الرقابة الدينية والسياسية موجودة منذ بدء التاريخ ويجب محاربتها

جاكلين سلام

شاعرة، كاتبة ومترجمة سورية كندية مقيمة في تورنتو منذ عام 1997. صدرت لها ست مجموعات شعرية، وكتاب حوارات ومقالات وترجمات بعنوان: حوارات على مرايا الهجرة. ولها مقالات نقدية في الثقافة والأدب والمجتمع منشورة في صحف ومجلات عربية وكندية.

محطات.. لقاءات مع كبار كتاب العالم في مهرجانات الأدب في تورنتو

كنتُ محظوظة أو شغوفة بالآداب العالمية وروادها وكان لي فرصة حضور لقاءات مع كبار المبدعين والمفكرين أثناء زياراتهم إلى كندا ومنهم الإيطالي العالمي أمبرتو إيكو، سلمان رشدي، وول سوينكا، آذار نفيسي، مارغريت أتوود، جون رالستون صول، أليس مونرو، و ألبرتو مانغويل الذي هو محور هذه الورقة.

التقيتُ مع المبدع الموسوعي ألبرتو مانغويل أيام مهرجان تورنتو العالمي للمؤلفين سبتمبر 2023 وكنت مشاركة ومحاورة حول موضوع (الشعر والحرية) ودار بيننا حديث طويل قبل وبعد المحاورة الرسمية في الصالة. كنت أستمع وأسأل وأكتب أقواله في دفتري مترجمة من الإنكليزية إلى العربية. وأقدم هذه البانوراما لأفكار ألبرتو مانغويل لقراء العربية وهو يعلم بأن له حظوة ومقاماً في الشرق الأوسط ويحظى بالتقدير، وقال بلسانه عن نفسه أنه محظوظ، ويعرف بعض المبدعين الجيدين الذين لم يحالفهم الحظ في الانتشار.

هل يمكن لامرأة أن تكتب كما لو أنها وحيد القرن

كنا عدة كتاب من كندا واسبانيا والارجنتين، خلال حوارنا مع ألبرتو مانغويل تحدثنا عن الكتابة، قلت له: أنا أكتب من موقعي كامرأة شرقية، كمهاجرة، كأم، كزوجة، كإنسانة عاشت مخاض الاغتراب وتجربة اللغة الأولى والثانية. كان يسمع بصبر، ثم قال: ألا يمكنك أن تكتبي كما لو أنكِ وحيد القرن!؟

فضحكت ولم أجد جوباً. وكلما رأيت صورة (وحيد القرن- يونيكورن) في قصص الأطفال وعلى ثياب حفيدتي، أبتسم وأتذكر تلك الإشارة الذكية والمرحة.

الفكرة، أن تناقض مقولة (اكتب ما تعرفه)، بل اكتب ما لست أنت، وما لا تعرف كي تكتشف.

حين جاء ذكر الشاعر محمود درويش، وكان قد التقاه في باريس ويعرف سيرته الشعرية ومواقفه. وفي الحديث عن أن الشاعر صوت الأمة قال مانغويل: هم اخترعوا للشاعر هذه الصفة، هو لم يكن يريد ذلك لشعره. وذكر لنا بأنه منذ سنوات حاول مع آخرين افتتاح مكتبة ضخمة مجانية في رام الله، فلسطين، بمعونته الأمم المتحدة، ولكن الحلم لم يكتمل بسبب الخلافات بين أطراف السلطة الحاكمة في فلسطين. تحدثنا عن الترجمة إلى العربية، ذكر بأن مترجمته إلى اللغة الفرنسية، وهي سيدة عربية (سين) ارتكبت غلطاً في ترجمة مادار بينها وبينه من حديث إلى الفرنسية وفهم من كتابتها لمقدمة الكتاب بأن الذي يجمعهما “حميمي” وهذا غير صحيح، والترجمة تخون الكاتب، قالها وهو يضحك.

لفتت نظري أناقته الفارهة ابتداء من حذائه إلى قبعته. وحين سألته عن الخاتم المميز الذي في إصبعه، حدثنا عن أسطورة اقتنائه وتاريخه. يبدو لي لو أنه جاهز لكل سؤال والعفوية لديه نابعة من كنز المعرفة التي في رأسه وهو عاشق المكتبات والقراءة والقراء في الشرق والغرب.

ألبرتو مانغويل يستهشد بجملة لي في مهرجان تورنتو العالمي للمؤلفين

جلسة حوار طويلة حدثت دون تدبير مسبق من قبلي، بل كانت صدفة ثمينة للحديث الكندي الارجنتيني، وكانت الكاتبة التونسية العراقية سمر المزغيني حاضرة معنا حول طاولة مستديرة صغيرة بالمناسبة هو يفضل التعريف عن جنسيته وهويته بأنه كندي وفقط فهو يحمل الجنسية الكندية ويقيم متنقلا بين كندا وبلاد أخرى.

