ــ أنظر إليها من هنا، من هذه الزاوية، كم تبدو منشغلة! لا تترك شيئًا يفلت من يدها إلا لتلتقط آخر. قال الرجل الأول متأملًا المرأة من نافذته.
صمت قليلًا، ثم أضاف:
ــ من حيث أنظر، تبدو وكأنها تكرّس نفسها بإخلاص لكل ما تفعله. لكني أعرفها جيدًا… لم تكن حاضرة يومًا. إنها تدور حول نفسها كصغير سنجاب ضُرب بحجرٍ على رأسه.
ــ هذا حكم سطحي وقاسٍ، يا صديقي. إن دار سنجاب حول نفسه، فلا بد أن الضربة تؤلم. وإن لم ينتحب السنجاب أو يخربش المعتدي فلا بد أن يفرّغ ألمه بالحركة والدوران حول نفسه. من ثم، فما يَشغل الجسد واليدين لا يتماشى بالضرورة مع ما يَشغل القلب والروح. قال الرجل الثاني هذا قبل أن يستدير متابعًا النظر إلى المرأة من خلال النافذة الأخرى.
كانت المرأة تتحرك بحيوية في الأسفل. بجينز ضيق، وسترة سوداء، تعبر بالخطوات الرصينة ذاتها شوارع المدينة، تحت المطر، أو أشعة الشمس. في الصباح تحمل حقيبة دبلوماسية، وفي المساء تقرع بكعب عال أرصفة المدينة حاملة حقيبة يد تتسع بالكاد لهاتفها. تعمل أيام الأسبوع، وتتفرغ أيام السبت والآحاد للقاء الأصدقاء، وقضاء الوقت في أكثر الأماكن صخبًا في المدينة.
ــ يُشغل المرء منّا يديه لئلا ينشغل بما في قلبه. قال ثالثهما من دون أن ينظر في أي اتجاه.
التفت الرجلان الواقفان قرب النافذة نحوه، وسألاه من دون أن يحركا شفاههما: وكيف تعرف؟
ــ لأني أحبها، أعرف قلبها.
استدارا وعادا إلى مراقبة المرأة، كل من نافذته، بينما واصل الثالث شدّ بعض الحبال كأنه يجهز قاربًا للإبحار. لم يبدُ عليه الانشغال مع ذلك، لا بنفسه ولا بالمرأة. قال ما قاله بثقة، ثم التفت لرحلته.
بعد برهة، وصل قارب صغير قديم. سأله الرجلان مجددًا، من دون أن يحركا شفاههما: إلى أين؟
ــ إليها. أجاب الثالث.
ــ إذن، حان دورك؟ سأل الأول، لكنه لم يتلقّ إجابة.
أعاد نظره إلى النافذة، وانتظر حديث جاره.
ــ الحب يملأ قلبها، لكنها لم تدرك ذلك بعد. قال الثاني.
ــ وهل هذه هي الغاية؟
ــ إنها الوسيلة.
تبدّل المشهد في الأسفل ببطء. توقف قاربٌ على حافة نهر بالقرب من بيت خشبي. ظهرت المرأة، فارغة اليدين هذه المرة، بثوب أبيض يغطي جسدها النحيل، وشريط أزرق يزين مقدمة الرأس. مشت بخفّة نحو القارب، وخصلة من شعرها الطويل انسدلت على صدرها، بينما ضُمّت الأخرى خلف أذنها. دقّق الأول فيما يرى وقال:
ــ إنها تلبس الأبيض له وحده.
ــ وتطيل شعرها له وحده. قال الثاني.
ــ مع أنني حاولت معها كثيرًا. قال الأول ثم أضاف ببعض الحزن:
ــ ربما لم يكن عليّ المحاولة حتى، لم ترتدِ الأبيض لأجلي يومًا، وأبقت شعرها قصيرًا كصبي.
ــ مؤكد أنها لم تفعل ذلك عن عمد. نحن انعكاسات لرفقاء دربنا؛ كل حركة وفعل وكلمة هي صدى لما في قلوبنا تجاههم. هي أيضًا عمياء، مثلنا جميعًا هناك.
ــ أهي إحدى مهامك أن تكون وسطيًا، أم أنها طباعك؟ لستُ غاضبًا منها إذ أقول ذلك، ولست معاتبًا إلا بسبب حبي لها.
ــ إن كنت تسألني جادًّا فسأقول: أنا أيضًا أحببتها، وعرفت ما ترغب فيه وما تكرهه، لكن شيئًا ما منعني من أخذها إلى الحد الذي أجعلها تطيل شعرها من أجلي.
