قضى أكثرَ من أربعين عاما في الصحافة، وعندما تقاعد، خطر بباله أنه يعرف الــكــثــيــرَ عن الحضارات العظيمة، وعــن الملوك الكبار، لكنه لا يدري شيئا عن الحضارة الأنغكورية، لأنَّها، كما قال جون بورجيس، شكَّــلتْ له هاجسا مؤرقا لغموضها وغرابتها، منذ طفولته الأولى. والسؤال الذي تبادر إلى ذهنه، إذا أراد أنْ يكتبَ عنها، هل يكتفي بأنْ يجلس في مكتبه، ويتخيل رحلة إلى كمبوديا، أم يسافر ليعاين حضارتَها العظيمةَ بذاته؟
الحـقـائق والوقائع
لقد حسم الأمرَ نهائيا، فأغلق مكتبه، وتوجَّه إلى المطار. وهناك، في كمبوديا أمضى عشرَ ســنــواتٍ، لــتُــتَــوَّج بــتــألـيـــفــه رواية «امرأة من أنغــكور» في خمسمئةِ صفحةٍ. وقبل أنْ يرحل إلى كمبوديا، لملم العديدَ من الحـقـائق والوقائع التاريخية عـنها، بل ألــف كــتابا موسوما بـ»قــصص في الحجارة.. ولغز التاريخ الخميري».. ولكي تكتسي الروايةُ صِدْقِــيَّــتَها الفكريةَ والفنيةَ، جعل لها شخصيةَ امرأةٍ خَميريةٍ (نسبة إلى قبيلة الخَمير) تعيش مع سورْيافارْمانْ ـ الملك، وتعرف كلَّ شيء، يبني عليه أحداثَ روايته. فهذه الشخصيةُ (الأُنثويةُ) هي الرَّاوِيةُ الخياليةُ، التي ستخدم وتؤنس الشخصيةَ (الـذكــوريةَ) سورْيافـارْمانْ، في جلساته وسهراته ولقاءاته، مــثــلــما كانتْ تـــفـــعـــل شهـرزادُ مع شهريار.. والحافزُ الخفي بين السيدتين الجميلتين متـشابه لحدٍّ كبير؛ فالأولى (سراي) تــحضر صدفة إلى القصر، لتعيش مع زوجِها العامل هناك، قصد الـتستـر على جُــرْمٍ ارتكــبته (بقي هذا الذنْبُ في الرواية غامضا، ربما لإثارة خيال القارئ، وهذا من تقنيات الكاتب السرية) إذ لم تجدْ ملاذا تـلجأ إليه، وتختبئ فيه، غيرَ البلاطِ. والثانية (شهرزادُ) تأتي في «ألف ليلة وليلة» زوجة لـ(شهريار) فيما والدُها يشتغل وزيرا. وإذا كانتْ تحكي كلَّ ليلةٍ قصة عجيبة، تُــثــيـر بها شهريارَ لتنوِّمَهُ، كي تؤجِّلَ قــتــلَها، ولا تلقى مصيرَ من سبقْــنَها. فإنَّ الثانيةَ تلتقط قصصا عن تشييد معابد (أنغكور) وتاريخ إمبراطورية الخَمير الحُمْر، والمؤامراتِ التي شهدتها، والحياة العامة للناس، لتحكيها لنا بالتفاصيل الدقيقة. وبذلك، ترشُق الروايةُ عصفورين بحجرٍ واحدٍ: الخيالَ والواقعَ.. فـ(الخيال) يتجلى في قصة المرأة، ودخولها إلى القصر لحماية نفسها، وفي طريقة تشييد المعابد. و(الواقع) يــتَــمَــثَّــل في سرد تاريخ التراث العالمي لمنطقة (أنغــكــور) الكمبودية. وما يجمع بين الأُنــثــيــيــن (شهزراد وسراي) هـو الخوف من حبل المشنقة الذي كان يطوق عنقيهما والأمل في النجاةِ منه عبر عملية الحكي القصصي، والسرد التاريخي. وهذا يبرز جليّا أنَّ المرأة بصفةٍ عامةٍ، عربية كانتْ أم آسيوية أم أمريكية… تمتلك مَلَكاتٍ وقُدُراتٍ ذهنية طبيعية لـتسيــير حياتها وما حولَها، وإنْ كانتْ أمية، كما سنرى في تحليل نص الرواية.
