تشكل حرية الفكر ركيزة أساسية لتحقيق التقدم والنهضة في المجتمعات، إذ تُعد المحرك الرئيسي لإبداع البشر وتطوير المجتمعات. ومنذ زمن بعيد أصبح الفكر الحر عاملًا مؤثرًا في صياغة الأفراد والمجتمعات، وصوغ هوياتهم، وأنماط حياتهم، وتشكيل مستقبلهم، علمًا أن معطى الحرية فردي، إذ لا يمكن الحديث عن حرية جماعية، او حرية شعب، بدون حرية الفرد، المواطن.

الحرية إذًا تتيح للأفراد التعبير عن ذاتهم، وإرادتهم، وآرائهم، وتبادل الأفكار دون قيود. مع ذلك، فإن مسألة الحرية في مجتمعاتنا العربية تواجه تحديات جسيمة تنبع من ضغوط سياسية واقتصادية واجتماعية تؤثر بشكل مباشر على قدرة الأفراد على التعبير بحرية والمشاركة في صنع القرار. ومحور المسألة هنا هو افتقاد تلك المجتمعات إلى فكرة المواطن، الحر، المستقل، المتساوي مع غيره، أي افتقاده إلى المكانة القانونية والسياسية، في دول تسلطية لا تعترف بحقوق المواطنة اصلا.

في سورية، على سبيل المثال، بالرغم من غياب قيود صريحة على الحريات الفكرية، حتى الآن، حيث السلطة لا تزال في طور التشكل وصياغة الإعلان الدستوري والمجلس التشريعي والحكومة التنفيذية، وحيث أن آليات الرقابة “الحكومية الأمنية” التي يعرفها المجتمع السوري “معطلة”، ظهرت آليات رقابة تطوعية (أون لاين) على الفكر وحرية الرأي، يمكن تسميتها “تشبيحية” تمارس حالة قمع فكري وتشويه ثقافي، وتضع الكتاب والمفكرين أمام ثنائية “إما مع السلطة أو الصمت”. مع التنويه أن هذه المحاولات “الشعبوية” وضعت نفسها في خدمة السلطة بدون تكليف منها، وهي تمارس ذات الأعمال التي مارسها النظام السوري المخلوع ضد المعارضين لحكمه الأمني من خلال جيشه الإلكتروني.

لهذا يمكن القول إن السعي المبكر لتجاوز عقبات حماية حرية التعبير مسألة ملحة، بحكم المخاوف المشروعة من استمرار الظروف السياسية الراهنة، والتي تشهد نقصًا في الضمانات القانونية التي تتيح للمثقفين التعبير عن آرائهم بحرية، في الوقت الذي نرى فيه الغوغائيين يتمكنون من فرض تصنيفاتهم على الكتابات، ليصبح ما يسمى شعبيًا مصطلح “التطبيل” للسلطة هو معيار الوطنية لاحقًا، وبخاصة أن ما يثير تساؤلات عن هذه الأمور تحديدًا، هو التهجم على الفكر والرأي الحر – من قبل صفحات غير معروف ارتباطها بالسلطة- وهو ما يواكب الصورة النمطية عن توجهات الجماعات الإسلامية التي تولت السلطة في بلاد متفرقة من العالم، على الرغم من أن الرئيس السوري أحمد الشرع خرج من عباءة الانتماءات الضيقة، وأكد ضرورة الانتقال من عقل الفصائلية إلى عقل الدولة، أي ليس بالضرورة هيمنة أيديولوجيات الفصائل التي أسهمت بتحرير سورية على القرار السوري الوطني.

لهذا فإن غياب الرؤية الواضحة من قبل الجهات الرسمية يترك المثقف السوري في موقف صعب، حيث يُحتمل أن تتسبب الأزمات السياسية في خلق مناخ من الترقب والقلق الذي يؤثر سلبًا على الإنتاج الفكري والثقافي والفني.

