في أي ظروف ملموسة يتم تقويض سلطة المستبد في البداية، قبل أن يسقط في ظروف دراماتيكية إلى حد ما؟
ما وقع فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، رماني كغيري من السوريين بشكل خاص، وملايين ربما من خارج سورية، في لجة من الذهول والمشاعر المختلطة، يسيطر عليها فرح مربك. كيف لا وأنا من تمنيت هذه اللحظة، لحظة سقوط الكابوس من علياء سمائنا وأوهامنا على مدى عقود، وليس منذ منتصف مارس/ آذار 2011، عندما انتفض الشعب السوري في وجه الاستبداد فحسب؟
لا أستطيع، تحت ضغط مشاعري، أن أكتب برصانة الكاتب، فمشاعري هي التي تكتب. سقط الطاغية؟ لا لم يسقط، ليته كان سقوطًا، لقد فرّ مذعورًا، هل أهذي؟ لست أهذي، لكن ما يتكشف أمامي وأمام العالم من فظائع يفوق خيالي ويفوق احتمالي، ما كنّا نشاهد ونعيش على مدى سنوات أعمارنا دفع كثيرين منّا إلى إعلاء الصوت، كل بطريقته، مطالبين بحقوقنا ورفع الظلم عن هذا الشعب المقهور، وكثيرون دفعوا أثمانًا باهظة على مدى أربعة وخمسين عامًا، لكن ما كنا نعيشه، ونظرنا إليه على أنه منتهى الإجرام في حقنا، لم يكن أكثر من وهم في خيالنا، لم يكن إلّا سرابًا قياسًا بما وقع خلال سنوات الثورة، وقياسًا بما نراه اليوم من حقائق ظنت هذه الطغمة الفاسدة أنها حصّنتها بالحديد والنار.
في هذه اللحظة، وأنا أكتب هذه المقالة، أو هذه الأفكار المتزاحمة في بالي، ظهر على الشاشة أمامي المعتقل السياسي السابق والمناضل الذي قتل النظام ابنه في ريعان شبابه في انتفاضة الشعب السوري، فايز سارة، وخنقته الدموع، لم يستطع مباشرة الحديث مع المذيعة إلّا بعد لحظات، أول ما نطق به بعد أن كانت تعرض مشاهد من سجن صيدنايا، أنه وصف الفظائع التي تتكشف بأنها “رأس جبل الجليد”. يا لهول ما كنّا فيه.
حضرت صور معظم طغاة القرن الماضي في بالي، مما خزنت ذاكرتي، مما شاهدت من أفلام وثائقية، ومما قرأت من دراسات وأدب، ومما، ومما. لكنني لم أجد مثيلًا له بين طغاة العالم، ربما ينتمي إلى نفسه فحسب، هو نموذج للإجرام بأعتى صوره، هو مكتف بنفسه، سعيد بها، شخصية، ربما سيكون أمام المحللين النفسيين شغل كبير ومرهق ليفككوا شيفرة هذه الشخصية، وربما يكتشفون طفرة لم يصادفها الطب قبل اليوم. حتى نهايته لا تشبه نهاية أحد منهم، إلى الآن. لكل ديكتاتور نهاية، وقلة من بينهم من مات في سريره، واستحق تتويج استبداده وإذلاله شعبه جنازة وطنية.
في كتابه “كيف تصبح ديكتاتورًا” يقول فرانك ديكوتر: “إن كل ديكتاتورية تجبر الجميع على الكذب، حتى لا نعرف بعد الآن من يكذب. من ناحية أخرى، فإن نهاية الديكتاتور هي حقيقة تنفجر أفواهًا محررة من الكمامة، وأجسادًا محررة من السجون هي الأخرى”. وها هو الشعب السوري أطاشته الحقيقة، بعضهم ما زال مسكونًا بالخوف، لا يصدق أن الطاغية انتهى. تحرّرت الأفواه من التكميم، لكن “جثث” من قضوا تحت إجرامه لم تتحرر بعد لتخبرنا حقيقة الحقيقة.
كيف يحكم رجال من هذا النوع ملايين البشر؟ لقد شهد القرن العشرون طغاة عتاة، موسوليني، هتلر، ستالين، ماو تسي تونغ، ربما ليس العدّ ضروريًا، نصبوا أنفسهم كآلهة، وجميعهم بعد سقوطهم، أو موتهم، تركوا بصمة مؤلمة لفترة طويلة. يرتبط الطغاة بالإرهاب. نعتقد أنهم أقوياء، لكنهم ضعفاء. يعتقدون أنهم لا يقهرون، لكن قوتهم تكمن في بعض الجدران المسلّحة والقصور، والتدريب على عبادة الشخصية، والولاء الثابت، والأجهزة الأمنية، ونظام يقوم على الأمر من دون نقاش أو سؤال. يكشف سقوطهم عن ضعفهم الخفي ووضعهم الأصلي. الجدران تتساقط. الديكتاتور عارٍ تنزع عنه قدسية السلطة المطلقة. لكن الويل يكمن في ما يترك خلفه من خراب.
