راسم المدهون

قبل أربع وخمسين سنة، وتحديدًا بعد يوم أو يومين لا أكثر من انقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين، كنت أجلس عصرًا في “مقهى السفراء” الملحق بسينما “السفراء” في شارع 29 أيار في قلب دمشق حين أعلنت الإذاعة السورية بيان “القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي” التي عينها الأسد، وكان في ذهني سؤال رئيس: ماذا سيقول هؤلاء الانقلابيون عن رموز النظام السابق ومنهم الرجل القوي آنذاك صلاح جديد والرئيس الراحل الدكتور نور الدين الأتاسي ورئيس الوزراء الراحل يوسف زعين ووزير الخارجية إبراهيم ماخوس وغيرهم؟

فاجأني البيان بعبارة اعتبرتها جديدة تمامًا على البيانات رقم واحد التي تبدأ بها الانقلابات العسكرية العربية عادة ومنها الانقلابات في سورية، إذ وصف الأسد نظام من سبقوه بـ “العقلية المناورة”، وقبلها بيومين أي صبيحة السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر سارت في ساحة “السبع بحرات” أمام مبنى المصرف المركزي مظاهرة يهتف المشاركون فيها ضد “حكم العسكر” حتى داهمتهم قوات المخابرات فتفرقوا، أما من كان يهتف محمولًا على كتفي رجل ضخم الجسم فقد حاول النزول فتشبث به من يحمله وأخذه راكضًا به إلى شاحنة المخابرات: تلك كانت لحظة انطلاق طوفان القمع والذي لم يعد مجرد إجراءات عقابية تقليدية تقوم بها السلطة ضد معارضيها، بل سياسة شاملة وممنهجة طاولت كل مجالات الحياة في سورية.

ففي الساعات الأولى لانقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر تم اعتقال القيادة البعثية السابقة وعلى رأسها صلاح جديد ونور الدين الأتاسي رئيس الدولة ويوسف زعين رئيس الوزراء وكل أعضاء “القيادة القطرية لحزب البعث” لفترة قاربت ربع قرن وتم الإفراج عنهم تباعًا حين كان كل واحد منهم يلفظ أنفاسه الأخيرة فتفضل السلطة أن يموت في بيته.

في دمشق يتذكر من عاش تلك الفترات القاسية من الأزمات الاقتصادية والمعيشية كيف كان النظام يكرس لغة قمعية لتصرفاته، فمنح فئة من العاملين زيادة مالية في أجورهم كان يسمى في إعلام النظام “عطاءات القائد”، وأتذكر أن المعلمين أُجبروا ذات مرة على المرور في مسيرة من أمام القصر الجمهوري كي يشكروا “الأب القائد” على منحهم زيادة بلغت خمسين ليرة، بينما “القائد” يقف في شرفة القصر ملوحًا بيديه لهم.

حماة… امتحان عسير

في أواخر السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات شهدت سورية أحداث مدينة حماة التي دمرها النظام بذريعة تمرد قامت به جماعة الإخوان المسلمين، وراح ضحية تلك المذبحة ما يزيد عن أربعين ألفًا، ومن شهد مدينة حماة بعد المذبحة مثلي رأى بأم عينه حطام بيوت فوق قتلاها من النساء والأطفال والمدنيين العزل الذين ذبحهم بدم بارد رجال “سرايا الدفاع” بأوامر رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، والذي طاولت إجراءاته القمعية – الاستئصالية أهل المدينة منذ ذلك التاريخ، ولا أنسى هنا أن أهل محافظة حماة ظلوا عقودًا طويلة يطالبون بتطبيق مبدأ إنساني تعرفه وتطبقه دول العالم كله وهو الحق في استخراج “شهادة وفاة” للضحايا كي تتمكن العائلات من إجراء “حصر إرث” لأملاكهم الشخصية كلما احتاجوا توزيع ميراث العائلة بينهم وظل الأسد الأب يرفض.

وقع ذلك كله فيما كانت سلطة القمع الأسدي مشغولة بمحاولاتها التي لم تتوقف في السطو على قرار الفلسطينيين، حيث هاجم إعلام النظام كما قادته أبو عمار ياسر عرفات وزج النظام كافة المنتسبين لحركة فتح في المعتقلات لعقد ونصف العقد من السنوات، وهو تسلط سرعان ما انتقل إلى لبنان الذي حكمه رجال الأمن بالعسف والحديد والنار وساقوا قياداته وشخصياته السياسية لمركز قمعهم في “عنجر” حيث كان يقود غازي كنعان ومن بعده رستم الغزالي المخابرات السورية الساهرة على إرهاب اللبنانيين وتطويعهم، وهو “النشاط” الذي بلغ ذروته مع اغتيالهم لرئيس الحكومة اللبنانية الشهيد رفيق الحريري وقائمة طويلة من الشخصيات اللبنانية المؤثرة والمكافحة من أجل استقلال لبنان وخروجه من قبضة الهيمنة الأسدية.

