«في بعض الأحيان، يكون المكان الذي تشعرين فيه بالأمان هو أبعد ما يكون عن الانتماء.» هكذا تكشف لنا رواية «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» للكاتبة التركية إليف شافاق عن وجه إسطنبول الآخر، المدينة التي طالما وُصفت بأنها مدينة الأحلام والفرص، لكنها هنا تتحول إلى مسرح للخذلان والجراح. مدينة صاخبة بالحياة ظاهريًا، لكنها تنضح بالعفن والموت في دهاليزها الخفية.

في هذه الرواية، لا تكتفي شافاق بكشف قسوة المدينة، بل تحفر عميقًا في مأساة ليلى البطلة التي تلقت أولى طعناتها من أسرتها، ثم لفظتها شوارع إسطنبول القاسية. حياة متشظية تقودها إلى مصير مأساوي: جثة ملقاة في القمامة، وذاكرة تصارع النسيان لعشر دقائق وثمانٍ وثلاثين ثانية فقط، في عالم غريب يليق بغرابة ما عاشته.

شخصية ليلى
من سوء القدر أن تولد ليلى لأبٍ متشدد لا يفقه بالدين شيئا، ولكنه يتخذه غطاء ليستره، ولأمٍ تدور حول نفسها في عالمها الخاص، لتربيها زوجة الأب التي حرمت من الإنجاب. ليلى، الفتاة الرقيقة التي أحبها الجميع، هي ضحية تحرش عمها لمدة عشر سنوات، عشر سنوات من الحسرة والخوف والألم والتلاعب النفسي، فهذا العم اللعين كان يوهمها بأنها المذنبة لا هو. أصبحت شخصية ليلى شخصية مفككة ضعيفة يسهل اختراقها، بسبب أسرتها التي لها الفضل بتحطيم صمام الأمان والحائط الذي تستند إليه لتصبح فتاة مراهقة مجروحة وخائفة، وتشعر بالذنب يلاحقها أينما حلت، حتى عندما هربت من جحيم العائلة، رأت نفسها تبيع الجسد الذي تسكنه حتى تحظى بحياة لا تشبهها لكنا مجبرة عليها. قد يثور البعض ضد ليلى ويراها مذنبة بسبب الطريق الذي اختارته، ويتعاطف الآخر معها، ويراها ضحية بسبب ما عاشته من صدمات الطفولة والألم النفسي والجسدي الذي لازمها إلى آخر لحظة في حياتها، ولكن الجميع يتفق على أنها ضحية ظُلمت من الأهل وخذلتها الحياة في إسطنبول القاسية.

الذاكرة والهوية..
تستعرض الرواية الذاكرة والهوية ليشكلا العنصر الأساسي للرواية، فمن خلالهما نفهم عمق الشخصيات وحياتها. نلاحظ ذكريات ليلى التكيلا، وهي تتدفق عليها كتدفق النهر حتى في آخر لحظات حياتها، فبدأت الذكريات تمر عليها منذ طفولتها مع أسرتها المتشددة، وصولا إلى ذكرياتها وهي فرد مهمشٌ وهش في المجتمع، هذه الذكريات التي تعصف بها وهي ذكريات محملة بالحب والكره والروائح والأطعمة الشهية والأصوات، فهي ذكريات مليئة بالحياة على عكس الموت الذي تصارعه. هذه الذكريات هي الأساس التي ارتكزت عليها حياة ليلى، فلولاها لما تشكلت هويتها ولما انتهى بها الوضع وهي مقتولة ومرمية في القمامة كسلعة مهترئة حان وقت التخلص منها.
الماضي ليس إلا مرآة لهويتها الحالية، فجميع تجاربها السابقة والظلم الذي وقع عليها، أصبح جزءاً أساسياً من شخصيتها ومن تعريفها لذاتها وعلاقتها بالآخرين. ليلى هي نتاج العلاقات التي بنتها مع الآخرين، وتبرز هنا أهمية الصداقة في حياتها، فهوية ليلى ليست هوية فردية، ونلاحظ ذلك من خلال صداقتها وارتباطها الوثيق بهم، فالصداقة هي عنصر مكمل لهوية وذاكرة ليلى، التي امتدت للأشخاص الذين أثروا في حياتها وهم أصدقاؤها الخمسة.
توضح الرواية أن الذكريات، سواء كانت سعيدة أم حزينة فهي تعيش في العقول والأرواح، ولا تنتهي أو تتلاشى بمجرد أن يلفظ الإنسان أنفاسه الأخيرة، الذاكرة بلا شك هي عنصر أساسي لفهم الذات والتصالح مع النفس البشرية وتشكيل هويتها، حتى إن قاومها المجتمع ورفضها، وهذا ما نجحت به إليف شافاك في تسليط الضوء عليه في رواياتها.

