نظريات العقد الاجتماعي هي إجابات على سؤال تبرير الدولة، الذي لا يعدّ مظهرًا طبيعيًا، بل بناء إنساني قائم على الرضى المتبادل. إنها تجعل من الممكن إعطاء السلطة السياسية شرعية لا تأتي من الحق الإلهي ولا من قانون الأقوى.
والعقد الاجتماعي هو فكرة فلسفية مفادها أنه في لحظة حقيقية أو افتراضية في الماضي، ترك الناس حالة “الطبيعة” لتوحيد وتشكيل المجتمعات من خلال الاتفاق المتبادل على الحقوق التي سيتمتعون بها، والطريقة التي سيحكمون بها، فهو اتفاق ضمني بين المحكومين والحكومة.
يعتمد المفهوم على الفكرة النظرية القائلة بأن الحكومات أو القادة شرعيون إذا حصلوا على موافقة المحكومين. لذلك، فإن العقد الاجتماعي هو الاتفاق الذي يمنح بموجبه الشعبُ الحكومةَ سلطة حكمها. كانت نظرية العقد الاجتماعي نظرية سياسية مهيمنة في التاريخ الغربي الحديث، إذ ألهم هذا المفهوم، أو هذه الفكرة، الذي ظهر في القرن السادس عشر، الفلاسفة السياسيين، وأكثرهم رمزية هم توماس هوبز (1588-1669) وجون لوك (1632-1704) وجان جاك روسو (1712-1778).
توماس هوبز
غالبا ما يشار إلى حالة ما قبل المجتمع باسم “حالة الطبيعة” أو الحقوق الطبيعية، وهي الحالة التي كان فيها الناس قبل الدخول في مثل هذا الاتفاق الذي يقررون بموجبه مغادرة حالة الطبيعة وحكم أنفسهم بقواعد معينة تضمن حقوقا معينة. قد يضطر المواطنون إلى التخلي عن بعض الحريات الفردية من أجل التمتع بحريات أخرى وأمن شخصي، التي يجب أن يحتفظ بها المواطنون في المجتمع السياسي المعاصر، وكيف يجب على الحكومات حماية هذه الحقوق.
اعتقد هوبز، الذي يرى أن ما يميز حالة الطبيعة هو الخوف من التهديد الدائم للوجود ما يؤدي إلى التهديد الدائم بالعنف، أن المعاناة القاسية للبشرية تتطلب سلطة سياسية قوية للغاية، أطلق عليها اسم ليفياثان، كان عنوان أشهر أعماله، وقد نشر عام 1651. هذه السلطة العليا، التي يتصورها هوبز كملك مطلق، ستعمل لصالح الجميع وتضمن التزام الجميع بقواعد المجتمع، قصر هوبز سلطة الملك على المسائل السياسية والقانونية، لأنه لم يدعُ إلى التدخل في مجالات أخرى، مثل الفنون. لذلك، حتى بالنسبة لهوبز، هناك أمل في أن البشرية يمكن أن تعيش في سلام نسبي، خاصة وأن البديل هو الحرب الزاحفة لحالة الطبيعة.
كره الأرستقراطيون عقد هوبز الاجتماعي، لأنه وضع الجميع على قدم المساواة من حيث حقوق الولادة. كما انتقدته مجموعة المسيحيين، الذين لم يؤيدوه في طرحه بأن المؤسسات الدينية ليس لها الحق في التدخل في السياسة. جاء بعده من له رؤية أخرى.
جون لوك
بعد سبعة وثلاثين عامًا من نشر عمل توماس هوبز ” ليفياثان”، نشر جون لوك أطروحتيه عن الحكومة في عام 1689، ويقول فيهما إنه في حالة الطبيعة يمكن للإنسان أن يعيش وفق القانون الذي يقضي بأنه “لا ينبغي لأحد أن يؤذي الآخر في حياته، أو صحته، أو حريته، أو ممتلكاته”. ما يعني أنه أدرج الحق في الحياة والحرية في المصطلح العام “الملكية”. علاوة على ذلك، بما أن الجميع لديهم حقوق متساوية في حالة الطبيعة، يجب أن يتمتع الجميع بحقوق متساوية في المجتمع السياسي. بالنسبة إلى لوك، لأن الناس يُنشئون طوعًا عقدًا اجتماعيًا، فإن وظيفة الحكومة هي خدمة الناس وليس نفسها، ويتم إنشاء الحكومات من قبل الشعب وبموافقته لحماية حقوقه، لذلك يمكن الإطاحة بأي حكومة تفشل في أداء وظيفتها بشكل شرعي، ويمكن إنشاء عقد اجتماعي جديد. لتجنب الخطر الحقيقي المتمثل في أن تصبح الحكومات استبدادية، من الضروري فصل السلطات التنفيذية (الملكية) والتشريعية (مجلسا الشيوخ والنواب) والسلطات الفيدرالية (التي تتعامل مع السياسة الخارجية). وهناك سلطة رابعة، وهي القضاء، لمعاقبة كل من يخالف القانون.
