في قراءة سابقة نوهت بإيجاز عن المجموعة القصصية المشتركة ” مرصد المتاهة ” الصادرة عام 2020 عن منشورات تكوين، لكاتبات ثلاث هنّ: سوزان خواتمي، أفراح الهندال، واستبرق احمد.

اعتمدت فكرة المجموعة على أخبار من العالم تناقلتها الصحف والمواقع الإلكترونية، نجحت فيها كل كاتبة الحفاظ على رؤيتها المتفردة، وخصوصية أسلوبها.

واليوم أعود إلى ” طعم الخل ” للأديبة سوزان خواتمي

العنوان:

عنوان لافت وغريب يعبر عن مضمون القصة غير كاشف له، تبحث عنه في أرجاء القصة فلا تجده بشكل مباشر، فهو غير موجود في مفردات القصة، لكن الكاتبة نثرته على هيئة قطرات صغيرة كل عدة أسطر، قطرات لا تعرف كنهها؛ فهي لا تكفي للحكم على مذاقها، ربما لو جمعت هذه القطرات ـ على مدى القصة وصولا إلى النهاية ـ لعرفت حقا ” طعم الخل ” وهنا أراه عنوانا متفردا بل لربما أراه عبقريا.

” تنقسم حياتي إلى ثلاث مراحل : ليتها كانت ولدا.. محاولات الإنجاب الفاشلة.. وما جرى بعد ذلك “.

ربما تكون العبارة السابقة هي البداية الحقيقية للقصة, ولو وردت في البداية لكانت بداية كاشفة للقصة، ولأصبحت قصة عادية، وقراءتها تحصيل حاصل، وهنا يتبدى الفرق بين القاص الحاذق الموهوب وبين القاص العادي، فقد أجلت الكاتبة هذه الفقرة إلى منتصف القصة، بعد أن عمدت إلى بداية مبهمة لا تفصح عن شيء.. مريضة ترقد في مشفى لإجراء تحليل ما.

” مجرد تحليل للأنسجة.. لم كل هذا التوتر؟ قالت لي”.

لم أجد صوتي لأجيبها ” أريد فقط أن أعرف من أية نطفة أو بويضة أنجبتها ! “.

وهنا أمسكت الكاتبة بتلابيب القارئ ليتابع متشوقا للآتي والتي لا تفصح عنه الكاتبة مرة واحدة، بل على شذرات نثرتها في أنحاء القصة رويدا رويدا، لنكتشف المشكلة القديمة الجديدة.. إنجاب الولد الذكر وأهميته في مجتمعاتنا الشرقية الذكورية.

” لم أكن بحاجة إلى بنت لم تعتذر عن قدومها…..”

” ضميها إلى صدرك وستهدأ. لم أفعل . “

وهنا تبدأ القصة في أخذ منحن جديدا، ونبدأ في اكتشاف المعضلة.. الأم غير الراضية بإنجاب بنت، فتهملها عمدا، على أمل إنجاب ولد، فتقول: ” المرأة التي لم تنجب ذكرا تظل بطنها خاوية “

وعلى هذا المنوال تسير القصة.. محاولات فاشلة لإنجاب ولد تنتهي باستئصال الرحم، وهكذا ينتهي الحلم نهائيا عند هذه المرأة فهل ثابت إلى رشدها واهتمت بابنتها الوحيدة، وتعاملت معها بحنان أم؟ كلا بل اشتد رفضها لوجودها، بل ومقتها لا لشيء إلا لأنها جاءت بنت بدلا من ولد كانت تتمناه وتنتظره، وهكذا تستمر الحياة لتنمو البنت عصبية، ومتنمرة على كل شيء، كارهة لأمها التي بادئتها الكره والإهمال.

” ـ يا بنت أنا أمك .

ـ أعرف منذ البداية أنك لم ترغبي بي، فلا تكوني أما هكذا فجأة “. و.. ” كما لو كنا فقدنا صمام الأمان بيننا بوفاة أبيها، تحولنا إلى امرأتين تعيشان تحت سقف واحد، ولا تكفان عن خوض المشاحنات…..”

وتمضي الأمور هكذا لترد الابنة صاع ـ كراهية الأم لها ـ صاعين، وطبعا هذا هو المتوقع من الجميع إلا الأم نفسها التي لم تدري بجريرتها حتى النهاية، وليكتمل مذاق القطرات المنثورة على فقرات في العمل حين تجميعها معا منتجة مذاقاً واضحاً هو ” طعم الخل “، وهنا نتساءل أكان طعم الخل هو ما ذاقته الأم أخيرا؟ أم ما جرعتها إياه لابنتها منذ ولادتها وحتى شبابها ؟!

المضمون قد لا يكون جديدا، ولكن ما يجعل القصة رائعة هو هذا التناول المميز الحساس من المبدعة، التي بدأتها ببداية مبهمة، ثم الكشف التدريجي مع تصاعد الحدث، مع الذهاب للماضي أحيانا ثم العودة للحاضر، مع بعض التقديم والتأخير، حتى نصل إلى ذروة الحدث أو لحظة التنوير، وهي النهاية القوية التي تكلل الصراع الحادث .. إذ ألقت البنت بأمها في مأوى العجزة.

سعدت كثيرا بقراءة هذا العمل الجميل الحساس، كثيرون هم من يكتبون القصة، ونادرون هم الموهوبون المتمكنون هكذا.