“لو أنّك حبلت بطفل لكان عمره اليوم سبع سنوات”، قال نديم جملته بهدوء وهو يتناول طعامه. بدا متأثّرًا، لكنني لم أكترث لأن أبحث عن ندم في صوته أو كلامه. كلّا، لم أعد أريد دراما، لكني فجأة سمعت صرخة تهتف: “ماما!”.

أمام غرفة مضاءة بضوء خفيف يصدر من مصباح موضوع فوق كومود عاجيّ اللون، وقفتُ وهو خلفي، هادئ، ينظر متفحصًا وجهي وما يصدر عنّي: “أها، هذه غرفة هارون الرشيد إذن”. ضحك بتفاخر، وأخفيت توتري خلف سرعة حركتي وتفحّصي كلّ ما يريني في المكان بعجل.

كان قد دعاني إلى الغداء، ربما عاداته الفرنسيّة جعلته يقرر أن يكون غداءً، لأنه لم يرد أن يمنحني شعورًا بأنّ خلف تلك الدعوة أيّ رغبة في أيّ علاقة سوى العمل أو الصداقة على أبعد تقدير. وكنت قد قبلت دعوته، لأنني أريد أن أعرفه أكثر، ربما لأنني أنجذب إلى الرجال الناجحين.

أعددت السَّلطة وهو حضّر السفرة، لم يكن غداءً بالمعنى الحقيقي، لأنّ بيت رجل أعزب، وربما غير مكترث باللقاء، كان شبه خاوٍ ممّا يمكن أن يُعَدّ وجبة، لكننا تحدثنا، وبدا وكأنه يحاول أن يكون على طبيعته، فأكل اللبن والزيتون، وأوصاني بأكله رغم دهشتي من ذلك. تحفظت في أفعالي. كنت خجلة منه، أشعر أنّني أشاهد ما أعيشه لا أشعر به.

كان الجو شتاءً، لكنه اكتفى بقميص أزرق، أظهر سمرته بوضوح، ناولني فنجان النسكافيه، رشفت منه وأنا أنظر إلى إحدى اللوحات التي رصها فوق جدران بيته. قال: “إحدى الصديقات أهدتني إياها”، سمّاها ولم أكترث لاسمها، وباغتني شعور أنّه يحاول أن يقول لي: “لست وحدك”.

شدني من يدي نحو لوحة في غرفة أُخرى، “تعالي أريك”. كانت لوحة لامرأة عارية، كم يمجّد الجسد، هذا ما قلته في نفسي، راح يتكلم عن عظمة الجسد وروعة خلقه، وأنّ المرأة هي التجسيد الأكثر كمالًا، وأنّ جسدها يشبه الغيتار أو الكمنجة، وأنّه حين درس الرسم، كان ينام مع الموديل التي يرسمها ثم يرسمها من دون أن تقف أمامه. قال كلامًا كثيرًا وكنت أصغي، وضع يده خلف كتفي وحين انزلقت متحسسة بخفة أرهفت سمعي.

في مطار القاهرة انتظرت سائق التاكسي أكثر من ساعة. كان الموظف يتذمر من وقوفي بالباب: “أرجوك يا أستاذة ما ينفعش تقفي هنا، ادخلي جوّا لو سمحت”. كنت أتذمر بدوري، فرقمي المصري لا يعمل، ولا أعرف كيف سأتصل بالسائق. وجدتني أقول لأحدهم: “لو سمحت، ممكن أستعمل تلفونك”. التفت الرجل الأنيق الأسمر، وإذا بي أمام نديم، أرخيت يدي فوق كتفيه، وهو أقبل بمحبة وطيبة، تبادلنا أرقام الهاتف، وأخبار سنوات بسرعة، اتفقنا على لقاء قريب على الغداء.

كنت مشغولة طوال الأيام التي تلت لقاءنا بإنجاز النسخة الأخيرة من الترجمة التي أعمل عليها. لم أنتبه إلى اتصالاته. ليلًا عاودت الاتصال به، لكن لم يُجب، هل عاد إلى عناده؟ ربما، ولكني لم أعد تلك المهووسة التي تلاحقه في أيّ وقت، وتريد أن تكلمه متى شاءت، وربما لم أعد مهتمة، ولقاؤنا ليس أكثر من صدفة لطيفة. نِمت ليلتها نومًا متقطعًا، بين حلم ويقظة كنت أرى نفسي أسافر، أطير لكني شجرة، أدخل أبوابًا فتسقط أوراق، وأخرج من أبواب فتسقط أُخرى وأحلّق فوق أرض قاتمة، غريبة عني، لا ناس فيها ولا حجر، أرض جرداء سوداء منبسطة ومهجورة ومخيفة، أطير وثوبي يرفرف وقد استحال شفيفًا أبيض، كتلك الستائر البيضاء الموسلين فوق سرير نديم.

– أين أنت؟ تعالي إلى المول إن كنت متفرغة اليوم، سأكون هناك عند الواحدة، منتغدا سوا.

تفقدت مواعيدي، لا شيء اليوم قبل السادسة.

اتفقنا، أراك هناك.

– لا لست في علاقة.

– أستغرب كيف لامرأة جميلة أن تكون وحيدة.

