نقله إلى العربية: عبد الرحمن مطر

هل تعكس وسائل الإعلام الكندية حقًا أصوات وألوان كل من يعيش هنا؟
يزعمون احتضانهم للتنوع، لكنهم غالبًا ما يصورونه كعرض استعراضي: “أرنا كيف ترسم”، أو “أخبرنا
عن اللعب في الحديقة مع أصدقائك”. نُعامل كمعروضات في معرض متعدد الثقافات، ونُدعى للمراقبة – لا
للفهم. عشتُ هنا عشر سنوات. عندما وصلتُ، كانت لغتي الإنجليزية محدودة. كنتُ أكتفي بجمل بسيطة،
لكنني بالكاد كنتُ أستطيع التحدث بشكل صحيح أو فهم ما يُقال لي تمامًا.
عندما بدأتُ العمل في مطعم، جعلتني لهجتي ومهاراتي اللغوية المحدودة أعامل الناس كما لو كنتُ قادمًا من
كوكب آخر. كنتُ أشاهدهم بهدوء وهم يشرحون أبسط الأمور. أنا لا أمزح – أحدهم عرّفني ذات مرة على
الخضراوات.
في البيئات المهنية – المؤسسات الإعلامية، الناشرون، الكُتّاب – تلقّيتُ دروسًا في كيفية التصرف، والقراءة
بصوت عالٍ، والتحدث. حتى أنه قبل إحدى الفعاليات، أعطاني أحدهم درسًا كاملًا في كيفية إلقاء محاضرة:
“جرّبها على المنصة. هل أنت مستعد؟” قالوا. تظاهرتُ بعدم معرفة ما أفعله وقرأتُه بالطريقة التي أرادوها.
أرسلت لي زميلة صحفية منفية رسالةً ذات مرة: “إنهم يحاولون تعليمي القراءة. هل يعتقدون أنني غبية؟
لقد حصلتُ على شهادتين جامعيتين وشهادة ماجستير. كتبتُ بعضًا من أخطر القصص في بلدي. أنا من
أفضل صحفيينا. هذا مُهين. ماذا أفعل؟”
قلتُ لها: “لقد مررتُ بنفس التجربة. فقط تظاهري بأنكِ لا تعرفين – لأنه حتى عندما تعرفين، لن يُصدّقوكِ.”
النشأة في بلد آمن ومريح لا تجعلك أكثر كفاءة أو صوابًا. هل تدرك كيف تستخف بتعليمنا وخبراتنا
وخلفياتنا؟ أشك في ذلك.
لم نأتِ إلى هذا البلد لنصبح صحفيين. كنا صحفيين بالفعل.
في حالتي، غطيتُ محاكماتٍ في أقسى قاعات المحاكم خلال أكثر سنوات بلدي خضوعًا للرقابة. كتبتُ
الحقيقة التي حاول الآخرون إسكاتها. دفعتُ الثمن. ودفع العديد من زملائي الصحفيين والكتاب المنفيين
الثمن أيضًا.

هنا في كندا، وبينما أتعلم لغة ثانية مجددًا، تعلمتُ أيضًا شيئًا آخر: كثير من الناس يعتبرون أنفسهم كاملين
وقادرين – ويروننا نحن من يحتاج إلى الإصلاح. إنهم أكثر حرصًا على الكلام من الاستماع.
لأول مرة في حياتي، سمعتُ شخصًا في مؤسسة إعلامية – مديرًا أو محررًا – يسأل: لماذا يقرأ الكنديون
هذا؟”
طوال سنوات عملي الصحفي في تركيا، لم يسأل أحد قط: “لماذا يقرأ الأتراك هذا؟” لأن الصحافة لا تُبنى
على من سيقرأها، بل على ضرورة كتابتها. القصة ليست منتجًا. لا تهدف إلى البيع أو الراحة، إنها موجودة
لأنها تحمل المعرفة.
الأخبار لا تخدم السوق، بل تخدم الذاكرة. إنها تُخاطب اللحظة وتُحييها.
في صحيفة “طرف”، التي كنت أعمل بها في تركيا، كان رئيس التحرير أحمد ألتان يقول: الأخبار الحقيقية
ليست ما يُنشر، بل ما يُكبت. سننشر ما لا ينشره الآخرون.”

