صدرت حديثًا في بيروت سيرة روائية للشاعر والصحافي والكاتب بشير البكر عنوانها “بلاد لا تشبه الأحلام”(دار نوفل، 2025، 252 صفحة). وهذه السيرة مزيج جميل وحار من التذكر ومن اللغة الشعرية في آن، بل هي نص شاعري يروي قطوفًا من سيرة بشير البكر الممتدة على نحو ثلثي قرن من الزمان اللاهب والمتدافع… وهذه السيرة، من بابها إلى محرابها، نص مؤلم وجارح ومغمور بحرقة المحو والاندثار؛ كل شيء يُمحى ويضيع هباء مثل غبار الطلع، أو يتبدل كالمكان والماء والنهر. وبشير البكر، الذي طوّحته الأيام والليالي من دياره في الحسكة إلى مدائن الأرض القريبة والبعيدة، بقي دائمًا ذلك الفتى الذي يلاعب الماء والريح والغبار، وتلاعبه حاملات الجرار اللاتي ينشلن الماء من النهر، ولا ينتشلنه من رغباته الفائرة وأحلامه الهادرة.
إبن البادية بشير البكر، وإبن المدينة في الوقت نفسه. عاش طفولته الأولى وفتوته ويفاعته بين الجداء والحداء في بوادي القحط وسديم الصيف وسرابه، وسَبَحَ في الخابور، وقطف أزهار الأرض كالدحنون والوحواح، وسار في سهول الخضرة ومراعي الأجداد، وشَتَل القطن الأبيض والقمح الأسمر، وعشيت عيناه بالعجاج الأصفر، ودَرَج لاهيًا في حلقات الصوفيين وبين المريدين والحُجب والمجذوبين، وتحدى حلكة الليل عندما دهم المقابر ليتسربل بالخوف والارتعاش. هكذا عاش بشير البكر (مواليد 1956) في الحسكة، تلك المدينة الصغيرة في شمال شرق سورية على مشارف البادية المطوقة بالحدود مع العراق وتركيا، والمنسوجة من القبائل والأقليات التي جعلت من الحسكة فضاءات متعددة الألسن والوجوه: عرب من قبائل تاريخية، وسريان، وأقليات هاجر بعضها من ماردين إلى الجزيرة الفراتية، ويهود وصلوا من بلاد مجاورة، وأشوريون رُحّلوا من العراق، وأرمن هربوا من مذابح تركيا، وأكراد ينتشرون بين الحسكة والقامشلي وعامودا والدرباسية (ص 177). أما نهر الخابور الذي يقتحم الحسكة ويطوقها من جميع الجهات (ص 78) فظل “يروي قلبها العطشان ويزين ضفافها، ويجتازها بحنان رجل أعرج، حتى حلّت عليه لعنة الجفاف فتبخر كليًا” (ص 183). وجفاف الخابور كان نهاية الزمن الأخضر “فصارت الحسكة مزروعة، لا بالقطن والقمح وشجر الثمار الطيبة، بل بآبار النفط والغاز التي تتنازعها العشائر والأكراد، وتحرس الطائرات الحربية الأميركية الأكراد والشركات، وتطارد في الوقت نفسه أصحاب الرايات السود [الدواعش]، فيما ترتفع في الضفة الأخرى [الرايات الخضر] رايات العصر الإيراني” (ص 186).
