عماد كوسا

كاتب وقاص سوري، صدر له عدد من المجموعات القصصية ورواية.

قبل ثوانٍ معدودة هويتُ بجسدي على المقعد داخل سيارتي وقبضتُ بيدي اليسرى على المقود فيما كانت يدي اليمنى تعبث بمفتاح السيارة لتشغيلها بسرعة. وأدركت أنه يجب وضع المفتاح في مكان ما حتى يدور المحرك. بحثتُ بجهدٍ عن المكان المناسب الذي يتطابق مع المفتاح غريب الشكل، حتى وجدته. ترتعش يدي بتناغم مع دقات قلبي، وبانسجام تام مع صفير الهواء على جوانب السيارة ووقع الأقدام على الأرض. يعلو الصخب ويخبو كموج بحر يرقص على إيقاع ريحٍ صرصر.

 لكنّ السيارة لا تدور، إنها لا تزال صامتة مثل كل شيءٍ بداخلي، ليس لدي الوقت الكافي لأتحمّل عبثها، إذْ يتوجب عليّ الإسراع نحو مدرسة ولدي سعد لألتقطه من بين حشود الأطفال الصغار الباحثين عن أهليهم بحث الخراف الصغيرة عن أمهاتها. سعد سيشعر بالقلق والهلع، قد يبكي ويملأ صراخه الأجواء، إذا لم يجدني في انتظاره.

هل عليّ أن أدير المفتاح؟ سأحاول، لكن في أي اتجاه؟ إلى الأمام أم إلى الخلف؟

 تمرّ في مخيلتي صورٌ من أيام الطفولة، حينما كنتُ أقعد خلف مقود سيارة أبي، يختفي جسدي الصغير خلفه وبالكاد أستطيع رؤية الطريق. كنتُ أدير المفتاح بعفوية، أضحك من نفسي الآن. بعد خبرة أكثر من خمس وعشرين سنة خلف المقود لا أعرف في أي جهة أدير المفتاح.

ضبابٌ في الخارج يخفي كل شيء، غبشٌ على الزجاج الأمامي من الداخل، فراغٌ في رأسي. كل شيء يبدو بنصف وجه، حتى وجه سعد، أشعر كأني بنصف تاريخ. صدقًا ليس لدي الوقت للضحك والاستهزاء، أعرف سعد جيدًا حينما أتأخر عليه قليلًا.

ها قد وجد الخوف فرصته ليكتسح قلبي في لحظة ضعف، ولا أملك ما أواجهه به، ترتعش يدي أكثر ويكاد يسقط المفتاح أرضًا، كما سقط كل شيء من حولي. ينقبض صدري وتزداد دقات قلبي ويسيل العرق على جبيني متحدرًا على وجنتي وعنقي. قشعريرة باردة تهدد وجودي. هناك شيءٌ ما ليس في مكانه الصحيح. لستُ على ما يرام. يصعد الدم بعنف نحو رأسي الذي صار مثقلًا. بدا كرأس من الكُرُنب لا ينفع للتفكير، للتذكر، لأخذ قرار ما. ابني سيخرج من مدرسته بعد قليل. وجهه كما القمر الساطع وسط غيوم الربيع، شعره المذهب المسترسل يتدلى على حاجبيه فيخفي نصفهما، عيناه البنيّتان الواسعتان كعيني ظبية تبرقان أملًا وبراءةً، كعيني أمه حين التقيتها للوهلة الأولى، تقرأ في بؤبؤتيهما قصصًا لا تنتهي، تفيض كنهر منبعث من أعالي الربيع تخرج مياهه عن مجراها الأزلي، وتنحدر عبر الأهداب الضعيفة المتباعدة إلى حواف مجهولة بعيدة عن كل شيء نعرفه، خدوده المتورمة المحمرة دائمًا كأنها صارعت للتو صقيع الشتاء، أو مرت عليها كلمات تأنيب من أمه، يكاد فمه يكون مهملًا لصغره، لا تشعر بوجوده لولا احمرار الشفتين من تحت أنفه الجميل، كأنّ أمه قامت اللحظة بسرد حكايتها عليه فتركت على مجمل ملامحه خوفًا وترقبًا لمصيرٍ مجهول. سرعان ما ستنسكب الدموع رقراقةً وتسيل على مآقيه المحمرة، لا أدري كيف أعالج فيه خصلة الخوف من الضياع، الخوف من كل شيء يحيط به، الخوف من بُعده عني وعن أمه. آه ليتني استعنت بأمه في رحلتي هذه، كانت ستشد عضدي، وترشدني كيف أدير المحرك، وسط تعليقاتها الساخرة التي كانت ستبدو ألطف من هذا التوتر الذي ينتابني بشدة.