ولعله من المفيد التذكير بأن التحديات الثقافية كبيرة في ظل الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي الذي يشهده البلد، إذ يؤدي ضعف الدعم الحكومي ومخاوف القطاع الخاص وتدني مستويات التمويل المخصص للمشاريع الثقافية إلى تقويض فرص العمل الحر والإبداع المبتكر. وفي هذا السياق، لا يقتصر الأمر على قلة الموارد المالية فحسب، بل يمتد إلى ضعف البنية التحتية للمشهد الثقافي والإعلامي الذي ينبغي أن يكون منبرًا للتعبير الفكري.

وعليه فإن المثقفين يواجهون تحديات مضاعفة من أجل إيجاد بدائل تمكنهم من نقل تجاربهم وأفكارهم إلى الجمهور، وهو ما جعل من التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي بديلًا ملحًا للخروج من إطار القيود التقليدية؛ إلا أن هذه صارت متاحة أيضًا لشن هجمات منظمة ضد نوع معين من المثقفين المبدعين والنقديين لجعلهم ينزوون، في مقابل رواج نوع من مثقفين “شعبويين”، لا يضيفون شيئًا، سوى التمسح بالسلطات السائدة، بغضّ النظر عن نوعها.

إن تحديد وجهة الحكومة في الاستفادة من تجارب آخرين في هذا المجال تنعكس إيجابًا على الحياة الثقافية والفنية في سورية، حيث أن الاستفادة من تجارب دول أخرى تمنح السلطة إمكانية التغلب على هذه القيود بطرق مبتكرة. فقد اتخذت المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، خطوات تدريجية نحو فتح آفاق جديدة للتعبير الثقافي من خلال خطة “رؤية السعودية 2030″، حيث سعت الحكومة إلى تخفيف القيود الاجتماعية والثقافية بصورة منهجية بدون المساس بالتراث القيمي الراسخ، على رغم أن هذا التحول أثار جدلًا واسعًا داخل المجتمع، إذ دعا النقاد إلى ضرورة الموازنة بين الإصلاحات الفكرية والمبادئ التقليدية التي يحافظ عليها المجتمع، إلا أنهم مع كل هذا، قفزوا خطوات واسعة نحو الانفتاح الكامل على كل الثقافات والأنشطة الفكرية والفنية.

صحيح أن تحقيق حرية الفكر لا يقتصر على التغلب على القيود السياسية أو الاقتصادية فحسب، لأنه في المقابل يتطلب أيضًا دعمًا مجتمعيًا شاملًا يشارك فيه المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والمبادرات الثقافية المستقلة، إذ إن هذا الدعم المتبادل هو حجر الأساس لبناء مناخ فكري يشجع على الإبداع والابتكار، ويسهم في خلق فضاء يُمكن الأفراد من استثمار إمكانياتهم الفكرية بأقصى قدر ممكن. ومن هنا، تبرز أهمية التعاون المشترك بين مختلف الجهات كخطوة استراتيجية نحو تحقيق نمو فكري وثقافي يعكس واقع التحديات ويسعى نحو تجاوزها، ويفشل مخططات الأيديولوجيات المغلقة في كم أفواه المثقفين والمفكرين والكتاب والإعلام.

وفي نهاية المطاف، يبقى الأمل معقودًا على قدرة المثقفين والفنانين على ابتكار أساليب جديدة للتعبير وتحقيق التغيير في ظل الظروف الصعبة، إذ إن استثمار الإمكانيات التكنولوجية كما حدث في دولة قطر، وتعزيز الدعم المشترك من المجتمع المدني يُعد السبيل الأمثل لتجاوز العقبات وإطلاق العنان للإبداع. وعلى الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية الراهنة، فإن المستقبل يحمل في طياته إمكانية تحقيق نمو فكري وثقافي يعكس قدرة الأفراد على تجاوز الأزمات وتحقيق التقدم. وفي هذا الإطار، يصبح تعزيز حرية الفكر ليس مجرد هدف سياسي أو اجتماعي، بل ضرورة ملحة تشكل الأساس لبناء مجتمع متحضر يستطيع مواجهة التحديات المستقبلية بثقة وإيجابية، ويضمن النقد البناء لمجتمع ينهض من تحت الركام الذي خلفه نظام استبدادي قمعي اعتقل في سجون فساده سورية الدولة والشعب لنحو أربع وخمسين سنة.

*ضفة ثالثة