الساعات الأخيرة للفوهرر
يصف كاتب سيرته الذاتية الألماني، فيست، جيدًا الحالة الذهنية لزعيم محموم وغاضب، يصرخ بسبب ما عدّه خيانة واسعة النطاق، في ذروة ازدرائه للحياة البشرية، وهو يحبس نفسه في مخبئه في حالة تشي بإنكار نهائي للواقع، يصرخ قبل وقت قليل من انتحاره: “ماذا تريد مني أن أفعل بشعب لم يعد رجاله يقاتلون عندما تتعرض نساؤهم للاغتصاب؟”. أمضى أيامه الأخيرة في برلين، معزولًا تمامًا عن الواقع، يتأرجح بين الأمل الوهمي في الانتصار على الجيش الأحمر، ودوافع التدمير الذاتي. شاهد بلا حول ولا قوة القوات السوفياتية التي تستولي على العاصمة، ويخونه بعض المقربين إليه، هو الذي قال عنه وزير دعايته جوزيف غوبلز في خطاب إذاعي بمناسبة عيد ميلاده: “ألمانيا كانت ولا تزال بلد الولاء. لن يتمكن التاريخ أبدًا من القول إنه في هذه اللحظة الحاسمة تخلى شعب عن زعيمه، ولا أن زعيمًا تخلى عن شعبه. هذا هو النصر!”.
لكن الزعيم لم ينتصر، وعندما علم بإطلاق المرحلة الأخيرة من الهجوم السوفياتي على برلين في 16 نيسان/ أبريل 1945، في اليوم التالي، في مؤتمر تقويم الوضع، قال إن “الروس سيختبرون أكثر هزيمة دموية على الإطلاق أمام برلين”، كان هذا آخر ظهور علني له، وآخر مرة تم فيها تصويره رسميًا، في العشرين من أبريل/ نيسان، في حدائق المستشارية التي دمرتها التفجيرات. وفي مساء يوم 22 أبريل، دمر هتلر أرشيفه الشخصي في المخبأ، وأمر مساعده في المعسكر يوليوس شوب بتدمير جميع متعلقاته الشخصية في شقته في ميونيخ، ومقر إقامته في بيرغوف.
كان يتضاءل جسديًا، ويهمل ملابسه، ويعاني ضعف الذاكرة، وعدم القدرة التامة على التركيز، والغياب المتكرر. هو الشخص المصاب بجنون العظمة، الذي يقول التقرير الذي أصدرته وكالة المخابرات المركزية في عام 1943 بعد أن كلفت مجموعة من الخبراء بإجراء ملف شخصي عنه “إنه مازوخي راسخ”، في محاولة لفهم عقل واحدة من أكثر الشخصيات تدميرًا في التاريخ الحديث.
في 29 أبريل/ نيسان، وبعد منتصف الليل، تزوج من عشيقته التي بدأت في كتابة اسمها “إيفا براون”، لكن تم إيقافها قبل أن تنتهي. بشطب الحرف B الأولي، وصححت توقيعها إلى إيفا هتلر، المولودة براون، “زواج حرب” أعلن خلاله كلاهما أنهما من أصل آري خالص وخاليين من الأمراض الوراثية… وفي اليوم التالي، كانا جثتين في غرفتهما، كانت وصيته: “أنا وزوجتي نختار الموت هربًا من عار السقوط، أو الاستسلام. رغبتنا هي أن نحرق فورًا في الأماكن التي قمت فيها بمعظم عملي اليومي خلال السنوات الاثنتي عشر التي قضيتها في خدمة شعبي”. هكذا واجه نهايته، أخطر مستبد في عالم القرن الماضي.
ماذا عن موسوليني؟
كانت الشخصية الكاريزمية للدوتشي عنصرًا أساسيًا في سلطته على الشعب. يصر عدد من كتاب سيرة موسوليني على هذا الجانب. ويعتقد بيير ميلزا، مؤلف أفضل سيرة ذاتية لموسوليني بالفرنسية، أن موسوليني يمثل “أكثر من أسطورة رجل خارق، هل هذا العناد، هذه النيّات الحسنة الشاقة، هذا الهوس بالأداء، مهما كان ساخرًا، هو الذي أغوى الإيطاليين؟”.