في الحقيقة، فإن الصحافة والأدب لا يتعلقان بالجمهور، بصورة مباشرة، بل بالاستعجال. الصحفي لا يُقنع
الناس بأن الحياة بخير، وليست هذه مهمته. وبصورة أو باخرى فإن الصحفي مقلقٌ، لا يركن الى الراحة،
ولا أحد يُحب سماع المشاكل، ولكن هذه هي الفكرة.
الانزعاج هو الخطوة الأولى نحو التغيير.
إن الرغبة في التحدث باسم الآخرين، والطريقة التي تُشكّل بها المصالح التجارية القصص، ومعايير من
يحق له التحدث، كلها تكشف عن أمر أعمق: ثقافة الإقصاء، والغطرسة، وانغلاق الأفق. أنتم تحكمون على
الكُتّاب المنفيين ليس باللغات التي نتحدثها، بل باللغات التي نعاني من صعوبتها. تتوقعون منا أن نتكيف مع
عالمكم، بينما لا تُبدون أي اهتمام بفهم عالمنا.
حتى عندما نحاول مشاركة ثقافتنا، تُصرّون على أن نفعل ذلك باستخدام أساليبكم.
التحدث باللغة الإنجليزية كلغة ثانية لا يجعلنا أشخاصًا من الدرجة الثانية،وفي الوقت عينه فإن امتلاك لكنة،
لا يعني نقصًا في الذكاء: التردد في إيجاد الكلمة المناسبة، أو ارتكاب خطأ نحوي، أو التوقف لبناء جملة –
هذه ليست علامات جهل، بل هي علامات على التعامل مع لغة جديدة.
لكنكم تعتبرونها دليلًا على عدم الكفاءة.
تحاولون تعليمنا ليس اللغة فقط، بل الحياة أيضًا. وفي ذلك، احتقار لنا- سواء قصدتم ذلك أم لا.
فما الذي يمنحكم الحق في تعليمنا؟
هل النشأة في بيئة مريحة تجعلك أكثر كفاءة؟

عندما تقول: “الكنديون لن يفهموا هذا”، فإنك ترسم حدودًا للخيال. تخترع هوية سطحية ومبسطة تُسمى
“كنديًا” وتطلب منا أن نندمج فيها. بل وتفترض حق التحدث باسم شعب بأكمله.
نكتب من حيث عشنا، وما نجونا منه، وكيف تحملنا الغربة. نحن نكتب أنفسنا. مطالبتنا بالكتابة مثلك، هي
مطالبة منا بعدم الوجود كذواتنا، ان لا نكون أنفسنا. أنت لا تريد أن تفهمنا – تريد أن تُغيرنا. لكن وراء كل
لغة – منطوقة أو غير منطوقة – حياة.
قد نبدأ من جديد، لكننا لا نبدأ من الصفر.
هذه المقالة ليست لي وحدي. إنها لكل من استُخف به، أو أُسكت، أو “تعلم” لأن لغته الإنجليزية لم تكن جيدة
بما يكفي.
قد تكون كندا متعددة الثقافات. ولكن إذا لم تكن ثقافتها متعددة الأصوات، فإن هذه التعددية الثقافية ليست
سوى واجهة. لفهم ثقافة أجنبية فهمًا حقيقيًا، يجب أن ندعها تتحدث بشروطها الخاصة. وإلا، فلن يكون ذلك
مشاركة ثقافية، بل إعادة تشكيل.
تعليم الناس كيفية الجلوس والتحدث والأكل والتفكير وفقًا لمعيار سائد واحد..نشر الحكمة بدلًا من
الإنصات..هذا لا يخلق مجتمعًا متنوعًا. بل يخلق مجتمعًا منعزلًا – مجتمعًا يرفض كل ما هو غير مألوف.
هذه العقلية تحمل أصداء أنظمة سابقة، حاولت محو الاختلاف بدلًا من فهمه. لذا لا يمكننا التعبير عن أنفسنا
إلا من خلال حقيقة ثقافاتنا، وليس بالتخلي عنها.


  • آرزو يلدز، كاتبة وصحفية تركية/ كندية، صدر لها عدة مجموعات شعرية وروايات.
  • نشر هذا المقال في موقع رابطة القلم الكندية PEN Canada، ونقل الى العربية بإذن من الكاتبة،
  • خاص بالموقع