الآمال اليائسة
أعرف بشير البكر منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم تقريبًا، وكثيرًا ما كنتُ ألتقيته في شارع المكحول في رأس بيروت خارجًا من منزل صديقنا الراحل خالد عايد أبو هديب وزوجته عباب مراد. وكنا نتمالح معه في الكلام أحيانًا فنناديه ب ب، وكانت أذهاننا تنصرف آنذاك إلى بريجيت باردو التي أشعلت في أجسادنا لهيبًا هادرًا بعدما شاهدناها في فيلم “وخلق الله المرأة” الذي أخرجه روجيه فاديم. ومن بيروت الصاخبة اللاهبة سافر بشير البكر، بعد فراره من دمشق، بوثيقة سفر فلسطينية. وألجأته الأيام إلى الإقامة في بلاد الفرنسيين الذين استعمروا بلاده وقسموها إلى ممالك ودول وجمهوريات. ثم عاد إلى بيروت بعد أكثر من ربع قرن بجواز سفر فرنسي. وفي بيروت عدنا لنلتقي مجددًا. وأذكر أحد اللقاءات في مقهى “جدل بيزنطي” وكانت معه زوجته وابنته، وبحضور لقمان سليم، ورشا الأمير، وإسكندر حبش، ومحمد شمس الدين، وآخرين. والآن، بعد نحو نصف قرن على لقاءاتنا الأولى، وما إن قرأتُ سيرته الروائية، حتى انثالت الصور على ذاكرتي، ورحتُ أتخيل بشيرًا كصبي داشر في الصف العاشر، أو مثل ولد “مزلبط” يسبح عند ضفاف الخابور، أو يمتطي نورج درس السنابل، وفي قدميه الشاروخ، أي الكلاش، أو المداس، أو الكندرة، فيما جدته ثلجة وأمه وضحة وخالتاه هضيمة وضحية ينظرون إليه بحنان، بينما ينظر بخفر إلى النساء النواهد والصبايا الكواعب، وإلى “هباري بنات الريف وهن ينحدرن في جماعات صوب حقول القطن، أو في مواسم الحصاد، أو ذاهبات إلى النهر والآبار لجلب الماء. ولا يزال الصدى يتردد: مندل يا كريم الغربي” (ص 80). والهباري هي ما تغطي به النساء رؤوسهن. أما المندل فهو الماء الذي يبقى بعد مسح وجه الطفل بالمنديل، أو هو المنديل الذي يُشدّ بالرأس كالعمامة. “ومندل يا كريم الغربي” هو نداء للريح الغربية كي تهب حاملة معها الندى، أو المطر.
لستُ أنا من يتخيل بشير البكر فتى بين غمار السنابل، أو بين حاملات صُرر القطن، أو جرار الماء فوق الرؤوس، بل إن بشير البكر نفسه هو من يتخيل ذلك بحسرات حارقة، فيعترف: “أتخيل أحيانًا كل نساء الكون وهنّ يلففن الرؤوس بالهبريات (…) ويزيّن الكاحلَ بالحِجْل الفضي الذي يرنّ مع كل حركة: إيقاع يصيب المرء بالدوخة وهو يتأمل أولئك الريفيات (…) وهن يعركن السنابل، وتفوح من أجسادهن روائح عرق الأنثى. [.. هبريات] من الشام وحلب وماردين، ومن أسواق بعيدة، هدايا للأمهات والشقيقات والحبيبات، ولكَ منها (…) هيئة استرسالها على الشعر والكتفين والظهر، وهزّة الصدر الملفوف بالمخمل الناعم يتفلت من فرط عذوبة تتفاعل في استنفاره” (ص 80 و81).
في حضرة الصدر والمخمل، وحجال الساقين، يصيح بشير البكر ملتاعًا: “خذيني مثل هبرية في الصباح الباكر حين يتنفس عطرُك رائحةَ جسدك (…)؛ رائحة الورد البري في الربيع ومياه السواقي، والأرض بعد المطر والفيضان. وفي الهجير حينما يزخّ العرق، أشم روائح كثيرة، وأحسها عالقة في أنفي حتى الآن. حين أقترب من هبرية في أي مكان تستيقظ في رأسي الروائح والألوان والذكريات، وتحضر وجوه الناس والجداول والحقول (…)، قطعان الأغنام ورفوف القطا الراحل، رائحة خبز التنور، وخبز الصباح، وجرس القطيع العائد من الرعي عند المساء” (ص 81 و82).
ما أشقاك يا بشير، أيها الذئب البري. خسرتَ ذلك البهاء السوري، ولم تكسب امرأة تلف رأسها بهبرية، وتصنع لكاحلها حِجلًا، ويفور نهداها المخمليان من تحت الثوب المخملي، كأن المخمل يتعشق المخمل ويحنو عليه.