بالنسبة للإيطاليين في فينتينيو، يبدو أن الدوتشي كائن استثنائي، نوع من صانع المعجزات الذي يمكن للمرء أن يلجأ إليه. في أبروتسو، أرادت أرامل وأمهات الجنود الذين سقطوا خلال الحرب العظمى لمسه كما فعلوا مع الأوثان والآثار. عند عودته من مؤتمر ميونيخ في 30 أيلول/ سبتمبر 1938، حيث ظهر ــ خطأ ــ كمنقذ للسلام، كانت رحلته إلى روما أقرب إلى رحلة بابوية. يشهد الدبلوماسي فيليبو أنفوسو: “بين فيرونا وبولونيا، رأيت فلاحين راكعين أثناء مرور القطار، والتي، في منطقة بهذه الجلالة الكلاسيكية، لا بد أنها أثارت انعكاسات غريبة! في بولونيا، قلعة فاشية عدوانية صاخبة، أدرك موسوليني أنه أصبح قديسًا. توصّل إلى استنتاج مفاده أن ميونيخ قد تجاوزت توقعاته”.
يقول في إحدى المقابلات التي أجراها مع الصحافي الألماني إميل لودفيج في نيسان/ أبريل 1932: “التكتل الجماهيري، بالنسبة لي، ليس سوى قطيع من الأغنام، ما دام أنها غير منظمة… أنا أنكر أنه يمكنها أن تحكم نفسها، فحسب”. وبسبب إعجابه بالديناميكية الدولية لألمانيا النازية، اقترب تدريجيًا من برلين، وأبرم تحالفًا رسميًا، بعد وعود شفهية من حلفائه الألمان، اقتنع بأن إيطاليا سيكون أمامها ثلاث إلى أربع سنوات لإعداد البلاد للمواجهة الحاسمة. لكنه وقع في رذيلة طموحاته من أجل إيطاليا الإمبراطورية البلد الذي لم يكن لديه الوسائل لخوض صراع بهذا الحجم. وترافقت الانتكاسات العسكرية مع أزمة حقيقية داخل الحزب الوطني الفاشي، وهزت موجة الإضرابات المثلث الصناعي بين تورينو وميلانو وجنوة، والمطلوب السلام والخبز، ثم ازداد الوضع المعيشي للناس انحدارًا مع ارتفاع وتيرة التساؤل: “أين القوة العسكرية التي تم الحديث عنها كثيرًا؟”. صارت هيبة القائد والنظام تنهار، وقوته الكاريزمية في المجتمع الإيطالي تتهاوى. وأصبح بالنسبة إلى تشكيلة السلطة عقبة أمام مستقبل إيطاليا. وفي الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فرّ إلى حدود سويسرا في 25 أبريل/ نيسان مع عشيقته كلارا بيتاتشي، لكن تم كشفه ومحاكمته بشكل سريع وإعدامه مع كلارا، نقلت جثته إلى ميلانو وعلقت من عقبيها على سور محطة وقود، وصار الناس يركلون الجثة ويبصقون عليها، قال عنه أحد الثوار: “كان وجهه مثل الشمع وعيناه زجاجيتان، لكنهما عمياوان إلى حد ما. قرأت في وجهه الإرهاق التام، لكن ليس الخوف… بدا موسوليني خاليًا تمامًا من الإرادة، ميتًا روحيًا”. هذه كانت نهاية مؤسس أول ديكتاتورية فاشية في التاريخ.
الأيام الأخيرة لستالين
في مساء يوم 1 آذار/ مارس 1953، شهدت خادمة في داشا كونتسيفو، بالقرب من موسكو، مشهدًا لا يمكن تصوره. أرسلت إلى شقق ستالين لاستكشاف الأمر، إذ لم تبدر عنه أي علامة، ولم يظهر طوال اليوم، وجدت سيد الاتحاد السوفياتي منهارًا على أرضية المكتبة، بلا حراك في ملابس النوم المبللة بالبول. بعد بضعة أيام، في الساعة 9:50 مساء، أعلن الأطباء وفاته. كما كتب أحدهم في مذكراته، فإن أحد أقوى الرجال على هذا الكوكب “قد تحول للتو إلى جثة فقيرة ومثيرة للشفقة، سيقطعها علماء الأمراض غدًا إلى أشلاء”.
