أجلسوا معتقلا على كرسي خشبي بعد تكبيل يديه وعصب عينيه، وأدخلوا أنبوبا بلاستيكيا في فمه حتى هم بالاستفراغ، وغرقت عيناه بالدموع فأدركوا أنه وصل معدته، ثم أدخلوا سلكا شائكا سحبوه جيئة وذهابا في الخرطوم المنغرس في المعدة، احمرت عيناه وصرخ ثم سحبوا الخرطوم البلاستيكي، ليبقى السلك الشائك في أعماق ذاك السجين لئلا يتحرك ولو وجعا، ثم قالوا اهتف للحرية الآن.
تلك صورة مختزلة خضعت لكثير من الاختصار لحدث يرويه المعتقل وائل الزهراوي في روايته الموسومة بـ “لهذا أخفينا الموتى”، أمام ذلك يتساءل المرء كم من الكاميرات ومجسات الألم وروائيي العالم وأدبائه وفنانيه يمكن للضمير الإنساني أن يستحضرهم لنقل وجع الضحايا المكلومين. المكلومون لدرجة أن أما سألت عن ابنها المفقود وأجيبت بأنه قد أعدم منذ أيام اعتقاله الأولى فقالت: الحمد لله أنه مات باكرا ولم يتعذب كثيرا، فما الذي يمكن أن يقدمه الأدب كأداة للتعبير عن ذاك الجحيم؟
في المجال الأدبي العربي حفلت بيروت بعد حرب الثمانينيات بكثير من النصوص عن الحرب، ثم ما لبث اللبنانيون أن وجدوا أنفسهم قد استهلكوا كل المفردات والتصورات والتشبيهات التي اشتغلت على ثيمة الحرب والموت، وأدركوا ضرورة تجاوز المرحلة لابتداع مسافة مشتركة للحياة بلا ذكريات تترك الجرح مفتوحا، غير أن ثمة فرقا واضحا بين تلك الحالة وحالتنا نحن السوريين، حيث تم تجاوز تلك التفاصيل والذكريات في لبنان لكونها طالت فرقاء كانوا شركاء وطن وشارع وحي ومدينة تبادلوا حروبهم بنعرات بدائية، ليبدؤوا شيئا من ممكن الحياة ما بعد تلك المرحلة، أما معضلتنا فتكاد تكون تجربة فريدة من نوعها حيث تم فيها إبداع الموت وإبداع العذاب وتجاوز البدائية نحو التوحش، الذي جعل الموت حلما يرنو إليه المعتقل فهل تتسع إبداعات العقل البشري في شتى وسائل التعبير من فن وأدب ولغة أن تبدع في اقتفاء آثار قدرة التوحش تلك؟
هل يكفي الأدب ليسجل حياتنا التي ضاعت بين الجدران بعد أن تشربت حزن العالم؟ ثمة لون أدبي في الرواية والشعر سمي بأدب السجون، والسؤال الملح هل للصرخة المكتومة والعواء أن يرسم بلوحة، أو يصب في قصيدة، أو نص روائي أو سرد؟
يتحدث “موريس بلانشيو” عن الفاجعة ويبتدع تأويلا لها يصدم القارئ؛ فهي قد تكون حدثا محددا حصل، أو قد يحصل، وتقوم اللغة بصبه في نص أو كتاب، كما تعني القطيعة مع عالم الواقع في مكان ما؛ لنصل في خلاصة التأويل أن الفاجعة هي الكتابة ذاتها، مع ضرورة تجاوز الكتابة لأنها منذورة للمحو؛ تبدو هنا مقولة كاتبنا عن الفاجعة وعن الكتابة ترفا أمام ما يشهده الإنسان أي إنسان؛ خصوصا السوري إثر رؤية معتقل خرج للتو غاب اسمه وعنوانه في وحشة الصرخة وعتمة الجدران؛ مزدحم الذاكرة بالجثث وصراخ النساء المعتقلات. ثمة أسئلة كثيرة تراودنا نحن أبناء الثورة؛ ونحن نكتشف هول الفاجعة فيما نشهده من معتقل ضاع بين الجدران وفقد الصوت و اللغة، وصار عاجزا إلا عن العواء، عواء الذئب الجريح أو عواء البشر إذ يفقدون مرحلة وعي اللغة، ولعمق الجرح والألم يفجعون بعجزهم عن الصراخ، أو الحديث فيعود الإنسان لفطرته كحيوان عاقل ـإن أسعفه العقل بالبقاءـ؛ ولكنه غير ناطق، فقد القدرة على البوح فصار يعوي من شدة الألم، والعواء ليس ابتداعا في اللغة ولا في عتمة سردنا هذا؛ بل مثل حالات كثيرة لعل أولها ما تناقله معتقلون سابقون لي عن السائح الأجنبي الذي اعتقلته سلطات النظام البائد؛ فصار يعوي من عمق الوجع، والسؤال هنا هل نقتصر في توثيقنا للمعتقلات والظلم على أنماط الأدب وهي المنذورة لتجاوزها في مستوى الإبداع الأدبي وأنماطه؟ لاشك هنا من أن التصور القار في ثقافتنا البشرية عموما أن الكتابة والتعبير عن فاجعة ما كالذي مرت على السوريين؛ ليست ممنوعة على الرواية والشعر والأدب؛ غير أنهما قاصرتان عن الإحاطة بها، فالتخييل لا يحتاجه أحد هنا في خضم ما جرى؛ لأن خيال المجرمين تجاوز مخيلة الشعراء والرواة، غير أنه ثمة مطلب آخر يصبح ملحا تماما، وهو ضرورة الإبقاء أو فتح المجال للتعبير عنها من أصحابها أيضا، لئلا تخضع لأي تحوير أو تكثيف أو تجميل من جهة، ومن جهة أخرى لأجل تخليدها كتجربة حقيقية تبقى ماثلة كرُقيم فخاري، مسلة فرعونية، نصب تاريخي، أو كتلك النصوص التي كتبت على حجر منذ آلاف السنين لتؤرخ أساطير الشعوب القديمة وبقيت حاضرة حتى الآن؛ يشير إلى الضحايا والمكلومين، أو هرم عظيم من أرواح ضحايا المأساة تضمن بقاءها في الذاكرة؛ ولكي لا تذهب أدراج الورق والروايات المنذورة للمحو أو التجاوز فنا وموضوعا، والإبداع الذي يسير بخُيلاء في النافل من شعور البشرية يحني رأسه رفقة اللغة لفاجعة للحقيقة ويعجز عن إضافة ريشة؟
اعتاد الجنس البشري على انفعال فطري بالفرح، و مقابلة البكاء بالحزن، إلا بكاء الطفل حين الولادة يقابل بالفرح إذ يشد قوس انتباهة الفرح لميلاد روح؛ إذ تنبئ بحياة جديدة كانبلاجة فجر، وهي الفرحة البكر الوحيدة في الفطرة البشرية التي تقابل صوت البكاء ، لكن سماعها من طفل يولد من أم مغتصبة في المعتقل، ألم يطعن الروح في عمقها الأول، لم تسجلها كل إنسانيات الشعوب والحضارة، مثلما لم يسجل أحد خروج الروح من جسد بحز السكين في عنق، أو تسلل جلطة في الشريان، وهي تجرح إنسانية الفرد أيا كان ورجولة الحاضر والغائب والراوي والكاتب والقارئ له أيضا، أتساءل كيف يكون شعور أم بطفل يولد من اغتصاب لا تعرف مقترفه، لكثرة الوحوش التي مرت على الضحية؟، في بلادنا فقط تصير صرخة طفل يولد فاجعة تكفي للموت أو الجنون.
وللسارد عن السجون أن يغيب عن الحضور في الزمن المشهود، ويعود ليدخل مرة أخرى في الماضي، ويفتش في كل دقائقه من عصا السجان إلى الجرح المقيح، ونكأة الجرح القديم الأصعب من الجرح الطازج بدمه، إلى نقطة الماء على فم الصنبور، إلى أصغر حشرة في ثياب السجين؛ كالقملة والصرصور بين الثياب الرثة التي تواجه بكل صفاقتها رمشة العين، وشهقة الروح، وريشة العصفور التي قد تحملها الريح خطأ من النافذة، إذ في حال كهذه يصبح الزمن مقاسا بأبعاد أخرى فلحظة الألم عصية على القياس بثوانيها ودقائقها أو بساعات القهر، أو الخوف، فهناك ما يمكن تسميته عمق اللحظة الذي لا ينتمي لحدود أو أبعاد رتيبة، والجرح الذي تفتحه حواف القيد المعدني ” الكلبشة” وأنت معلق على باب الزنزانة لأيام كي تغفل أو تغفو أو تتهاوى من التعب؛ فينغرس بجلدك لتصل لحقيقة أن وطنك هو جلدك لا أكثر؛ كل ذلك له بعد يتعلق بالنبضات التي تحفر عميقا في روحك، كما الوقت الذي تسابقه وأنت تحاول بيديك المقيدتين وأنت في حجرة المرحاض أن تتجرع شربة ماء من صنبور المرحاض، أو أن تتلمس بتلك المساحة من خلفية رأسك القريبة من البصلة السيسائية تقوسا ما أو نتوءا في جدار صلبت عليه؛ علك تضرب رأسك به حين يحاصرك المحقق بمعلومة قد تورطك باعتراف يجلب رفقاء آخرين، وكما أن التيه في تلك الأغوار يوصلنا إلى فخ آخر هو عجز اللغة، إذ لا قيمة تضيفها البراعة أو التشبيه لتجربة عميقة كهذه يمكن أن توصل الحقيقة سوى الحقيقة نفسها فماذا سنكتب وكيف نكتب إذ تلاحقنا صورة المعتقل المكبل بالجنزير على السرير وخلفه طفل ضاقت به الجدران.
*تلفزيون سوريا
Leave a Reply