كان من حظ الكاتب جون بورجيس، قبل أنْ يشرعَ في تأليف هذه الرواية، أنْ يستيقظ صباحا باكرا، ليقصد أنغكور، فيسير في دروبها ومساربها بين جدرانها الشاهقة المذهلة، التي ـ في رأيه ـ لا نظيرَ لها في تاريخ البشرية، سواء من ناحية الحجم، أو من ناحية الرمزية الدينية، أو الروحانية، أو الدقة في البناء والهندسة المعمارية، أو النقوش الفنية ذات الدلالات الثقافية والاجتماعية للخمير الحُمْر.. فكانتْ هذه الجَـــولاتُ الصباحِـــيــةُ، ملهِـــمة له بأنْ يَــقْــرِنَ الخَـيـالَ بالواقع، فاختار المرأةَ (سراي) التي كانتْ تُضاهي شهرزادَ العربيةَ في جمالِها ونباهتِها (فقط) فهي: (نقـية لطيفة، تتوهج حُسنا وجمالا مثلَ القمر وراء الغيوم) يصفها بورجيس.. لكنَّ شخصيتَها، في الوقت نفسه، كانتْ غامضة، وغيرَ متعلمةٍ، يتجاهلها مجتمعها، ولا يقيمُ لها أيَّ اعتبارٍ أو وزنٍ، أي أنَّ الكاتبَ تعـمَّـد (أنْ تكون شخصيةُ سراي أقلَّ شأنا من النساء الأخريات المتعلمات منهن والأميات)، وبفطرتِها وتربيتها البسيطة وشخصيتها القوية، وتصميمها وإرادتها، تمكنتْ من إحداث تأثير بليغ في الشخصيات التي كانتْ حولها، ومنها الملك (سورْيافارْمانْ)، بل تربية وتعليم نجلَيْها، ليغدو أحدُهُما مهندسا معماريا، والآخرُ مستشارا للملك.
الزمانُ هو القرنُ الثاني عشرَ، والمكانُ كمبوديا، مسقط رأس حضارة (أنغكور) المتلاشية، التي سادتْ عصرا، وكادتْ أنْ تُــبادَ عن آخِرِها، وتغدو مجردَ خيالٍ، لا وجود له على أرض الواقع، أو في تاريخ البشرية، لولا علماءُ الآثار الأوروبيون الذين أخرجوا بعضَها من الأنقاض، وكشفوها من بين الغابة الكثيفة التي حجبتها عن الأعين.. ففي منطقةٍ قريبةٍ من معــبد حجري عالٍ، تعـيش الـمرأةُ الشابةُ (سراي) التي يشبهها جيرانُها بـ(بطلة ملحمة هندوسية) ويتوجَّسون خيفة من صمتها المطبق، ومن نظرتها الحادة، فهي ـ في نظرهم ـ تُخفي سرا خطيرا، لا تعرفه إلا هي، وتُـؤْثِــرُ الغموضَ الهادئَ، ولا تعاشر الجيرانَ، أو تشارك السكانَ أعيادَهُمْ وحفلاتِهِمُ الموسميةَ، فكثيرا ما كانتْ تختفي عنهم في تلك اللحظات وزوجها (نول) ذو الأذن المقطوعة، يشتغل في حفر القنوات المائية، التي تساعد الفلاحين في رَيِّ حقولهم. إنهما زوجان فقيران، لكنهما قانعان راضيان، لا يطمعان في ثروات الآخرين، ولا يُظْهِران طمَعا أو جشَعا، ويسكــنان في كوخ خشبي صغيرٍ، سقــفه من القش، وراء القصر بالضبط، كأنه سندٌ له من أي محاولة أذى. وهذا الذي حفز (سورْيافارْمانْ) إلى إرسال ممثله، وهو كاهن برهمي (نسبة إلى براهما.. والبرهمية ديانة قومية، تعود إلى براهما، خالق الحياة وموجد الكون، عند الهنود) في فصل الشتاء ليدعــو الزوجين (سراي ونول) إلى حضور حفلٍ موسمي في القصر، بمناسبة هطول المطر، تُــشْــكَــر فيه الآلهة على نِعمِها . ربَّما كانتِ الغايةُ من الدعوة، أنْ يَخْــتَــبر نــيـةَ المرأة الغامضة، وما تنطوي عليها نفسُها الغريبة، لأنَّ سكوتَها يدعو إلى الريبة، وربَّما لــيُراوِدَها عن نفسِها وزوجِها، وهذا أقوى الأسباب، وأقربها إلى اليقين. هناك سيتــم اختبارُ مدى إيمانها وإخلاصِها لعـقـيدتِها البرهمية، فيما أُسْنِــد لزوجِها (نول) صناعة المظلات الحريرية، التي كانتْ رمزا لعظمة الـمـلــكِ في ذلك العصر، تزينه وتـقـيه المطرَ شتاء، والشمسَ صيفا، في خرجاته ونزهاته.. ثم في ما بــعْــدُ، نُـقِلا إلى القصر، هما ونجلاهُما، ليسكنوا أحدَ أجنحته، قبل البدء في بناء (معبد أنغكور).. وبدخولِهِما القصرَ، ستبرز مشاعرُ الحب والكراهية، والطمع والجشع، والدسائس والمكائد، والحزن والألم، والثقة والكذب، والمكر في الجمل المتداولة، والعبارات المتبادلة، وفي الحوارات والنقاشات، كما لو كانت حقيقة بين المتنافسين، مثل (كهنة البراهمان) ورجال الكنيسة الغربيين، والشاميين في الشرق العربي. وخلال تلك المواقف الحَرِجة تصمُد (سراي) لتجتاز لحظاتٍ عصيبة، كيلا يُفْــتضحَ السِّــرُّ، الذي تخفيه في صدرها.