ظل ستالين على رأس البلاد لأكثر من ثلاثة عقود، مما جعل الاتحاد السوفياتي قوة عظمى على المسرح العالمي، ولكنه أيضًا ديكتاتورية شمولية قائمة على عبادة الشخصية. من الأدلة على هذه الظاهرة التماثيل العملاقة له التي تهيمن على العواصم الشيوعية، أو تعداد الرسائل والهدايا الموجهة إليه في عيد ميلاده السبعين في عام 1949، والتي ملأت صفحات برافدا لأكثر من عام، من دون اكتمال التعداد. بعد أن ضعف ستالين لعدة أشهر، أصيب بجلطة دماغية لم يتم اكتشافها إلا بعد عدة ساعات. كان الأطباء الذين تجمعوا بجانب سريره عاجزين بشأن حالته الصحية: سيبقى الزعيم السوفياتي مشلولًا مدى الحياة، إذا تمكن من البقاء في قيدها. كان متشككًا بالأطباء، فقبل بضعة أسابيع، اعتقل وسجن آلاف الأطباء، للاشتباه في رغبتهم في اغتيال كبار القادة السوفياتيين. كان لما يسمى بـ”مؤامرة المعطف الأبيض” تأثير كبير على الفوضى التي أحاطت بالأيام الأخيرة من حياة ستالين. فقد رفض، خوفًا من الاغتيال، رؤية عدد من الأطباء، بما في ذلك الطبيب الذي اقترحه ليكون يده اليمنى لافرينتي بيريا، مما أدى إلى تأخير التشخيص وعلاجه. لا تزال وفاة ستالين يكتنفها الغموض اليوم، وهذا يكفي ليكون شهادة على السرية والبارانويا التي هزت الأيام الأخيرة للديكتاتور.
هذه نماذج لنهايات تصلح لأن تكون تراجيديا شكسبيرية، فأي نوع من الشخصيات كانوا؟
ما هي التشخيصات النفسية الممكنة للدكتاتوريين؟
نشر فريدريك إل كوليدج، ودانيال إل سيغال، من جامعة كولورادو، لأول مرة في عام 2007 تحليلات للمتلازمات المرضية واضطرابات الشخصية لأدولف هتلر، وصدام حسين. طوّرا طريقة تستند إلى تقارير من أشخاص يعرفون الديكتاتوريين عن كثب. كان إجماع الخبراء الذين جنّدوهم لهذه التقييمات، بناء على معايير التشخيص الخاصة بالدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية، هو أن هتلر وصدام حسين حصلا على درجات عالية على مقاييس اضطرابات الشخصية بجنون العظمة، والمعادية للمجتمع، والنرجسية، والسادية، بالإضافة إلى الميول الفصامية، بما في ذلك العظمة والتفكير الشاذ، مع الإشارة إلى أن السمات النرجسية كانت أكثر بروزًا في صدام حسين منها في هتلر. واستنادًا إلى هذه الدراسة، توصلا إلى وضع ستة معايير للاضطرابات الشخصية لدى الديكتاتوريين، أطلق عليها (الستة الكبار): السادية، والمعادية للمجتمع، وجنون العظمة، والنرجسية، والفصامية، واضطراب الشخصية الفصامية.
طغاتنا عميان عن التاريخ، ربما لا يقرؤون إلّا ما يعزّز نزعة الإجرام لديهم، لا يقرّون بحقيقة أن الثورة تولد في أذهان الناس، قبل أن تكون حدثًا، تبدأ بظاهرة نفسية بسيطة، ولكنها غامضة. عندما يدرك كل فرد أنه لم يعد وحده، ويدرك أن الآخرين يفكرون بالشيء نفسه. تجمّع من الأفراد يصبح حشدًا، وعندما يصبح هذا الحشد غير خائف تتحرر قوته، ألم يصرخ السوريون “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”؟ لم يفهم الديكتاتور، لم يفهم أنها لحظة تحول غير قابلة للرجوع، هل كان مصابًا بجنون العظمة، فلم يرَ في ثورة الشعب أكثر من مؤامرة تستهدفه؟ هل كان يحمل شخصية زورية شكاكة تجعله يستعدي الشعب وكل من حوله في أعماقه، فيغالي في ضرباته الاستباقية الانتقامية؟ أي من معايير “الستة الكبار” ينطبق عليه؟ أم إن لديه بصمته الجينية الخاصة التي لم يتوصل إليها فريق الباحثين والخبراء بعد؟
بالنسبة للمستبدين والديكتاتوريين، هذه هي بداية النهاية. الباقي هو مجرد صراع بين إرادتين، لكن إرادة الشعب هي التي تنتصر. وهذا منطق الأشياء.
*ضفة ثالثة