على كل حال اتخذت قراري وبدأت أدير المفتاح إلى الأمام. أنتظر برهة مترقبًا سماع صوت المحرك الذي سيبدو وكأنه يفيق بصعوبة من نومٍ عميق. تمر لحظات دون ان أسمع أي شيء صادر من سيارتي. لم يتحرك المفتاح قيد أنملة، لم يدر للأمام، وبطبيعة الحال أدركت أني أدرته في الاتجاه الخاطىء، وسرعان ما شرعت في إدارته نحو الخلف، مفعمًا ببعض الأمل. لكنه لا يتحرك أيضًا، يبدو عالقًا لا يريد أن يتزحزح كهذه الكتلة الضاغطة على صدري. هل أفتح الباب وأنادي أحد الجيران؟… ماذا أقول له؟

  • من فضلك هلّا ساعدتني في تشغيل سيارتي.

كيف سأبدو أمامه؟ … سخيفًا؟.. أحمق، أبله؟ أم سيعتبرني أمازحه فيزدريني وينأى بجانبه عني وهو يرشقني بكلمات لا أسمعها جيدًا، أو أتظاهر بذلك. أحاول تذكر الأمر.

ماذا أفعل إذًا؟ هل أعود فأخبر زوجتي؟ لن أخجل من توبيخها، سأتجاوز عن سخريتها أيضًا، تلك المرأة التي تكمل فيّ جوانب النقص، تمسك بذراعي حين أكون على وشك التلاشي والضياع، أحنّ إليها كثيرًا، ليتها تأتي الآن كما اعتادت أن تأتي كلما وقعتُ في ورطة. أسمع صوتها تخاطبني:

  • لا تتأخر على سعد، لا تذهب به إلى أيّ مكان، عودا إلى البيت فالغداء جاهز.

       لقد قضيتُ سنواتٍ طوال من عمري وأنا أدير هذا المفتاح بعفوية مطلقة دون أن أفكر في الأمر كيف يتم. ولم أتلكأ ثانية واحدة في تشغيل هذه السيارة الجامدة. تغيب الصورة أمامي، كلُّ شيءٍ مارسته عبر تلك السنوات خلف هذا المقود ضبابيٌّ بالكامل.

أشعر بخفقان شديد داخل صدري الذي صار كبالون تضخّم من الهواء البارد اللاذع، أشعر بتوتر شديد.

لا بد أنكم بدأتم تظنون أني فقدت ذاكرتي، إنكم مخطئون، وإنّ بعض الظن إثم، فهأنذا أطرح على نفسي أسئلة كتلك التي يلقيها الطبيب النفسي على مريضه:

(ما اسمك؟ تاريخ ميلادك، اسم أبيك وأمك، تاريخ اليوم. أسماء إخوتك وأخواتك، أصدقائك. ماذا تعمل، ماذا تحب، تكره…..)

كلها أسئلة فطرية أجيب عليها بعفوية بالغة، وأجد من السخافة أن أخبركم بالإجابات.

أحرف رأسي نحو اليمين بحذر لأرى وجهي في المرآة.. أرى ملامحي، نعم هذا أنا بالضبط كما تركت نفسي ليلة أمس.

كيف ستتحرك هذه الملعونة؟ لقد استغرقتُ وقتًا طويلًا داخل سيارتي لا أعرف كيف أديرها، بدأت أتلهف حقًا على سعد، يصيبني الذعر، هل يمكن أن يضيع؟ أن يحاول العودة إلى البيت وحده فيتوه في شوارع المدينة. هل يتوه حقًا؟ فأفقده إلى الأبد. هل أحرم من عينيه وشعره، هل أنسى رائحته كما نسيت للتو كل شيء يتعلق بسيارتي. بدأت تنتابني هذه الهواجس المرعبة. وقد صارت يداي ترتعشان فوق المقود والمفتاح. كل جسدي يرتعش.

اسمع أصواتًا تقترب مني، هل هم الجيران؟ لن ألتفت إليهم.

  • ماذا يفعل هنا؟
  • دعه وشأنه، إنه يخرج كلَّ يوم في هذا الوقت من الخيمة ويعبث بهذه الخردة على أنها سيارته، وفي النهاية يخرج منها مذعورًا وهو يصرخ: إنها لا تدور. لقد تأخرت على ولدي.

ماذا يعني هذا الهراء؟

عمّن يتحدثون؟

أظنُّ أنّ وجهي قد احمر خجلاً، أو حنقًا، فأنا أشعر بالدم ينضح في وجنتيّ، أكره أن أخرج وأطلب المساعدة من أحدهم، ما اعتدت على طلب المساعدة من أحد.

ينقشع الضباب وأرى أمامي منظرًا غير مألوف لعشرات الخيم الممزقة، أفتح باب السيارة وأخرج منها مذعورًا وأصرخ بأعلى صوتي:

  • إنها لا تدور، لقد تأخرت على ولدي.

أتلفّت بانتظار من ينتخي ويساعدني، أرى الضباب يتلاشى، تزداد ضربات قلبي عنفًا، أشعر برغبة عارمة في البكاء والصراخ مثل سعد، أتذكره وأمه، ألتفت خلفي إلى السيارة، أرى وجهيهما تلفّحا بالرعب وهما يصرخان مذعورين، تمتد يداهما نحوي وأنا أهرب.

 تنفجر السيارة وتطيح بي بعيدًا وأنا أغيب وسط ضباب كثيف.