صمتا لبعض الوقت، وتابعا المراقبة. كان الثالث برفقتها، يجلسان عند قدم شجرة ويتحدثان كرفيقين وفيين. بدت مختلفة، هادئة، كثيرة الابتسام… بل بدت كاملة.
قال الأول بعد أن عجز عن كتمان غضبه:
ــ أنا أيضًا أحببتها، لكنها كانت صعبة. لم تجلس معي بهذا الهدوء، لا تحت شجرة ولا فوقها، بقيت كعمود خشبي، كجدار. لا أحد يعلم متى تكون زائفة، ومتى تكون حقيقية. تبًا لها.
ــ هوّن عليك. ربما لم يكن حبًا. قال الثاني متشككًا.
ــ كيف ذلك؟ لقد اعترفت أنها أحبتني لحناني، تخيّل؟
ــ أي نوع من الحنان؟
ــ حنان الأب. “أنت حنون كأب” هذا ما قالته.
ــ لقد أصابت، حتى وإن لم تُدرك ما قالته آنذاك. لم تحبك، كانت تبحث عن أب.
ــ كل النساء يبحثن عن أحبة يشبهون آباءهن.
ــ هذا ليس صحيحًا، يحدث ذلك كأول ثأر، ثم عندما يحققنه، أو حتى يتجاوزنه، يخفت الحب حتى يختفي. أقصد أنهن، ما إن ينضجن، يعرفن أنه لم يكن حبًّا.
ــ فماذا كان عليّ أن أفعل؟
ــ ما فعلته تمامًا. ليس ثمة خطأ في ما فعلت. أنت أيضًا لم تعرف قلبها. قال الثاني.
ــ فهل عرفته أنت؟
ــ إنها نصفي، لكني لا أستطيع فعل شيء من أجلها. لم يُسمح لي بالاقتراب منها إلى هذا الحد.
ــ فلم تقف هنا وتراقبها كأن الأمر يعنيك؟
ــ يعنيني أمرها بالفعل. أنظر إليها. منذ أن اقترب الآخر منها اكتملت، حتى صدرها تكوّر، وحتى حركة وركها صارت أنعم! هل لاحظت ذلك؟ قال الثاني من دون أن يتوقف عن تأملها من نافذته.
كانا هناك، المرأة النحيلة و”الذي يعرف قلبها”، يفترشان الأرض، ويتحدثان. لكنها لم تعد نفسها، تغيرت تمامًا، لم تعد الأرض تحملها، صارت هي الأرض.
ــ إنها تنتمي للمكان كما لم تكن يومًا. أقصد كما لم تكن يومًا عندما كانت برفقتي. أفكر في ما قد يتغير فيها لو نزلت إليها الآن.
ــ لا شيء. لن تنمو معك ولن تتغير، أنت تعيق فيها شيئًا. لكن نعم، عليك أن تذهب إليها كلما حان دورك.
ــ هل هذه لعبة؟
ــ مسرحية. أقصد، هذه هي الطريقة المتعارف عليها هنا لإنقاذها.
ــ ممن؟
ــ من نفسها.
ــ فليبق ذاك “الذي يعرف قلبها” عندها إذن، وينتهي الأمر. سعادتي لأجلها تفوق آمالي بالعيش قربها، ولأني أحبها سأضحي بها من أجلها.
ــ لا يمكن. لن ينزل إليها ذاك “الذي يعرف قلبها” إلا ليريها مثالًا عمن ستكون فيما لو أنقذت نفسها. هذا هو دوره الوحيد. لا يمكنه البقاء طويلًا هناك.
ــ إن كان هو مجرد مثال لها، وأنت ممنوع عليها، وأنا مُعيقها، فما الحل في رأيك؟ أراها رائعة الجمال بهذا الأبيض، وهذا الشعر الطويل. لو قُيض لي أن أبقى معلّقًا بهذه النافذة لرؤيتها على هذه الصورة، لما رفضت، ولا تزحزحت. وصدقني حتى صحبتها له لن تزعجني.
ــ إن استطاعتْ تجاوز إعاقتك وغيابي، ستفوز به، وبالأبيض، وبالأرض، وبنفسها.
ــ فهل ستنجح؟
ــ لا نسأل عن نجاح هنا. نحاول فحسب.
صمتا لبعض الوقت، وتابعا النظر إليها من فوق. كانت قد اقتربت من مجرى نهري. رفعت ثوبها ونزلت بخطوات رشيقة إلى الماء. يتبعها من خلفها ذاك “الذي يعرف قلبها”.
ــ هل سنبقى طويلًا بالقرب من هذه النافذة؟ سأل الثاني.
