ذاتَ صَفاءٍ زَوَّدَ صديقنا الدكتور جمال قباني مجموعتنا “أثر الفراشة” بثلاثِ حِلىً، قصيدتين وأغنية، أبطالها بشارة الخوري ونزار قباني والرَّحابنة.
وصديقنا لا يرمي درره جِزافاً، وهو الخبير في سحر الكلمة ومراميها، العالم في أثر اللحن وإيقاع النص الشعري والغنائي.
تلك الحلى لوحات مختلفة لحكايات بوح متشابهة، ضفيرة بثلاث خُصل متماهية، نصوص تحكي قصصاً تدور حول انشغال الأنوثة أوَّلَ تبرعُمِها بهواء الربيع يقشر عنها حياء النظرة الأولى واللمسة الأولى والقبلة الأولى.
في الحلية الأولى يبدأ “بشارة الخوري” “حكاية هندٍ” ببث شكواها لأمها مخزن أسرارها ومرجع فتاوى حبها وهواها وراعية تَفَتُّحِ أنوثتها:
أتَتْ هِنْدُ تَشْكو إلى أُمِّهَا
فسُبْحَانَ مَنْ جَمَع النّيِّرَيْنْ
ثم ينطلق في سردية شعرية ترصد تفاصيل انتشاء هندٍ بقطف ثمرات أنوثتها وردةً إثر وردةٍ تَفَنَّنَ في إيناعها ضُحىً ودُجىً وروضٌ وبحرٌ كآية من آيات الجمال شَكَّلَتْها الطبيعة، هنا ستذوق حلاوة القبلة، وستذوب في حضن سخي هناك، ستأسرها تارةً نظرة تكاد تغرق في سحرها، لتقع على الأثر الجميل لتَكَوُّرِ الفتنة في صدرها تارةً أخرى، وسوف يموج البحر بردفيها العامرين كلما أثارت اشتهاءه ساعة تلوذ به، هي الأنثى التي أينما أدارت وجهها أسكرت وأثارت ولاقت مفاتنها حسن الضيافة وطيب الدلال.
فقالتْ لها إنَّ هذا الضُّحى
أتاني وقَبَّلَنِي قُبْلَتَينْ
وَفَرَّ فلمَّا رَآني الدُّجَى
حَبانِيَ مِنْ شَعْرِهِ خُصْلَتَينْ
وما خَافَ يا أَمِّ بَلْ ضَمَّني
وألقَى على مَبْسِمِي نَجْمَتَيْنْ
وَذَوَّبَ مِنْ لونْهِ سائلاً
وكَحَّلَنِي مِنْهُ في المُقْلَتَينْ
وجِئْتُ إلى الرَّوضِ عِنْدَ الصباحِ
لأحْجُبَ نفسيَ عنْ كُلِّ عينْ
فناداني الرَّوضُ يا روضتي
وَهَمَّ لِيَفْعَلَ كالأوّلَينْ
فَخَبَّأتُ وجهي ولكنَّهُ
إلى الصَّدْرِ يا أمِّ مَدّ اليدينْ
ويا دهشتي حينَ فَتَّحتُ عيني
وشاهدتُ فِي الصَّدْرُ رُمَّانَتَينْ
وما زالَ بي الغُصْنُ حتى انحَنَى
على قَدَمِي سَاجِداً سَجْدَتَينْ
وكانَ على رأسِهِ وَرْدَتانِ
فَقَدَّمَ لي تَيْنِكَ الوَرْدَتينْ
وخِفْتُ مِنْ الغُصْنِ إذْ تَمتَمَتْ
بِأُذْنِيَ أورَاقُهُ كِلْمَتَينْ
فرُحْتُ إلى البَحْرِ للإِبْتِرَادِ
فَحَمَّلَنِي وَيْحَهُ مَوْجَتَينْ
فَمَا سِرْتُ إلاَّ وَقَدْ ثَارَتَا
بِرِدْ فَيَّ كالبَحْرِ رَجْرَاجَتَينْ
هو البَحْرِ يا أمِّ كَمْ مِنْ فَتًى
غَريقٍ وكَمْ مِنْ فَتًى بينَ بينْ
يُجْمِلُ بشارة الخوري شكوى هندٍ بأبيات ساحرة رقراقة بلغة بسيطة سلسة تتموسق على قوامها القيثارة، فتدرك الأم نضج ابنتها وتبادرها بضحكة خبيثة تتبعها بمباركة نضوجها والتصريح لها بأنها شربت ذات المدام وانتشت ذات النشوة وغرقت في ذات البحر مراراً.
فَها أنا أشكو إليكِ الجميعَ
فبِاللهِ يا أمِّ ماذا تَرَيْنْ
فقالتْ وقدْ ضَحِكَتْ أمُّها
وَمَاسَتْ مِنَ العُجْبِ في بُرْدَتَيْنْ
عَرَفْتُهُمُ واحِداً وَاحداً
وذُقْتُ الذي ذُقْتِهِ مَرَّتَينْ
وإلى أمها تعود “حلوة“ “نزار قباني” في الحلية الثانية لتحكي لها تفاصيل لقاء حبيبها حين بادرها بقوله: “أنتِ حلوة”، كانت في كامل ألقها، غرست وردة في سالفها وأطلقت عصافير نشوتها من عروة قميصها، يفتتن الحبيب بتوت شفتيها وبصدرها المُضَوَّعِ بالقهوة المُتْرَعِ بالنبيذ وبنهوض نهديها تَلَّةً تحنو على تَلَّةٍ.
كنت أعدو في غابة اللوز .. لما
قال عني ، أماه ، إنيَ حلوه ..
