لا يوجد تاريخ محدد في حياة الناس على وجه الدقة يُعرّف تماماً ما يُسمّى بأزمة منتصف العمر، أو حتى يُثبت بشكل علمي أنها أزمة موجودة فعلاً، وتحدث لجميع الناس على حدٍّ سواء. لكنها في أغلب الأحيان تظهر في الفترة التي تتراوح بين الأربعين والخمسين عاماً من العمر، وهي مرحلة تتسم بتغيرات عديدة تتعلق بالصحة والقدرات العقلية. في هذه المرحلة، يبدأ الإنسان بالتفكير في إنجازاته، ومراجعة نجاحاته وإخفاقاته، ما قد يخلق شعوراً بالقلق أو التوتر.

يكتشف الأفراد في منتصف العمر أنهم أصبحوا نسخاً مختلفة عن أنفسهم في الماضي، وهذا التغير يمكن أن يؤدي إلى تأملات عميقة حول معنى الحياة وما الذي يسعون لتحقيقه قبل أن يتقدم بهم العمر أكثر.

لكن، ما الذي يجعل زمناً ثقيلاً عشناه في شبابنا يصبح زمناً جميلاً فيما بعد، نكاد أحياناً نجنّ من فرط الحنين إلى لحظاته وتفاصيله؟

يترافق منتصف العمر غالباً بشعور قوي بالحنين إلى الماضي، حيث يبدأ الأفراد عادة في استرجاع ذكريات الطفولة والشباب، ويفتقدون تلك الأوقات التي كانت تبدو لمعظمنا ثقيلة وزمناً سيئاً يحدّ من حرياتنا وأحلامنا الواسعة. رغم ذلك، كنا ندافع بشدة عن حقوقنا المشروعة أمام كل جهة نراها عائقاً، ونسعى لتحقيقها بكل طاقتنا وقدراتنا، دون أن ندرك أننا نفقد أفضل لحظاتنا وأبسطها والأقل تعقيداً.

في عام 2008، أنجز خبيران في الاقتصاد، هما ديفيد بلانشفلور وأندرو أوزوالد، دراسة قدَّما فيها أدلة تؤكد أن “الرفاه النفسي” للفرد يكون في أدناه في منتصف الأربعينيات، ما يعني أن السنة السادسة والأربعين من العمر هي الأكثر تعاسة وربما الأقل سعادة.

شملت الدراسة الاستقصائية 72 بلداً في أنحاء العالم المتقدم والنامي، وخلصت إلى أن هناك بالفعل “أزمة نفسية” تميل إلى بلوغ ذروتها في منتصف العمر.

أول من أشار إلى أزمة منتصف العمر بوصفها الحالي هو الطبيب النفسي الكندي إليوت جاك سنة 1965. وقد أدخل مصطلح “أزمة منتصف العمر” إلى العلوم الشعبية والطب النفسي، واعتبرها “مفارقة”، إذ إنه في الوقت الذي يصل فيه المرء إلى ذروة الحياة، يلوح الموت في الأفق، فلا تعود فكرة محدودية الحياة مجردة.

هذا الحنين إلى الماضي قد يستدعي لحظات الفرح الأولى، الأحباب والأصدقاء الذين ابتعدوا أو رحلوا، وكل الأحلام التي لم تتحقق. إن الحنين هنا لا يمثل فقط رغبة في استعادة الماضي، لكنه يعكس أيضاً فهم الإنسان لما كان يعنيه ذلك الوقت بالنسبة له وكيف أثر في تشكيل هويته الحالية. إلا أن هذا الحنين قد يصبح هاجساً طاغياً يُضعفنا أحياناً، حيث لا تملك النجاحات الحالية سحرها الخاص كما كانت تفعل في إسعادنا وإسكات هذه النوستالجيا المتوحشة.

لكن يمكن أن يكون الحنين إلى الزمن الجميل شيئاً إيجابياً، يعمل على تعزيز وتقدير الذات، إذ يدعو الأفراد لتقدير ما أنجزوه ورؤية تطور حياتهم، بشرط ألا يتحوّل هذا الحنين إلى مجرد استعادة مؤلمة لماضٍ جميل يُعيقهم ويؤدي إلى الإحباط أو الشعور بالعجز عن تغيير مسار الحياة الراهنة.

من الضروري التمييز بين الأنشطة الهادفة التي تسعى إلى تحقيق نهاية محددة، والأنشطة غير الهادفة التي ليس لها هدف معين.

***

نعتقد عادةً أن الأنشطة الهادفة فقط هي التي تجعل حياتنا سعيدة وذات معنى، ولكن ليس هناك سبب لذلك. يمكن أن نجد ضالتنا في “الرحلة نفسها”، أي في الرضا النفسي، بقدر سعادتنا ورضانا عن أنفسنا عند تحقيق الهدف الذي نسعى إليه.

ربما يكون الحل لأزمة منتصف العمر في تعلم العيش في “دائرة الحاضر”. تستشهد مارثا نوسبوم في كتابها التقدم في العمر بعمق بالفيلسوف أرسطو، الذي انتقد كبار السن ممّن يكثرون من الحديث عن الأيام الخوالي فقال: “إنهم يعيشون بالذاكرة بدلاً من الأمل، وهذا هو سبب بؤسهم”.

مع ذلك، يرى المفكرون الحديثون أن الذاكرة والمشاعر المتجذرة في الماضي قد تكون مفاتيح للسعادة والأمل بالمستقبل. علينا أن ندرك أن الماضي يشكّل حياتنا الحالية بطريقة أو بأخرى، وأن استرجاع عواطف مثل الشعور بالذنب والندم قد يكون ضرورياً لفهم أنفسنا بشكل أعمق.

على مستوى العلاقات الاجتماعية، قد يدفع الحنين إلى الزمن الجميل الأفراد إلى تعزيز الصداقات القديمة، أو إعادة التواصل مع أشخاص كانوا مهمين في حياتهم، مما يعزز الروابط الاجتماعية ويمنح إحساساً مرضياً بالانتماء.

لتجاوز التحديات المرتبطة بمنتصف العمر، من الضروري تبنّي استراتيجيات فعالة للتكيف، مثل ممارسة النشاط البدني، والاستمرار في التعلم، والانخراط في الأنشطة التي تثير الشغف والاهتمام.

يمكن للحنين إلى الماضي أن يكون إما عائقاً يستنزف وقتنا وطاقتنا، أو محفزاً لنمو شخصي وإنجازات جديدة. التحدي يكمن في كيفية استثمار هذه الذكريات لتعزيز حاضرنا ومستقبلنا، وتحويل التجارب السابقة إلى خطوات نحو تحقيق رؤية مشرقة للمستقبل.

*تلفزيون سوريا