ــ إلى حين ينتهي المشهد هناك، وتنضم إلينا لنقوم بجولة جديدة ومشهد جديد. توقف قليلًا ثم أضاف: إلا إذا تطلّب الأمر خروجًا عن النص. ثم نظر إلى الآخر سائلًا:
ــ لم تسأل؟ أنت تعرف كل ما يحدث هنا مثلي تمامًا.
ــ أنت على حق. لم تكن غايتي السؤال. كنت أتفادى أمرًا يحزنني.
ــ ما هو؟
ــ كنت أفكر في دوري.
ابتسم الاثنان، ثم قال الأول:
ــ هو الجائزة. لا أنا ولا أنت.
ــ لكنني نصفها.
ــ لو كان الأمر ينقضي بحكايات الأنصاف، لأُرسلتَ إليها. لكن الوعد يقتضي أن تكونَ كاملة. وسيكون “الذي يعرف قلبها” جائزتها إن حققت ذلك.
ما إنْ أنهيا كلامهما هذا حتى رأيا القارب إياه. وقفت المرأة تودع رجلها وهي تضم إلى صدرها رسالة مكتوبة بخط اليد. لكنها لم تكن ترتدي ثوبها الأبيض، بل صدرية بيضاء، من تلك التي يرتديها العاملون في المشافي. كانت قادمة من عملها لتودّعه.
ــ المهم أنها ترتدي الأبيض له. قال الثاني.
شدّ “الذي يعرف قلبها” الحبال مرة أخرى، فكَّ العقد، دفع القارب قليلًا إلى الماء، قبّل جبينها، وأبحر.
في الغرفة العلوية، حيث يقف الرجلان صدر صوت خبط أقدام. لم يكن عليهما الالتفات لمعرفة القادم؛ إنه هو، رجل كالحائط المصمت، سليط اللسان، ويثير الصخب أينما حلّ، أو تحرك. وقف خلفهما ونظر بعين حادة إلى الجدار بين النافذتين.
لم تكن للرجل الرابع نافذة ليطل منها على المرأة. لم يكن يهتم بالنوافذ أساسًا، ولذا لم يسع إلى ثقب الجدار من أجل رؤيتها. كان ينزل إليها كلما نُودي عليه، يؤدي دوره ثم يعود. لم يحتج إلى مراقبتها، ولا إلى معرفة ما تحب وما تكره؛ صخبه يمنعه من ذلك على أية حال.
ــ أتساءل كيف ستتحول معه. قال الثاني مشيرًا إلى الرجل الرابع الواقف خلفهما.
ــ ألم ترهما يومًا معًا؟ لا ترتدي غير الأسود في حضوره. وقاحته وصخبه يسممان الدماء في عروقها، لكنها تختار أن تلعب الدور معه مرارًا وتكرارًا. ردّ الأول بغضب.
في الأسفل تبدّل المشهد فجأة. اختفى الرجل من خلفهما، وتغير كل شيء من دون إنذار. لم يبحر الرجل الرابع إليها كما أبحر “الذي يعرف قلبها”، لم يتهيأ ولم يهيئها لمجيئه، بل نزل عليها مثل صاعقة خريفية.
في الأعلى، كان الثلاثة: نصفها، ومُعيقها، و”الذي يعرف قلبها”. أما هي، فكانت في الأسفل، تجلس أمام باب بيتها، برداء متمازج الألوان تطغى عليه القتامة. وكانت مجددًا مشغولة اليدين. خلفها يقف الرجل الصاخب، يصرخ ويدفع طفلًا أمامه.
الإيقاع سريع في هذا المشهد. ما إن رأت المراة الرجل الصاخب حتى تحرّكت على الفور، سحبت الطفل إليها، وبدأت بالسب والشتم. وكلما تسارع الإيقاع، حُجبت الرؤية عمن في الأعلى.
أبعد الرجل الثاني عينيه عن النافذة قائلًا:
ــ هذا كثير عليّ.
قال “الذي يعرف قلبها”:
ــ أمامها كثير بعد. لكن ما سيشجعها على الخروح من كل هذا هو ذكرى الثوب الأبيض، والشعر الطويل، والأرض التي أرضعتها ثقتها وهدوءها.
ابتعد الرجال الثلاثة عن النافذة، وغادروا المكان إلى حين. لم يكن أي منهم بقادر على النظر إليها بعد، إشفاقًا ويأسًا، واعتقادًا راسخًا بأن هذه المرأة تستحق أن تُرى في أفضل حال.
غادروا النوافذ المفتوحة على حياتها، وكان سبابها يملأ الآذان على الأرض، وفي الأعالي.

*ضفة ثالثة