كنا نتبادل الأفكار عن الكتابة والترجمة، عن كتبه ومترجميه إلى العربية، ودور النشر، كالساقي وغيرها. أثناء الدردشة ذكرتُ فكرة وفقرة من قصيدة لي بالانكليزية، وكان ينصت إليّ جيدا. أعاد ما قلته وتوجه إلى الأصدقاء الآخرين حول الطاولة لإيصال تلك الجملة لهم. والتقطنا حينها بعض الصور. إلى أن حان موعد جلسته الرسمية. الجلسة الرسمية لمحاضرته معه بدأت في السابعة مساء، وكانت مشاركة مع كاتب ومترجم شاب برتغاليJoao Reis  ويترجم من والى عدة لغات. قلتُ: الحكايات- نصف المحكية، هي التي تهمني وأحاول كتابتها.

الصالة الرسمية وأسئلة الحضور

أثناء الأسئلة المطروحة من قبل الحضور، وسؤال من قبل الصديقة التي كانت جالسة جواري “سمر المزغيني” عن لماذا يكتب ولمن؟ فاجأني في إجابته لصديقتي بالإشارة إلى الجملة التي قلتها أثناء المرتجل قبل ساعة. لم يتذكر اسمي- أول مرة التقي به شخصيا كي يشير إليه. فأجاب: الشاعرة التي تجلس في جوارك قالت: نكتب من الحكايات- نصف محكية. ثم توسع في الرد حول الكتابة من أجل تلك الحكايات غير المكتملة، مع ترك مساحة للقارئ للتخيّل والتأويل.

البرتو مانغويل القارئ العالمي والكاتب الموسوعي، اقتبس جملة مني -جاكلين سلام كاتبة هذه السطور-  جملة شعرية رددها بإعجاب عن لماذا نكتب ولماذا أنا أكتب الشعر. كانت تلك بمثابة جرع ثقة، تلقيتها بذهول، وليس الغرور ما شعرت به بل الغبطة، بذلك الإحساس والامتنان للشعر والأدب الذي يبلور جهودنا ويجمّل وجودنا.

بعد نهاية الحوار كان هناك ركن لتوقيع كتبه القديمة والجديدة. اشتريت آخر كتبه هو كتاب بيوغرافي عن سيرة العلامة (بن ميمون). لاحظت أنه يوقع للقراء على مهل وفنية كمن يكتب قصيدة قصيرة أو يرسم صورة بخط اليد وبقلم حبر أنيق. كتب لي الإهداء، فقلت له حين انتهى من التوقيع: أنا أثمّنُ أنك كنت تتحدث عن الكاتب الشاب الذي في الجلسة معك أكثر مما تحدثت عن نفسك، كنت لي مثالا سأذكره في كتاباتي. ابتسم وهو يربت على يدي: “إنها مسألة احترام ولطف”.

كانت فعاليات المهرجان الأدبي في مدينة تورنتو الكندية ابتداء من يوم 21 سبتمبر ولغاية الأول من أكتوبر 2023.

*****

أفكار جمعتها أثناء حديثنا معا ومحاضرته والحوار المباشر

* “على الكاتب أن يعلّم القارئ كيف يقرأ وهذا يسمح للقارئ أن يتابع ويشعر بالمتعة“.

* “قدر الشاعر أن يتلقى الوحي ويلقيه على الآخر وأحيانا فقط يلامس البعض. أعرف كتابا وشعراء كبار لم يحالفهم الحظ“.

* “القارئ يتلقى صوت الكاتب ثم يعيده ويفسره كما يريد فيما بعد“.

* “أغلب الأوقات نحن نعاني من تناقض الأصوات التي تقول لنا إلى أين يجب أن نمضي“.

* “نحن لدينا دور في هذا العالم، ويجب أن نكمل طريقنا حن ننظر إلى كل ما يجري من حولنا“.

* “الرقابة تقف ضد الإبداع. يجب علينا تجنب الرقابة، وإذا استمعت إلى صوت الرقيب سوف تتأثر كتابتك. والرقيب يقيم ومنذ بدء الكتابة. الرقابة الدينية والسياسية موجودة منذ بداية التاريخ. يجب أن نحارب كل أشكال الرقابة“.

* “قد يجد الكاتب صوته إذا قام الناشر والسلطة والحكومات بمحاصرة الرقيب، حينها ينتصر صوت المبدع“.

* “إذا كان الكتاب الذي أكتبه لا يزعج أحداً فلا ضرورة له. أريد من القصة أن تضربك على وجهك لتستيقظ“.

* “الأدب لا يعطيك كل شيء ولا يجعلك شخصاً أفضل“.

* “لا أومن بأي عمل متحيز جنسياً وجينياً. نحن نريد أن ننظّف التاريخ“.

* “كلمة زنجي كانت مستخدمة في الأدبيات التاريخية فلماذا نريد أن ننظف المكتبات من تلك الكتب التي كانت شاهدا على تلك الفترة والمصطلحات. إذا كان التاريخ وسخا لا تنظفه وتلمعه“.