أخطر ما فعله النظام البائد هو سطوه العلني على إرث سورية القومي – الحضاري وإجراءاته الغزيرة التنوع لتحويل سورية لمزرعة لإيران تحت مسمى كاذب هو “محور المقاومة” والذي أخضع البلاد ومقدراتها لسيطرة إيرانية قتلت وصادرت البيوت وزرعت ساكنين جددًا في بيوت السوريين وحولت مناطق واسعة من سورية إلى “مستوطنات” سورية خصوصًا في الزبداني في ريف دمشق وفي “القصير” في محافظة حمص ودير الزور وأطلقت أيديهم في تشكيل ميليشيات عسكرية شاركت بدور أساسي في ذبح السوريين بالتعاون والمشاركة المباشرة من كتائب حزب الله.

حين شاهدت الطاغية المخلوع يتحدث في أول ظهور له على الشاشة الصغيرة بعد المظاهرات الأولى ضده عام 2011 أدركت أنه ذاهب لذبح سورية ولن يقدم ولو تنازلًا بسيطًا للشعب السوري هو الذي اعتاد تقديم تنازلات كبرى ومجانية للخارج.

عصر صيدنايا

اليوم تعرض الشاشات ونسمع من كانوا هناك والذي يجعل العقل السليم يتوقف مذهولًا أمام ما يرعب المخيلة من مشاهد وقصص وحكايات تشبه “الفانتازيا التاريخية” التي قدمتها في مرحلة سابقة الدراما السورية، والمضحك المبكي أن نجد اليوم من يهبّون للدفاع عن الديكتاتور الساقط بذرائع تافهة وحجج مخزية غير آبهين بعذابات السوريين على مدار نصف قرن ويزيد في ظل سلطة المقابر الجماعية والتغييب القسري في سجون سورية التي لا تُحصى والتي تجسدت في “صيدنايا” الذي رأى العالم من خلاله كيف “برع” الطغاة في نهش لحوم البشر وتقطيع أوصالهم كما لم يحدث ولا تتذكره ذاكرة السوريين في العصور الحديثة.

أغرب ما يقوله من هبّوا للدفاع عن المخلوع أنه كان علمانيًا ويدافع عن الأقليات بل ومقاوم ممانع، هو الذي ظل يتلقى ضربات الطائرات الإسرائيلية محتفظًا بحق الرد وهو الرد الذي لم يحدث أبدًا.

سورية تنهض من كابوسها، البلاد التي أسس دولتها المعاصرة رجال كبار كشكري القوتلي وفارس الخوري وخالد العظم صار يتحدث باسمها رجال الأمن والعصابات التي حولت البلاد إلى مصانع للكبتاغون وغيره من المخدرات وتصديرها للبلدان العربية، وها نحن نستعيد صور الحياة تنهض من ركام التدمير الشامل للبلاد ونفرح بوجوه أحبة وأصدقاء يعودون من تغييبهم القسري وراء جدران السجون والمعتقلات فأتذكر قصيدة “شاعر الشام” شفيق جبري يوم الجلاء:

“حلم على جنبات الشام أم عيد لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد”…

سورية مشعل ضوء وحضارة، أسست منذ استقلالها دولة تسير بثبات نحو الديمقراطية والحداثة والصناعة المتقدمة واستحقت أن يرشحها الخبراء العالميون في خمسينيات القرن الماضي أن تكون في مستقبلها دولة في الصفوف الأولى من دول العالم المتطورة قبل أن تعصف بها أيدي المستبدين.

منذ انطلقت ثورة الشعب السوري ضد نظام القتل والقمع والمعتقلات، شهدت سورية حربًا قاسية صب خلالها النظام البائد بالتعاون مع حلفائه حربًا ضروسًا شردت الشعب في أصقاع الأرض، ودمرت المدن والقرى وخربت الصناعة والزراعة واستمرت في ذلك أمام سمع العالم وبصره حتى دخل الثوار قلب دمشق وتحقق نصر الشعب السوري فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الجاري فعاد لسورية وجهها المشرق وفتحت المعتقلات والسجون وشاهد العالم كله ما كان يجري من تنكيل وقمع خصوصًا في المعتقلات المنتشرة في عموم البلاد وبصورة خاصة في “صيدنايا” المروع والذي لم يعرف العالم الحديث مثيلًا له.