وعلى سالفي ، غفا زر وردٍ
وقميصي .. تفلتت منه عروه
قال ما قال ، فالقميص جحيمٌ
فوق صدري ، والثوب يقطر نشوه
قال لي: مبسمي وريقة توتٍ
ولقد قال: إن صدري ثروه
وروى لي عن ناهديَّ حكايا
فهما جدولا نبيذٍ وقهوه ..
وهما دورقا رحيقٍ ونورٍ
وهما ربوةٌ تعانق ربوه ..
وكأن الحبيب حين وصفها بصوته الرخيم كان قد نفخ الرماد عن وهج أنوثتها، وكأنه اقتحم أسوارها ليقطف القُبْلَةَ عن الشفتين كريح تقطف دراقة سَكْرى عن غصن مترنح لترسل الحلوة بريق حيائها دعوة لجني عسلها، فيستحيل طهرها رغبة واشتهاء.
أأنا حلوةٌ ؟. وأيقظ أنثى
في عروقي، وشق للنور كوه ..
إن في صوته قراراً رخيماً
وبأحداقه بريق النبوه
جبهةٌ حرةٌ كما انسرح النور
وثغرٌ فيه اعتدادٌ وقسوه
يغصب القبلة اغتصاباً .. وأرضى
وجميلٌ أن يؤخذ الثغر عنوه
ورددت الجفون عنه حياءً
وحياء النساء .. للحب دعوه
تستحي مقلتي .. ويسأل طهري
عن شذاه، كأن للطهر شهوه ..
ولا تنتظر الحلوة رد أمها، بل تقرر عنها أن النساء كما الأرض موئل الخصب، كما الأشجار موئل العطاء، كما الجمر نداء الدفء.
أنت .. لن تنكري علي احتراقي
كلنا في مجامر النار .. نسوه …
في حلية “الرَّحابنة” ” يَمِّي ما بعْرِفْ كيف حاكاني” تقصد البنت أمها، تروي لها ما وقع بينها وبين شاب هامَ بها ولم تستطع الفكاك من عذوبة حديثه عن جمالها ورقتها، بل هي راوغت نفسها لتطيل البقاء معه.
يمي ما بعرف كيف حاكاني
و كنت حد العين حيراني
تركتو بقصدي روح بدي روح
مدري شو حد العين خلاني
يمي ما بعرف كيف ما بعرف كيف
كيف تبرح عالَماً يحتضن حسنها؟ كيف تدير ظهرها لمرآة تعكس عذوبتها؟ بل كيف تفر من لحظة تُغْرقُها بأنوثتها؟ كان الكلام طوع لسانه، وكلما حكى صار المكان أجمل، وتقسم البنت لو أنه بقي لصار المكان خميلة.
يحكي و يحكي و صرت إسمعلو
و الحكي كيف كان طايعلو
صاروا الزنابق حدنا يعلوا
لو ضل كان الورد خباني
يمي ما بعرف كيف ما بعرف كيف
وهي إذ استسلمت لمعسول كلماته، فقد نسيت أن لها بيتاً يجب أن تأوي إليه، صار عالمُه بيتَها، وظلت هكذا حتى كادت تخطئ طريق العودة، عادت وهي بالكاد تلتقط أنفاسها، لا تعرف هل كان خفقان قلبها خشية أنها تأخرت أم أن قلبها راح يخفق على إيقاع كلام أصاب قلبها بعشق مكين.
و غابت الشمس و خفت و إحتديت
و ما عدت عادرب لنا إستهديت
ما وعيت كيف ركضت صوب البيت
قلبي يدق و كنت فزعاني
يمي ما بعرف كيف ما بعرف كيف
لا تنتظر البنت كثيراً حتى تهل عليها ملامح عشق الحبيب، منديل أبيض مطرز بالحب، وعطر وقصيدة، لتذوب في العشق وتذيب منديلها بالدموع .
مبارح بعتلي محرمي هديي
سر و عطر أبيض و غنيي
و متل اللي زاغوا هيك عينيي
و حسيت شي بالبال بكاني
يمي ما بعرف كيف ما بعرف كيف
في النصوص الثلاثة بوحٌ طري ندي بريء شفيف في لغة لطيفة سلسة منسابة، وعلى شدة رقة النص المحكي “يَمِّي ما بعْرِفْ كيف حاكاني” كعادة المفردة المحكية وخاصة تلك التي جاد بها الرَّحابنة، إلا أن النصين الآخرين لم يكونا أقل عذوبة والتصاقاً بالقلب، كانت المفردة طوع بنان الشاعرين “بشارة الخوري” و”نزار قباني” رغم اتخاذهما الشكل العمودي للنص حاملاً للخيال ومسرحاً لدفء الأحاسيس والمشاعر، ليبرهنا أن العبرة في النص الشعري إنما لتحقيق مراميه أياً كان شكله، وأن التعويل على مخيلة الشاعر ومهارته في استمالة المفردة وإغرائها ومراودتها عن جوهرها وعمقها كي تكون وردة في مساكبه يدللها بعد أن يحسن اقتناصها، ينتشلها من القاموس القبر لتنعم بشمس القصيدة.
ثلاثُ حِلىً تَحَقَّقَ لها ما يتوق أي شاعر إليه، رشاقة البناء، ليونة المفردة، جمالية السرد، رُقِيُّ الفكرة، وشدة الإدهاش.
طوبى لمن حاك الأحلام منمنماتٍ في محاريبِ الشِّعْر لُحَمُها شَغَفٌ وأَسْدِيَتُها حُروفْ، طوبى لكل طَرَّازٍ شَغوفْ.
*خاص بالموقع