كان يومًا مباركًا حين تلقّيت (قبل أكثر من ربع قرن) دعوة لحضور مؤتمر المعتمد بن عباد في المملكة المغربيّة، فذهبت إلى دمشق وأخذت فيزا الدخول إلى المغرب، وتوجهت إلى المطار، وأقلعت بي الطائرة إلى القاهرة، وفيها التقيت بالدكتور عبد السلام العجيلي، وهو أيضًا مدعو إلى مراكش، في فندق (شيبرد)، ثم جاء القادمون من كافة الدول العربية.
في اليوم الذي تلا هذا اليوم، أقلعت بنا طائرة أخرى إلى مطار مراكش، وهناك التقينا بالبقية الذين سيحاضرون في سيرة المعتمد، منهم عرب ومنهم الأمازيغ، يضاف إليهم الذين جاؤوا بالطائرة، واليوم الذي يليه بدأت المحاضرات، كنا نجتمع في قاعة كبيرة، وفي فترات الاستراحات كنا نلتقي ونتباحث وفي الليل نتسامر إلى مطلع الفجر، واكتشفت في الحضور الشاعر سليمان العيسى الذي وصل من اليمن، فكان جليسي إلى الطاولة وصديقي الذي لا أملّ من جلسته، كنت أعرفه من خلال وظيفتي في مجلة “المعلِم العربي” في وزارة التربية في دمشق، وكان الموجه الأوّل لمادة اللغة العربية في الوزارة، كنت أزوره في غرفته في الطابق الأوّل وكان لنا حديث وها نحن نتابعه هنا في مرّاكش.
قلت له على سبيل الممازحة: أنت يا أستاذ سليمان لك ثلاث فضائل على المجتمع، وهي، أنك أدخلت الشعر الحديث إلى المناهج التربوية، وأنّك مثابر حتى الآن في كتابة شعر الأطفال، وأنك لم تمدح أحدًا من سلطة دمشق مثل بقية الشعراء.
انتفض وأصبح كتلة أعصاب وصاح: خسئوا أنا لا أفعلها، أنظر لولا عبد العزيز المقالح وزوجتي لمتُّ من الجوع، (كانت زوجته تعمل في الجامعة وقد اعتنى بهما عبد العزيز المقالح).            
عشنا تلك الأيام بفرحة ما بعدها فرحة، فمنذ الصباح تبدأ المحاضرات، وعند المساء كانوا يطلعوننا على التراث المغربي، من ذلك (العرس الأمازيغي) وفيه تحمل العروس على محفّة، ويطوفون بها، تزين بالذهب وترتدي الشناشيل، وكأنها قمر موضوع في هذه المحفة، والزغاريد تندلع من أفواه النساء، والرجال يصرخون بأناشيد لا نعرف معناها، ونحن نصفِق، الجميع في حالة نشوة وحبور حتى يوصلونها إلى العريس الجالس بانتظارها على أحرِ من الجمر.
وأحيانًا أخرى كان الإلقاء سيد الموقف، كانت الممثلة نضال الأشقر تلقي شعرًا علينا نحن المجتمعين في إحدى القاعات فتثير فينا الحزن والفرح، الرغبة والأمل، تميتنا وتحيينا، والشعر الذي تلقيه هو للمعتمد بن عباد، فرح لا توصف، وبخاصة إذا كانت الجالسة بجانبي هي الممثلة سهير المرشدي، التي برعت في فيلم (البوسطجي) مع شكري سرحان فكانا نجمين في الفيلم.
كنا نذهب أنا والدكتور عبد السلام إلى سوق الوطا، نتفرّج على كلِ شيء، على الأفاعي التي يقوم مدربوها باللعب معها، فتتقلب بين أيديهم ويضعونها على رؤوسهم، يقبلونها ويفركون بها وجوههم، وهذا يلعب بالعقارب ويضعها في أوان زجاجية، ثم يسكبها على الأرض ويعود إلى لمِها، وفي السوق تجد كلّ شيء لم تره قبلًا، هنا يبيعون صغار السلاحف، والطيور والعصافير الملونة، وهذا يبيع الخواتم على أنها ذهب، ويقول لك: إنّها من الذهب الخالص، وإنّه ضاقت به الدنيا وجاع هو وأولاده، وعندما تشتريها تعلم أنّه محتال وأنّ هذا الذهب ما هو إلا فالصو، في السوق كلُ شيء موجود حتى الذي لا يمكن لك أن تتخيله.