جان جاك روسو
في خطابه عام 1755 حول أصل وأسس عدم المساواة بين الأشخاص، نظر جان جاك روسو في أصل عدم المساواة الواضحة في المجتمع. إنه يعتبر حالة الطبيعة بدائية تمامًا، مكانًا لا توجد فيه الملكية والكبرياء والحسد أو الغيرة، لأنها ظهرت في البشرية في اللحظة التي بدأت خلالها في تكوين المجتمعات فحسب. ورأى أنه عندما اجتمع الأفراد معًا في مجتمعات أكثر تطورًا، تدهورت أخلاقهم بتولّيهم البحث عن المصلحة الذاتية والثروة. لذلك فالمجتمع فاسد وغير متكافئ وبلا أخلاق، والرجال المتحضرون غير سعداء، أنانيون، وغير أحرار. كل هذا يرسم صورة قاتمة إلى حد ما للإنسانية.
لكنه قدّم ما يمكن أن يحمل الأمل في مقابل هذه الصورة القاتمة عندما نشر خططه لمجتمع أكثر عدلًا في عقده الاجتماعي، الذي نشر عام 1762. ففي مجتمعه المثالي، لا ينبغي لأحد أن يبيع نفسه، ولا ينبغي لأي شخص ثري أن يكون قادرًا على شراء شخص آخر. تهدف حكومته المثالية إلى الحد من حالات عدم المساواة (يدرك أن المساواة المطلقة مستحيلة). يجب أن يجتمع الناس في مجتمع قائم على الموافقة وأن يشكلوا عقدًا اجتماعيًا فيما بينهم، يكون معه الهدف النهائي لهذا المجتمع هو الصالح العام.
لم تكن حكومة روسو المثالية تمثيلية، لأنه كان يعتقد أنه يجب انتخاب الحكام، إنما لتنفيذ المهام الإدارية فحسب، وهو دورها الأساسي. الإرادة العامة تختار ما هو الأفضل للدولة ككل، والحكام يضعون الإرادة العامة موضع التنفيذ فحسب. وهكذا يفصل روسو السيادة عن الحكومة. وبالتالي فإن فكرة الإرادة العامة حاسمة في العقد الاجتماعي لروسو. وبالنسبة إليه فإن الإرادة العامة هي نتيجة حل وسط حيث يضحي الأفراد بحريتهم الكاملة للوصول إلى أفضل خيار ممكن: تقييد الحرية من أجل تجنب وضع لا توجد فيه حرية على الإطلاق. وبالتالي فإن الإرادة العامة ليست مجرد مجموع الإرادات الفردية، بل هي المصلحة العليا للمجتمع ككل. في صميم هذه النظرية تكمن فكرة أن حقوق والتزامات الأفراد والحكومة تنبع من عقد، بالمعنى الحرفي أو المجازي، مصمم لتأمين المنفعة المتبادلة. هذا العقد ليس مستندًا مكتوبًا، ولكنه مجموعة من القواعد المقبولة التي تحكم سلوك الشركة وهيكلها. تستكشف النظرية كيف تتحول الحالة الطبيعية الاستقلالية للأفراد إلى مجتمع منظم تحت سلطة الحكومة.