البلاد الملوّنة
كان السفر إلى ما وراء الجبال العالية هو الحلم الأبهى لذلك الفتى المولود في الحسكة. والجبال العالية هي جبل عبد العزيز، وجبل كوكب، وجبل سنجار (ص 13). وتلك البلاد كانت تتقلب ألوانها في كل عام على إيقاع واحد: “بيضاء حينما تكسوها الثلوج، خضراء في الربيع. وتتراوح بين البُنية والرمادية صيفًا، وغالبًا ما يمنحها السراب هالة من الغموض” (ص 10). غير أن الحلم بالذهاب إلى ما وراء تلك الجبال تحول إلى حلم وجودي آخر: الحلم بالحرية والعدالة. ونداء الحرية والعدالة جذب بشير البكر إلى بلاد بعيدة، فساحَ في أمكنة لا حصر لها: حلب وجامعة حلب وأحياء سيف الدولة وباب الفرج والسليمانية والجميلية والكلاسة والسبيل وصلاح الدين والتل ومحطة بغداد، وفيها ذاق السحلب والمامونية والفلافل؛ ثم عاش في دمشق، وتنقل بين دُمّر والميدان والشاغور والمهاجرين، وهناك التقى نزيه أبو عفش، ويوسف عبدلكي، ووائل السواح، وبندر عبد الحميد، ووليد حمارنة (نسيَ أحمد دحبور)؛ ثم إلى بيروت وشوارعها ومقاهيها وأحيائها، مثل الحمراء، وكراكاس، والمكحول، وعفيف الطيبي، والدولتشي فيتا، والجندول، علاوة على السوريين والعراقيين والفلسطينيين والتونسيين، أمثال بلال الحسن، والصافي سعيد، وصالح بشير، ومصطفى الحلاج، وآدم حاتم، وغيلان، وصادق أحمد (نسيَ أبو روزا وولف)، وحسين الحلاق، وهادي دانيال، ونذير العظمة، وعاصم الجندي، وسامي الجندي، ورسمي أبو علي، وعلي فودة، وجميل حتمل، وسليمان صبح، وحيدر حيدر، وغالب هلسا، وسليم بركات، وأمجد ناصر. وفي ترحاله الذي لم يستكن ولم يهدأ معه وجيف قلبه واضطراب حواسه، أنجز بشير البكر عشرة مؤلفات بينها سبعة دواوين هي: معلقة الكاردينال (د.ن.، د.ت.)، قناديل لرصيف أوروبي (دار الجديد، 1994)، أرض الآخرين (دار الجديد، 2005)، ليس من أجل الموناليزا (دار النهضة العربية، 2009)، ما بعد باريس (دار النهضة العربية، 2011)، عودة البرابرة (دار النهضة العربية، 2013)، آخر الجنود (منشورات المتوسط، 2020)، حرب اليمن: القبيلة تنتصر على الوطن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1995)، القاعدة في اليمن والسعودية (دار الساقي، 2010)، سيرة الآخرين (دار جسور، 2023).
ومن طرائف سيرته الموسومة بعنوان “بلاد لا تشبه الأحلام” أن شابًا تقدم منه في مقهى بارومتر في بيروت وسأله: أين التقينا؟ فأجابه بشير: ربما في باريس. فقال الشاب إنه لم يغادر بيروت منذ أن وُلد في عام 1982. فقال له بشير، إذًا، لم نلتقِ، خصوصًا أنني لم أزر بيروت منذ ذلك الحين. فرماه الشاب بجملة مفاجئة: أظن أنك تشبه أبي الذي رحل مع الفدائيين في سنة 1982 ولم يعد. وأمي لا تعرف عنه شيئًا، وقد ماتت من دون أن تخبرني عن اسمه وهويته. وقد ترك هذا الكلام في نفسه حيرة ودهشة لأنه، بالفعل، غادر لبنان مع الفدائيين في ذلك العام (ص 28). ويروي بشير البكر أن حليم الدباغ نال أعلى نسبة من الأصوات في انتخابات الإدارة المحلية، لأنه كان يروّج معلومات عن أنه سيعمل، إذا نجح في الانتخابات، على افتتاح محل عمومي للجنس (بحسيتا) في الحسكة، أسوة بالقامشلي، ودير الزور (ص 142).