أهـل الشرق العربي
على سبيل المثال، لَمَّا عاد الملك من إحدى زياراته للصين، يُفاجَأ بمستشارته سراي تبدي رغبة قوية ومُلِحَّة في إقامة علاقة متينة مع الشام، وتحقيق السلام مع أهـل الشرق العربي. فيعترض غاضبا، لتكتشف أنه يخطط في السر لغزو هؤلاء. وستحاول عبثا، ودون جـدوى، إقـناعَــهُ بأنَّ (أرواحا خــبــيــثــة) هي التي تــدفـعه إلى مهاجمة الشرق.. وفيما بَعْــدُ، لم تجد بُـــدّا، كي تُــبْعِــدَ عنها الشكَّ، بأنْ يصبح تدينُها عميقا، لـتخفي شعورَها بالذنب، عندما تنغمس في الصلاة، وتمارس الأعمال الخيرية بين أهل منطقتها. فيما زوجُها (نول) يُظْهِر سلوكاتٍ قويمة في التسيــير، وآراءَ قيمة في الحكم، فيصبح كبيرَ مستـشاري الملك سورْيافارْمانْ، بدلا من صنع المظلات.
غير أنَّ الحياةَ لا تظل هانئة، كعادتها، فسرعان ما ستتغــير الأحوالُ، ويبدأ كلُّ شيء في الانهيار والاندثار، حين يشعر (سورْيافارْمانْ) بميله الشديد وعشقه لـ(سراي) الفاتنة العاقلة، فـترفض أنْ تلبي نزوته، رغم مكانته الرفيعة. وتغافــل الحراسَ يوما، ثم تهرب من المدينة، لتعيش في معبد هندوسي فوق تَــلٍّ، تعيد تصميمَهُ وترميمَهُ من جديد. ثم تــشهد على بناء أكـبر معابــد (أنغــكور) وتــقــدم حَــلّا لأكــبــر لغــزٍ فــيه، عــبــر ســؤالٍ: ما هي الــركــائــز الأساسية الــتي نهضتْ عليها الحضارةُ الأنغكوريةُ؟
إنَّ سراي، تـنحو في حكيها منحى ذكيا وجذابا، فهي ظلتْ صامتة، طوالَ حياتها، تتحيَّن الفرصةَ لبدْءِ حكيِها التاريخي، إلى أنْ بلغتْ من الكِــبَــر عـتيا، ولم يبق بينها وبين القبر إلا خطواتٌ قـــلـــيـــلةٌ، فانطلـــقـــتْ تحكي عــن ابنها (سوفان) المهندس المعماري الملهم لإقامة (معبد أنغكور) والذي تعلم حرفــته من كبير المهندسين المعماريين المجهولـين في ذلك العهد، ولم تكن براعته في التصميم، هي العامل الوحيد في تــشيــيد المعبد، بل مباركة السماء له، عندما أُسْرِيَ إليها في إحدى الليالي، وأبدى طاعته لها، كابنٍ بارٍّ بأمِّه سراي.. ويقع هذا المعبد المستطيل الشكل، فوق جبلٍ بعُلُوِّ خمسمئةِ مترٍ، ويمتد مسافةَ كيلومتر على طول منحدرٍ. وتمَّ بناؤه في ثلاثين سنة، ليُهــدى، في الأخير، إلى الإله الهندوسي (فيشنو) الذي يرتبط بالغرب. وكل المعابــد هي تــصوير رمزي للجبال الشاهــقة، من الناحية الروحية، ومنها جبل (ميرو) الذي يعتبرونه (مركزَ الكون). وكان الداعي إلى تـشيـيد أنغكور بما فيه معبدها، هو البعد عن غزو مملكةِ (جــاوَةَ) التي كانتْ، بين الفينة والأخرى، تغزو كمبوديا أولا، وموقعها الجغرافي القريب من بحيرة (تونلي سابْ) الملائمة لتنمية منطقة أنغكور ثانيا، ونقل المنتجات الطبيعية عن (جبل الهيل) الغني بها ثالثا، فالمعبد كان يتوسط المنطقة، لأنه المركز