كان عصر التنوير فترة محورية لنظرية العقد الاجتماعي، تميزت بالتحول نحو تفسيرات أكثر علمانية وعقلانية للنظام الاجتماعي والسياسي، ولقد أثرت النظريات التي اقترحها هؤلاء الفلاسفة بشكل كبير على تطور الفكر السياسي، وألهمت ثورات ديمقراطية مختلفة وشكلت المبادئ الأساسية للحكم الديمقراطي الحديث. ويعكس تطور نظرية العقد الاجتماعي وجهات النظر المتغيرة حول طبيعة الإنسان وحقوقه ودور الدولة، مما يوفر إطارًا لفهم الشرعية السياسية والعلاقة بين الأفراد وحكوماتهم. لذلك نرى مبادئ نظرية العقد الاجتماعي موجودة في الدساتير وهياكل الحكم في البلدان الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. تؤكد هذه المبادئ على حماية الحقوق الفردية وسيادة القانون وفكرة أن الحكومات تستمد سلطتها من موافقة المحكومين. استنادًا إلى ذلك يمكن أن يعدّ مفهوم الدستور نوعًا من العقد الاجتماعي، أي اتفاق رسمي وصريح يحدد حقوق وواجبات الدولة من جهة، ومواطنيها من الجهة الأخرى. والدستور يضمن حقوق الإنسان بمفهومها الشامل، الذي يشترك فيه كل البشر بغض النظر عن الجنسية أو مكان الإقامة أو الجنس أو الأصل القومي أو الإثني أو اللون أو الدين أو اللغة أو أي وضع آخر، وعلى الدولة حمايتها.
يحيلنا استعراض هذه النظرية إلى الواقع السوري، خاصة إذا ما أخذنا بعين النظر التصريحات التي أدلى بها قائد الإدارة الحالية في سورية، أحمد الشرع، عن العقد الاجتماعي الذي ستبنى الدولة السورية بموجبه. هذا ما يثير مجموعة من الأسئلة، قد يكون من أهمها أي من المنظرين السابقين ستكون نظريته أكثر إلهامًا للقيادة السورية الجديدة في صياغة دستور واعتمادها، ما دام أن “العقد الاجتماعي” وارد في الخطاب؟
فكيف ستتم المواءمة بين نظرية العقد الاجتماعي والحالة السورية بكل ما فيها من التعددية حيث تتعايش مجتمعات عرقية ودينية وثقافية متعددة. ولا نبتعد عن الواقع كثيرًا إذا ما أقرّينا أن المجتمع يعاني الانقسامات العميقة، والعديد من المصالح التي تبدو أحيانًا متضاربة. فما هي الحقوق “الطبيعية” وتلك الطارئة، التي على الدستور أن يقرها، والحكومة أن تحميها؟ هذا السؤال يخطر في بال معظم السوريين في ظل التحول الكبير الذي حصل، سقوط نظام قمعي أدار البلاد بقبضة أمنية ولجأ إلى أقسى أساليب العنف في إحكام قبضته على مقادير الشعب والبلاد، وأطّر الوعي العام والفردي حتى بات مفهوم الحقوق يكاد يكون مفهومًا ضبابيًا مربكًا بالنسبة للفرد السوري عامة، بات لا يعرف بشكل دقيق ما هي حقوقه بعدما صار انشغاله بشكل مستمر بالبحث عن أبسط مقومات الحياة وأكثرها بداهة، كي يحظى بالحد الدنى منها. يكاد السوري لا يكترث بأهمية الحرية وأن يكون له رأي يستطيع أن يعبر عنه، أو معنى القانون وأهميته في ضبط الحياة والعلاقات، أو حقه في إدارة حياته ومساهمته في صنع القرارات، أو معنى ان يكون مشاركًا في الحياة السياسية، ومعنى العدالة الاجتماعية والمساواة وعدم التمييز، وغيرها كثير من مبادئ الحياة ضمن مجتمع وتحت سقف دولة يضمن دستورها الحقوق، فما زال غارقًا في همومه الصغيرة، إنما الثقيلة حتى تكاد تهدّ الجبال. كل هذا يرافقه تشظي الوعي بالهوية الجامعة، كسوريين، بل إن الهويات الجزئية تمكنت من النفوس على مدى الحرب الطاحنة التي نالت بنية المجتمع والفرد.
من البديهي أن تكون هناك حاجة إلى مباشرة الحوار ومواصلته، هذا ما أعلنت عنه الهيئة بدعوتها إلى مؤتمر حوار وطني. وبما أن مخرجات مؤتمر من هذا النوع، على ضرورته وأهميته، ستكون العتبة المؤسسة لابتكار مفهوم “العقد الاجتماعي” بصبغته السورية، ومن هذا المفهوم سيكتب دستور للبلاد، قال رئيس الهيئة أحمد الشرع إنه ربما يستغرق أكثر من ثلاث إلى أربع سنوات لكتابته، فإن الشفافية قبل كل شيء هي الضمانة الأولى للارتياح الشعبي.
*ضفة ثالثة
Leave a Reply