الأرواح المعطوبة
يا غريب الدار يا بشير؛ ها أنت الآن تعود إلى ديارك، ولو موقتًا، بعدما أوغلتَ في ترحالك، وبعدما صارت بلادك خرابًا. كأنك تعيد سيرة أوديسيوس (أوليس = عوليس) بطل إلياذة هوميروس الذي غادر موطنه ليعارك أعداءه في حروب طروادة، ويعترك مع أقداره. وخاض في معمعان ذلك مواجهات مع الأمواج العاتية، وخوّض في البحار المالحة بسفنه العالية طوال عشر سنوات، ثم حكم عليه بوسيدون أن يتشرد عشر سنوات أخرى بين جزائر البحر. وهناك ذاق الحب مع ربات الجمال وآلهات اللذة، لكنه، في النهاية، كان لا بد من أن يعود إلى وطنه إيثاكا، وإلى حبيبته بنيلوب التي أفنت عمرها في انتظاره. وتراءى له أن خلاص روحه وسكينته لا يتحققان إلا بالعودة إلى المكان الأول. لكن، هيهات أن يحظى بالأمان والطمأنينة والسكينة؛ فما إن عاد حتى عرف أن ما مضى قد مضى ولن يعود أبدًا، وأن عودة الكائن إلى موطن شبابه تعني أمرًا واحدًا هو نهاية الكائن والموت في مكان الولادة. وعلى غراره اكتشفت بنيلوب، بعد أن شاخت، أن الإخلاص لا قيمة له. وبشير البكر، في رحلته الطويلة الجارحة، ما كان يرنو إلى الوصول إلى أي غاية قط، فلا محطة أخيرة في كل رحيل، كأنه “في قافلة جمال تأبى تغيير خط سيرها الذي وُلدت عليه” (ص 45)، وما زال يبحث “عن الفرس التي كانت تجري في براري الجزيرة ولم تُدرك النهر وفاتها الربيع” (ص 235)، وها هو ذا الآن يطارد الحجل من سهل إلى سهل، ومن أرض إلى أرض، ويحلق عاليًا في الجو، ولا يهبط على أرض.
عربي من الصحراء هو، وإن يكن عاش في مدن كثيرة، مثل حلب ودمشق وبيروت وصنعاء وباريس ولندن وإسطنبول. وهذا هو ديدن أهل الصحراء الذين “لا يبيتون في مكان واحد أكثر من فصل؛ يغيّرون المكان كلما تبدلت الفصول من حولهم (ص 12)، وحكمتهم أن “كل من عبر الحدود صار بعيدًا، ودخل في سراب لا يدركه البرق” (ص 252)، و”لن تبلغ السراب حتى على ظهر جواد من الريح” (ص 11). هذه هي غربة الروح التي لم تفتك بها عواصم العالم، وإنما فعلت ذلك قبائل العرب والعجم والترك واليهود. لقد تحطمت جميع المدن العربية التي عاش فيها بشير البكر وخرِبت وشاخت وهمدت جذوة الأمل فيها: الحسكة وحلب ودمشق وبيروت وصنعاء، ولا عزاء له في ذلك “سوى هذه الأمم والقبائل من الطيور التي ترتاح فوق الأسلاك نهارًا وترحل ليلًا” (ص 252). وعلى هذا المنوال، يمضي بشير البكر مسلحًا بذاكرته، وبتجربته في الارتحال، وبغمار من الأحلام المنثورة، “وفيًا لعهد الأسلاف الأوائل: أهل الدلّة والنجر [أداة طحن حبوب الهال والقهوة] وبيت الشعر والجمل، الذين سافروا في البوادي خلف خط المطر، وراء السنابل ورائحة الشِيْحِ والحرمل” (ص 25).
ضفة ثالثة
Leave a Reply