يشهد النقاش حول الهوية الأوروبية منذ بداية الألفية الجديدة تصاعدًا لافتًا، حيث أصبحت مسألة “الأوروبيّة” في قلب الجدل السياسي والاجتماعي بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي وحدوده ومعايير الانتماء إليه. فبعد أن كانت هذه الهوية تُستحضر في سياقات خارجية، تتعلق بمكانة أوروبا في النظام العالمي، باتت اليوم مرتبطة بصورة مباشرة بالمسائل الداخلية، وخصوصًا بعلاقة الأوروبيين بأنفسهم وبالآخرين، خصوصاً أولئك القادمين من خارج القارة كمهاجرين أو لاجئين.
هذا التحول يتصل بعمق بالأزمات التي مرّت بها القارة خلال العقدين الأخيرين، وعلى رأسها أزمة اللاجئين، التي لم تعد تُختزل في كيفية إدارة حركة الأشخاص نحو أوروبا، بل تحوّلت إلى سؤال وجودي حول من يُعتبر جزءًا من “نحن” الأوروبية، ومن يُبقيه الخطاب العام في موقع “الآخر” غير القابل للاندماج. فلم تعد الهجرة تُفهم كظاهرة اجتماعية أو اقتصادية طبيعية، بل صارت تُعرض كاختبار حاسم لهوية أوروبا وحدودها القيمية والثقافية.
هذا الطرح تجلى بوضوح في الجدل الذي أثارته المفوضية الأوروبية سنة 2019 حين أعلنت عن منصب جديد تحت عنوان “حماية أسلوب الحياة الأوروبي”، قبل أن تعيد تسميته إلى “تعزيز أسلوب الحياة الأوروبي”، بعد تعرضها لانتقادات واسعة. الربط بين هذا “الأسلوب” وبين ملفات الأمن والهجرة واللجوء، أثار تساؤلات جدية حول توجهات الاتحاد، حيث فُهم ذلك كإشارة إلى نزعة دفاعية تنحو نحو الانغلاق الهوياتي، وتُعيد رسم حدود الانتماء ليس فقط من خلال المعايير القانونية، بل انطلاقًا من منظومة قيمية يُفترض أنها تمثل جوهر “الأوروبيّة”.
في قلب هذا النقاش، برزت دعوات إلى بناء أوروبا متماسكة ثقافيًا وقيميًا، تتبنى ما يشبه النموذج الحضاري المميز وتحدده تمايزًا عن “الآخرين” الذين يُنظَر إليهم كتهديد محتمل لهذا النموذج. بعض المفكرين الأوروبيين عبروا عن قلقهم من أن تفقد أوروبا ذاتها إذا لم تُحصّن ما تعتبره خصوصيتها الحضارية، محمّلين الاتحاد الأوروبي مسؤولية الدفاع عن هذه الهوية، خصوصاً في وجه جماعات تُعتبر غير منسجمة أو حتى معادية لمنظومتها القيمية.
في المقابل، هناك أطروحات تدعو إلى تصور أكثر انفتاحًا للهوية الأوروبية، يرفض اختزالها في تعريف ثقافي أو ديني ضيق. هذه المقاربة تنطلق من قناعة بأن أوروبا، بتاريخها الطويل وتنوعها العميق، لا يمكن أن تُعرّف بهوية واحدة، بل يجب أن تظل فضاءً مفتوحًا للتعدد والاختلاف، لا ساحة لمواجهة بين “نحن” و”الآخر”. أصحاب هذا الرأي يتحدثون عن أوروبا بوصفها “أرض حدود”، مكانًا يتقاطع فيه المختلف والمتنوع، لا ساحة لتعزيز التجانس.
رغم ذلك، فإن السياسات الأوروبية في العقود الأخيرة، خصوصًا فيما يتعلّق بالهجرة والاندماج والتجنيس، تميل إلى اعتماد نهج أكثر صرامة. ما يُعرف بـ”التحول المدني”، يشير إلى تغير ملحوظ في مقاربات دول مثل هولندا وبريطانيا، حيث أصبحت معايير الاندماج لا تقتصر على المشاركة الاقتصادية أو الالتزام القانوني، بل تشمل أيضًا الانسجام مع ما يُقدَّم كقيم المجتمع، بما في ذلك قضايا متعلقة بالحياة الشخصية، كالمساواة بين الجنسين والعلمانية.
وبالتالي، لم يعد يُطلب من المهاجرين مجرد الالتزام بالقوانين، بل أن يُظهروا توافقًا أخلاقيًا مع منظومة قيمية محددة، غالبًا ما تُصوَّر على أنها تمثل الأغلبية. هذا النوع من الاندماج، الذي سماه يورغن هابرماس بـ”الاندماج الأخلاقي”، يبتعد عن فكرة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات، ويتحول إلى اختبار للهوية والانتماء، حيث يُنتظر من الفرد أن يتماهى مع قيم يُفترض أنها جوهرية وغير قابلة للتفاوض. وتُستخدم لذلك أدوات مثل “عقود الاندماج” والمقابلات الرسمية، التي تركز في كثير من الأحيان على خلفيات دينية وثقافية معينة، وخصوصًا المسلمين.
في هذا المناخ، صار مفهوم “القيم الأوروبية” يُستعمل أحيانًا كسلاح رمزي لإقصاء فئات بعينها. فالحديث المتكرر عن “أسلوب حياة أوروبي” يتحول إلى غطاء لسرديات تمييزية، تعيد إنتاج صورة “الآخر” كمشكلة أو تهديد، وتُعمق الانقسامات داخل المجتمعات الأوروبية نفسها. ويذهب بعض الباحثين إلى القول إن هذه السياسات لم تعد مجرد استثناءات، بل أصبحت تعبيرًا عن تحوّل جوهري في تعامل الاتحاد الأوروبي مع المهاجرين، يُظهر التوتر العميق بين خطاب حقوقي كوني، وممارسات تمييزية واقعية.
الخطر هنا لا يقتصر على الإقصاء الفعلي للآخرين، بل يشمل أيضًا ما تخلقه هذه السياسات من تجانس مفروض داخل “نحن” الأوروبية. حين تُعرض “القيم المشتركة” وكأنها ثابتة ومتجذرة، فإن ذلك يُضعف التعددية الداخلية ويُقوّض أحد الأعمدة الرئيسية للمشروع الأوروبي، ألا وهو احترام التنوع. وبدلاً من أن تكون الديمقراطية وسيلة لتوسيع دائرة الانتماء، تُستعمل قيمها كأدوات لتحديد من له الحق في الانضمام إليها، ومن يُبقيه الخطاب على الهامش.
في المحصلة، تبرز هذه التحولات كيف أن الاتحاد الأوروبي، في محاولته لصياغة تماسك داخلي، يجد نفسه أمام معادلة صعبة: إما أن يُكرّس هوية منغلقة تحت شعار “القيم المشتركة”، أو أن يفتح المجال لهوية متعددة، تقوم على الاحترام الفعلي للاختلاف والمساواة، وتعكس روح المشروع الأوروبي كما صيغ بعد الحرب العالمية الثانية.
المدن
Leave a Reply