في الحقيقة لا أشعر أني وحيدة. مستأنسة أنا، وبصراحة كلما تعرفت إلى أحد أفكر أني سأبدأ من الصفر، وأنتظر وأصبر، وأحتوي وأحب وأعلم وأسامح وأعطي ثمّ… “ما عاد إِلي خلق على حدا”. غرز الشوكة في قطعة اللحم بصمت. تفقّد هاتفه، أنهينا غداءنا مستمتعين بالحديث، أخبار من هنا وقصص من هناك وتعليقات وتحليلات عن الوضع والحرب في لبنان وفلسطين ورأيه وأحوال البلد هنا، والضائقة الاقتصادية.

قال إنه عائد إلى بيروت، وبعدها إلى إسطنبول. هو دائم السفر كما عهدته، تمشّينا قليلًا في المول، اشترى كرافات وقمصانًا. لم يتغير اهتمامه بمظهره، ونظافته الواضحة، ولا نظراته إلى النساء اللواتي مررن بنا. طلب سيارة. لم أكن أتوقع أن يكون بيته في الحيّ الذي أسكن فيه، في الطريق تجنبت نظرته كما تجنبت هروبه ومحاولاته أن يبدو شاردًا، لكني شعرت بالارتياح، بصفاء عذب، فسرحت قليلًا في ما كان بيننا. يبدو من دون ملامح، لا بفعل الزمن ولكنه وُلد مشوّهًا، علاقة لم أعرف لنفسي مكانًا فيها، ولا أعطاني حقًّا في تسميتها. ابتسمت بصمت وأنا أعرف أني سامحته، وسامحت نفسي والماضي، ونظرت نحوه وهو يتكلّم المصرية مع السائق مداعبًا، وتذكرت كم أحببته.

حين التقيت نديم، كنت أعمل في مؤسسة تعليمية كبيرة، وظيفة بدوام ثابت ومعاش ثابت وحوافز وتعويض، والأهم أنها راضٍ عنها والداي والمجتمع وجارتنا أم عمر، التي تباهت حين عملت بنتها في وظيفة مشابهة: “سافرت رنا عالخليج الأسبوع الماضي، قاعدة بفيلا، بتعلّم بمدرسة إنترناشونال وحتجي بالصيف”. ابتسمت لجارتي التي تواظب يوميًا على تنظيف البلكون وأنا أسقي حوض الزرع وأرشّ أرض بلكونتي بالماء، وأبتسم لزهوها الساذج.

ابنتها ستعمل في مؤسسة رأسمالية، تدّعي المثالية وتهضم حق الموظف، تحتفل بعيد المعلّم، وتمسح كرامة الأستاذ بخرقة بالية، تقمع صوت الإبداع، وتقتل الطموح وتلقّن التنافس والتباهي، والأغلب أنّها تُدار بالقيل والقال أو المحسوبيات. لا يهمّني بصراحة أن أناقشها أو أخبرها أنّ معاش ابنتها سيُصرف في شراء أشياء لا تحتاجها، ولن تجلب لها السعادة… وقفت على بعد خمس سنوت من تركي التعليم، وقد تركت خلفي امرأة تركض في الملعب وفي الكوريدورات، وبين الصفوف، تطحنها صرخات التلاميذ والفرامانات الإدارية وغيرة الزملاء وخوفها على عائلتها وشعورها المُلحّ بضيق المكان وسرعة الزمن وانفلات الأحلام. كانت أُم عمر تنهي مسح بلكونتها حين انتبهت إلى أنّ الماء قد غمر الحوض واندلق الطين على قدميّ.

اليوم ببودكاست 64 بستقبل ضيفاً أشهر من أن يُعرّف. أكتب جملة ثم أمحوها، أخاف من سلاطة لسانه إن لم يعجبه الكلام، وأخشى أن أقصّر في حقه أو أبالغ في مدحه. رباه لقد تورطت بدعوتي له إلى برنامجي، رغم أن مديحه الدائم منذ لقائنا الأخير يمنحني شعورًا بالطمأنينة، وأني لا أرغب في إثارة إعجابه بأي كلام أو تصرف، إنما أريد أن أعطي الحلقة حقّها من التركيز والدقة، إلّا أني أشعر بالتوتر. هذا الرجل يوترني، وإن لم يقصد.

– كم امرأة دخلت بعدي تلك الغرفة؟

– هل قبّلتهن بالشغف نفسه؟

– هل قلت أحبك؟

– لماذا تركتني؟

– لماذا لم تفهم أني مجرد فتاة بسيطة. لِم لَم تعرف كيف تروّض جموح تلك الطفلة؟

– كيف استطعت أن تنسى وتقسو وتتجاهل؟ هل نسيتني؟

– نديم بيك الكبير هل أحببتني؟

– لماذا التقينا من جديد؟ كيف ستتصرف؟ هل ستهرب ثانية؟

– نديم حبيبي، أريد طفلة عمرها سبع سنوات.

مدام رؤى اتصل الأستاذ نديم وقال إنه سيتأخّر قليلًا. هل نبدأ التصوير مع الضيف ريثما يحضر؟

أنظر إلى محمود، أطيل النظر، يستغرب الرجل، يظنّ أني بلهاء، يبتسم ببلاهة ويكرر سؤاله. أقف، أتقدم من باب الاستديو، أجلس ثم أعاود الوقوف، محمود بالباب، قميصه الأزرق يبدو مكويًا بعناية، أمسك بيده، أتحسّس الشعر الكثيف فوقها، أنظر في عينيه العسليتين، أغمض عينيّ، أشده نحوي، تنزلق يده، يعصرني، يمسك فمي كي لا يسمع أحد تأوّهي، أطير…

*العربي الجديد