان وأتعرف علينا من جديد، انتهى عهد الشكِ في رواد محطات السفر والبائعين، أجرب كالأطفال السلام والتحية في محطة – أبو العز- مستمتعة بأروع شعور، لقد تخلصنا من الأمن وعساكرهم، ترى أين اختفوا، هل ذابوا؟ تعبرنا أشجار حمص الراقصة على جانبي الطريق، أرض حمص الغنية بالزئبق طردتْ عقاربَ الأرض، لكنها لم تنج من سمومِ البائد والإبادة. نتعرفُ على حواجز جديدة لشبانٍ صغار يحملون الأسلحة ويضعون اللثام، حراسُ البلادِ الجدد، نترصَّدُ بعضَنا، نراقبُهم، يراقبوننا.
أنتم تكفيريون؟ لسنا دمويين كما يشاع عنا، أنتم أحبة؟ هل ترفضوننا؟ نتمنى أن تلقوا التحية علينا. ونحن نحب أيضاً.. نريدُ السلامَ والتحية ونتردد ويريدون الضحكة والسلام ويترددون. السوريون يعيشون فوبيا الديكتاتور وفوبيا الطوائف وفوبيا العنف والحبُ وحده يجعلُ كلَّ هذا محمولا.
تتكئ السيداتُ على الشرفات متأملات الدروبَ والأسواق، قارئات المستقبلَ الغامض بين خطواتِ الرجال في الأسواق وحراسة الصغار لبسطات تصريف العملات ومساومات الناس بائعي المازوت على الدروب. فرشٌ لم ينج من شحّارِ الشتاء على السطوح، حبالُ الغسيل تزين الشققَ المتهالكة بملابس الأطفال والنساء والرجال، وكأنها إشارات وعد ورجاء، حمص الحلوة تتشمس. أترقب طلةَ قلعةِ شميميس الغالية، أفتحُ الموبايل لأُطمئنَ الأهل باقترابنا فتسبقني طنطناتُ رسائلِ المجموعاتِ المدنيةِ الكثيرة، التي انضممت إليها حديثاً بعد التحرير، تحذيرات من أحبة مغتربين «حبايبنا في سوريا، الزموا منازلَكم اليوم، احذروا التجمعات، لا تسافروا، تتوقعُ الصحفُ الغربية حوادثَ وجرائمَ اغتيالٍ قد تحدث اليوم في أي لحظة». يا لطيف، لقد عبرنا اليوم دمشق وطريق السفر برواق، ومع ذلك انقبض صدري.. كنت شاهداً على هدوء الطريق ومع ذلك سكنني الخوف. أقرأ على عجل، آراء غاضبة وآراء معتدلة وأخرى مشككة أو شامتة.. أشعرُ بنبضات قلبي، وافقدُ متعتي في استقبالِ مدينتي، قتالٌ كلامي هنا وغضبٌ هناك. كعادتي في التحايل على القلق أنقذُ نفسي باللعب، صورتُ شجرةً تسند سهلا ممتداً من الحميضة، وبرسالة نصية أسأل الأهل:
-يا حزركم أين وصلنا؟
تتكاثفُ الردودُ المتحايلةُ على قلقِها أيضاً فالأخبارُ السيئة تنتشر كالحريق:
ـ تحت الغيمة
صورة
– والآن أين وصلنا؟
– جنب النحلة..
صورة
-أين ستأخذونني غداً؟
-إلى المسرح.
صورة
– وبعد غد؟
– إلى مقهى الجندول العائلي..
-والذي بعده؟
ـ مسيرٌ حول جبل عين الزرقاء
– ماذا تفعلون الآن؟
-إننا نتشمس.
صورة
ـ والآن، أين وصلنا؟
ـ حارة الزيتون
أشهقُ لبيتنا وأصور تجمع الأخوة والأخوات والأحفاد على باب الدار.

Leave a Reply