* “قارئ الأدب حين يقرأ كتابا مهما يسأل: ما هو هدف الكاتب، وما هي حدود حريتنا في ترجمة هذا القول”.

* “الأديب يكتب والقارئ يترجم ما يتلقاه إلى لغات أخرى”.

* “لا يعرف الكاتب الهدف والغاية لأن ذلك يعتمد على المتلقي، أنا أقرأ من تجربتي، حين أقرأ الأوديسة، وأخذ ما يهمني. ما هو مهم بالنسبة لي قد لا يكون كذلك للآخرين”.

* “يجب أن يكون المترجم مخلصاً للأصل، وقد تكون بعض الترجمات أفضل من النص الأساسي”.

* “الترجمة طريقة لإبقاء الكتب حية”.

* “كي تتغلب على الخوف من الكتابة بلغة أخرى، اقرأ بلغة الآخر”.

* “أدب الكراهية، أنا اسميه أدب الخوف، الخوف من الآخر”.

* “في حياتي لم يحدث أن قرأت كتب عالمية ذات قيمة وشعرت بالكراهية منذ السطور الأولى”.

* “أنا أكتب في الصباح الباكر لأن طاقتي جيدة في ذلك الوقت”.

* “القارئ يريد من الكاتب أن يعطيه ما يحب. القصة تأتي من المسافة بين السطور حيث يستطيع القارئ أن يشارك فيها”.

* “نكتب كي نجد ما لا نعرف لأن الأدب عكس السجلات الوثائقية. ولا يعطي الأدب أجوبة، بل يفتح الذهن على المزيد من الأسئلة”.

* “الأدب يسمح لنا أن نذهب في كل الجهات وفي نفس الوقت، والكاتب يوجه القارئ من خلال المفردات، التحركات، بناء السرد، الحلول المبتكرة”.

* “إذا كان الأدب للإجابة على سؤال واحد بجواب واحد، هذا يعني نهاية الطريق ولا حاجة لنا لمواصلة الكتابة أو القراءة”.

* “نحن البشر طورنا ملكة الخيال ليعطينا فرصة التجربة، دون أن نقوم بالتجربة”.

* “الخيال يمثل عضلات السارد كي يقدم صورة عن عالم مكون من إحداثيات، ألوان، أشكال، ومخاوف…”.

* “في الأدب نحن نخترع العالم. وأثناء القراءة نحن ننجذب لا إلى صوة، صورة معينة، وليس لكل فرد، ونحب الشخصي الذي نحبه نحن لأننا مختلفون، ولا نستطيع أن نشرح لذلك بل نبتكر، نخلق”.

* “إذا أحببت صوتاً لأديب، حاول أن تقلده إلى أن تجد صوتك، خاصتك وتتبناه”.

* “لا يوجد شيء أصليّ بعد، كل شيء قيل وكتب من قبل. ولكن الذي تفعله أنت أنك تعيد نفس القصة بطريقة مغايرة”.

* “أنا لا أريد أن أتحدث عن كيف تكتب قصة، أنت تكتب والصفحة في متناولك وأنت حر في كيفية تحرير نصوصك دون تدخل الرقيب الذي يقف دائما على كتفيك”.

* “أنا لا أريد أن أسمع وأقرأ مشاكل الكاتب والعالم، أريد أن أقرأ ما يمتعني كقارئ، وما يجعلني أكتشف شيئاً جديداً”.

*****

فكرة على هامش التواضع والغرور:

 لماذا يتعامل الكاتب غير العربي بلطف شديد وتواضع وخلافاً لبعض الكتاب العرب الذين تلقيتهم في مناسبات شتى في مهرجانات المدينة ومراكزها الثقافية في كندا وخارجها؟!

كان المبدع الكبير دمثاً ومتواضعاً ومحاورا فضولياً يستمع ويجيب. الحديث معه حصل في صالة مخصصة لاجتماع الكتاب أثناء مهرجان تورنتو العالمي للمؤلفين حيث تدور الحوارات والقراءات في صالات عدة منذ الصباح حتى المساء. الصالة تطل على البحيرة حيث يوجد مقاعد وطاولات للاستراحة لمن يرغب بالجلوس هناك من الكتّاب المدعوين للمهرجان. بعد أسبوع كتبت له عبر الإيميل شاكرة له وقته ولطفه ووعدته أن أرسل له بعض كتاباتي المترجمة كما طلب مني. كتبتُ له إيميلا وكتب رداً وكان ذلك في بداية شهر اكتوبر 2023 حين أصيب العالم بجنون الحرب والقتل مرة أخرى، كان ذلك بعد أيام من 7 أكتوبر 2023. أهديته ديواناً لي بالعربية ولم أرسل القصائد المترجمة حتى الآن.

هامش: هذه المقالة سوف تنشر في كتاب لي يصدر قريبا بعنوان: يوميات القراءة والكتابة، متضمنا تجربتي الأدبية ونشاطاتي في أكثر من ربع قرن في مدينة تورنتو التي تعتبر مركزا حيويا للثقافات الكندية والعالمية.