تنجح إليف باستفزاز القارئ وتثير حفيظته من عدة جوانب. في هذه الرواية نراها ترسم الصداقة بريشة دقيقة، وتسلط الضوء على المثليين، الفئة المنبوذة في المجتمع التركي، فنرى تنوع أصدقاء ليلى الأوفياء، الذين أصبحوا بمثابة عائلة لها، وألقت الضوء على شخصية «نالان نستولوجيا» بشكل خاص، وهو شخص متحول جنسياً وملحد ومتمرد على كل شيء، وكأنها تستفز القارئ بذكره، وتحاول أن تثبت وجوده وتظهر التمييز ضد المثليين والمتحولين جنسيا، من خلال طرح معاناته، بل له الدور البطولي في إنقاذ جثة ليلى. الجدير بالذكر أن أغلب الشخصيات في الرواية هي شخصيات تعتنق الدين الإسلامي، ولكن إليف تظهرهم بصورة سطحية وساذجة، حيث تفكير هذه الشخصيات محدود ومتحجر للغاية، تصفهم وتتحدث عنهم بأسلوب هزلي وساخر، فنراها ثائرة تجاه الأفكار والعادات والتقاليد والخرافات، في حين تدافع باستماتة عن العاهرات والمتحولين جنسيا وتظهر تعاطفها معهم، وأعتقد أن هذا يوضح توجه الكاتبة وما تؤمن به، وسترى المزيد من هذهِ الأفكار في الروايات المقبلة.
فكرة الرواية جميلة جدا، لولا أن إليف بالغت بإظهار وتجميل الفساد، وكأنه الخيار الوحيد والأنجح الذي يضمن للفرد حياة أفضل من المكان الذي كان يشعر فيه بالظلم، بل تحاول ترسيخ أن كل شخص سلك طريقا غير مقبول به اجتماعيا هو شخص مظلوم مضطهد ومنبوذ من قبل المجتمع، لم تحاول إليف أن تذكر الخيارات والفرص المتاحة التي يستطيع أن يختارها الإنسان المظلوم ليعيش حياة كريمة، بل اكتفت بالجانب المظلم من إسطنبول، ليكون ملاذا للتائهين. المعاناة الإنسانية تتجلى في هذهِ الرواية، فنرى جميع أنواع الظلم الواقع على الإنسان من الانتهاك والتحرش إلى التحرش الجنسي والفساد، أخذت إليف هذهِ القضايا على محمل الجد وطرحتها بكل جرأة كعادتها.
تمثل رواية «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» نموذجًا أدبيًا بارزًا في معالجة قضايا التهميش والنبذ الاجتماعي من خلال تقنية سردية تتنقل بسلاسة بين الأزمنة والأماكن. استطاعت إليف شافاق أن تقدم عملاً روائيًا ينبض بالحياة رغم انطلاقه من مشهد الموت، موظفة لغة غنية وصورًا بصرية مكثفة، لتصوغ تجربة وجودية عميقة. ومن خلال الشخصيات التي تنتمي إلى هوامش المجتمع، تعيد الرواية طرح أسئلة الهوية والانتماء، وتعري تناقضات المدينة الحديثة التي تبدو براقة من الخارج، لكنها تخفي في طياتها كثيرًا من الألم والعزلة. إنها رواية تشهد على براعة كاتبتها في تحويل المعاناة إلى نص أدبي مؤثر ومتماسك.

القدس العربي