الديني الذي يسير الحياةَ في المملكة الخميرية، فضلا عن القصر. مثلما كنا نشاهد قديما في القصبات العربية، الــتي تـتـوسطها المساجدُ لــيحــتــكــمَ إلى قــضاتها وفــقــهائها وعلمائها الفلاحون والصناعُ والتجارُ فيما هــمْ فيه مختــلفــون.. وفـي ما بعـد،ُ يصيرُ هذا المعــبدُ مأساة، لأنَّ ابنَ (سراي) المهندس (سوفان) بناه في منطقةٍ بين المملكتين (التايلندية والكمبودية) فهما متشابهتان في كل شيء؛ ثقافــتاهما متشابهتان، ولغتاهما متشابهتان، وفلاحاتهما متشابهتان، ومعابدهما متشابهة، وتقاليدهما متشابهة… وبالتالي، نشبتِ الحروبُ، واستمرتْ سنواتٍ طويلة.
وهذه الحضارةُ لم تـدُمْ طويلا، طبقا لنظرية عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في (العمران) التي تفيد بأن الحضارةَ تسير وفق قوانين مضبوطةٍ، تفتح المجالَ على قدرٍ من التنبؤ بالمستقبل من حيث تطورُها وسقوطُها، ففضْلا عن الحرب بين تايلند وكمبوديا، لم تحافظ (أنغكور) على تصورها في تسيير أمور حياتها، فالتجأتْ إلى تبني الرؤية الصينية، مستغنية عن شخصيتها، التي كونتْها بنفسها من تقاليدِها الثقافيةِ والاجتماعيةِ، ما جعلها تضمحل شيئا فشيئا، إذ تبنَّتْ رؤيةَ الصينيين للإمبراطور بأنه (ابن السماء) يُخَوَّل له أنْ يفعلَ ما يشاء، ويُحاطُ بموظفين من علماء ورجال دين وعساكر، ويُـبْعِـد عنه عامَّةَ الناس، ولا يتفاعل مع قضاياهم ومشاكلهم، لأنهم من الدَّهْماء الذين أوجدتْهُمُ الأرضُ.
أمَّةٍ بــرُمَّــتِــها
يقال إنَّ الكاتــب جــون بــورجــيــس أعــاد إحــياءَ أمَّةٍ بــرُمَّــتِــها، تمَّ القضاءُ على تاريخها وحضارتها، بروايته التي تتبنى الخيالَ التاريخي، من خلال عيني امرأة (خميرية).. وعلى الرغم من أنَّ الرواية تتبنى تاريخَ المنطقة، فإنَّ الكاتبَ لم يعتبرها (رواية تاريخية) كيلا يُــلْــزِم نفسه بالأحداث والوقائع والشخصيات والأماكن الحقيقية، ما جعله يستغل حريته الإبداعية في السرد الروائي. وتبدو رؤيته الخاصة للمرأة، حين حولها إلى شخصية فاعلة في سير الأحداث، وإنْ كانتْ غيرَ مؤهــلةٍ علميا وثقافيا لذلك، إذِ استطاعتْ بفطرتِها وتربيتِها الاجتماعية أنْ تحتل مكانتها في مجتمع لا يعير أدنى قيمةٍ للأنثى. فقد حاولتْ، مثلا، أنْ تمدَّ جسورَ السلام مع بلاد الشام، بدل الحرب التي لنْ تجلبَ للأمتين إلا الدمارَ والخرابَ. الشيء الذي يحفزنا على الإيمان بقدراتها في تدبير شؤون المجتمع. ولعل إشارته إلى ابنيها المهندس والمستشار، كان كافيا للدلالة على دورها الكبير في تربيتهما وتعليمهما. كما أنَّ رفضَها لنزواتِ سورْيافارْمانْ، والتخلص منه بخطتها السلمية والجريئة في آنٍ، لدليل على ما يكــنه الروائي من تقدير للمرأة، التي يصفونها بـ(مهيضة الجناح).
*القدس العربي