قام أحد الشعراء وهو من اليمن بالقول إنّه زار القدس فاستقبل بالحفاوة والتكريم، الشاعر مقيم في بريطانيا، وعندما قرّر أن يزور أمّه في اليمن، لم يسمحوا له، لأنه لاجئ سياسي، وإذ ذاك قام أحد الشعراء المصريين وابتدأ الهجوم عليه وقال: إنّ المثقفين المصريين يقفون ضدّ التطبيع، فالسلطة تفعل ما يحلو لها أمّا هم فضدّ كلِ ما يمت إلى التطبيع، وأنّهم بصدّد إصدار بيان يوضح ذلك، المسكين حلف يمينًا أنّه لن يقول شعرًا بعد اليوم ولن يصعد إلى منبر.
حاضر الدكتور عبد السلام في شعر المعتمد، وحاضرت في تاريخ المرابطين، وقد كان للمعتمد صديق يدعى ابن عمار، يتمشّيان كلّ يوم في حديقة أحد القصور، وقد قال ابن عمار نصف بيت من الشعر، وطلب من المعتمد أن يجيزه: نثر الماء على الأرض برد. وكانت هناك مجموعة من الصبايا يعملن في سقي وفلاحة الأرض، فردّت عليه واحدة، وكانت تدعى الرميكية، بقولها: أي در لنحور لو جمد، أعجب المعتمد بها وطلب يدها، وتزوجها، فكانت أحيانًا تحرن، وتقول له: إنني لم أر منك يومًا جميلًا، فيقول لها: ولا يوم الحناء، فتخجل وتسكت، وقد كان مهرها أن تمشي في الحديقة على الطين، فغيره لها بأن جاء بالعطور والرياحين إلى الحديقة وجعلها تمشي عليها.
لقد كان في أشبيلية وكانت غنية، والناس تعيش في ترف، الطبيعة جميلة، والورود والزهور تملأ حدائقها، وطمع بها (ألفونسو) يريد تحريرها من العرب، وكانت بينهما عدّة معارك، وضعفت قوة المعتمد، واستشار المجلس، فطلبوا أن يستعين بيوسف ابن تاشفين، البربري القاعد في مراكش، لبى الطلب، وذهب إليه وطلب نصرته، ولم يكذب ابن تاشفين خبرًا، وجاء إلى الأندلس، وتمت نصرة المعتمد، وعاش الناس في فرح وحبور.
انقضت سنوات وإذ جاءته قوات (ألفونسو) مرّة أخرى، ودحرت قواته وهزمته شرّ هزيمة، فأشاروا عليه أن يستنجد بيوسف مرّة ثانية، فاستنجد به، وجاء يوسف إلى الأندلس، وهزم القوات المغيرة، ولكن ليس كلُ مرّة تسلم الجرّة، فقد شاهد جنوده الترف الذي كان في الأندلس، والغنى الذي كانوا عليه، فلم يستطيعوا صبرًا، ولم يغادروا إلى بلادهم، وبقي يوسف وقادته وجنده في إشبيلية، وتم نفي المعتمد إلى مراكش فقيرًا بائسًا يتصدق عليه الناس، وربما لم يستمع إلى قول أمِ أبي عبد الله الصغير، عندما قالت لابنها: ابك كالنساء، لقد أعطيت ملكًا لم تحافظ عليه كالرجال.
كان الصراع بين العرب والبربر، حول فكرة هل معه حقٌ أن يفعل يوسف ابن تاشفين ذلك أم لا؟ المحاضرون العرب يقولون ليس معه حق، طالما أنّ الرجل استنجد به، والبربر يقولون: لقد أنجده أوّل مرّة فكان عليه أن يقوي جيشه ليصدّ هجمات الإسبان، لا أن يعود إلى حياة الترف والنعيم.
كنا جميعًا نقضي يومنا بحضور المحاضرات وليلنا في الطرب والسهر، أنا ويوسف القعيد وأحمد الشهاوي وعزّت القمحاوي وبثينة العيسى وبلند الحيدري ومحي الدين لاذقاني، عرّاب الاحتفال، وآخرون، وبعد خمسة أيام عدنا إلى الوطن وكلنا حزانى على ضياع الأندلس.

*ضفة ثالثة