أوراق- العدد10
الملف التشكيلي
دلدار فلمز أحد أبرز الشباب السوريين المبدعين، فرض نفسه منذ سنوات فنانا تشكيلياً، ومن ثمّ شاعراً يرسم بمفرداته كما الألوان مساحات لعوالمه الداخلية، يرسم بفطرية وعفوية الأحلام التي تنبض في لاوعينا حين يجتاحنا الصمت، فنهزي بإنسانيتنا المجروحة حتى حدود المطلق، ويلون بذاكرة التراب المعجون بحنين سنابل القمح الصفراء، التي ملأت مخيال الطفول في مساحات الجزيرة التي شكلت في يوم ما إهراءات روما، هذه الهزيانات وتلك العجينة الترابية الصفراء منحت دلدار مساحة من التفرد، وشكلت له بصمة متميزة على صعيد الإبداع، استطاعت أن تحجز له مكاناً في منفاه الجديد بمدينة زيورخ السويسرية وسط أوربا.
زميلنا دلدار، ورغم مشاغله الفنية والابداعية الكثيرة، أصرّ على مشاركتنا هذه الانطلاقة الجديدة لمجلة “أوراق”، لم يكتفِ بقصيدته الرائعة “مجرفة عمياء”، بل أهدانا كل لوحات هذا العدد، ولوحة الغلاف، وساعدنا في صنع هذا الملف التشكيلي، وفي اختيار مقتطفات أضاءت مسيرته الفنية، حتى تمكنا من إنجاز هذا الملف التشكيلي، الذي نجزم أنه يشكل إضافة جديرة بالقراءة، ويمكن أن نبني عليها مستقبلاً.
هيئة تحرير أوراق

بيان شخصي
دلدار فلمز
إنها الألوان مرة أخرى؛ حيث القرى تتناثر في الاتجاهات وتنام هادئة وادعة تحلم بالمواسم والفرح والمواويل، بيوت غافية على خاصرة التلال بألوانها الكئيبة وأطفالها الحفاة الذين يركضون في البيادر كأفراخ القطا، ويرسمون على التراب محراباً للآلهة، بهذه الشحنة العاطفية الجياشة أتناول هذه العناصر وأخواتها في تجربة لوحاتي المعنونة “الألم السوري”.
واللوحات المنفذة بالألوان الزيتية والإكريليك والأحبار على القماش، تنتمي إلى المدرسة التجريدية التعبيرية، فيما مواضيعها تتداخل مع سيلانات ألوانها، وهنا الأحمر سيد المساحات في اللوحة بسطوته وقوته مع الحاشية الكئيبة والترابية الداكنة ودرجاتها التي تشكل امتداداً للكتلة كخلفية للوحات.
في أعمالي البيت يشبه الإنسان، والإنسان يشبه الشجرة، والشجرة تشبه الحيوان، والحيوان كأنه بحيرة مع شخوص غامضة الملامح مجهولة الأسماء تحس بخوفها واختبائها في ثنايا اللوحة، وتحس بعشقها وبنفس الوقت ترى انكساراتها، تعود بك إلى عالم طفولي كل شيء فيه واضح وصريح، تعود بك إلى عالم مخيف ومرعب، تنهض من أعماقك مشاعر غريبة لا تستطيع إدراكها إن كانت تمثل حزناً أم فرحاً.
انا من الفنانين الذين لا يحبون تصنيفهم تحت أي مدرسة فنية بذاتها، بل في كل تجربة اسعى الى تشييد أسلوب تشكيلي جديد عن سابقه، تلبية لنداء رغبة داخلية في البحث عن جماليات جديدة في اللوحة، ربما توازي رغبتي في الاستقرار الوجودي والمكاني، وتفادى سيطرة العقل في تنفيذ أعمالي. واعتمد إلى حد كبير على شعوري وحدسي الداخلي في إيجاد إيقاعات لونية متناغمة في علاقتها مع الكتلة المجاورة والفراغ الذي يحيط بالعناصر الأساسية في اللوحة.

دلدار فلمز في تجربته التشكيلة
مالدورور العنب الجارح
فارس الذهبي
هذا القبح/ الجميل الذي يفرزه دلدار فلمز بألوانه وفرشاته ضرب على قماش شادر، ضربا بالسكين: يلطخ ما تراكم لسنين وسنين من ذاكرتنا البصرية التي تهالكت على اجترار الواقعية والبورتريه والصمت والانطباعية تلك التعبيرية في مرآة دلدار التي تعكس ما يراه وجوه، حالات، جمل، أشعار امتزجت بأشعار لوتريامون الذي لم يصمد أمام آلام رأسه المطروق بمطرقة هائلة، من ناحية، وبآلامه الشخصية التي عبر عنها ببدائية طفل صغير أراد أن يواجه شظف الحياة بزهرة لكنها ذبلت فانتقم…. بنبل.
عندما يرسم دلدار يستسلم لتوجهات جهازه العصبي المفعم بأناشيد مالدورور وآلام الجيل بل آلام الفرد تجاه المجتمع والقدر، جفاف الوجوه يعكس بحيادية وموت الفعل الميت الذي يستحق رد فعل من جنسه.
ليس لرسمه رسالة انه تفريغ عن شحنات تراكمت وتراكمت ليكون صاعقها للانفجار أناشيد الموت والألم أناشيد غناها هو يتوجه مرة الى اللوحة ومرة الى النافذة ليرى ما يراه أو ما يريده من الشمال الوحيد المهمل.
أناشيد بصرية نغنيها جميعا سوية كل يوم منا من يتفرد بها ومنا لكننا حتما لن نملك أن نخرجها.
لكن دلدار بصقها من داخله تشوهات اصابت أرواحنا وما يزال يخفي الكثير منها “كونه انسانا فقط
وكوننا بشرا أيضا لم نتعود النظر إلى مثل هذا القبح والتشويه الجميل، فحتما نحن أمام إشكالية
أنتقزز مما نراه أم نفزع، أنصفه بالرهيب والمفزع أم نتباهى بما نراه ان فلاسفة علم الجمال اختلفوا كثيرا حول مفهوم القبح وجماليته، ولكن الانسان بطبيعته يعشق أشياء كريهة ويحب أمورا بشعة حقا، من أفلام الرعب الى مسرح القسوة الى التراجيديات الدموية وأشعار لوتريامون معزقة السوداوية.

صورة الموت
عارف حمزة
صورة الموت تجتاح اللوحات المقابر داخل الجسد والعكس، الوجوه التي تحتوي في داخلها وجوها اخرى، اجساد مرسومة على ثياب اجساد اخرى، اجساد منحوتة في اجساد واخرى مصلوبة على اجساد.

بزاوية أخرى وقلب آخر
عصام درويش
تسبح أشكال “فلمز” في جو أقرب لألوان الجدران العتيقة لبيوت القرى الطينية كما لملمسها، وهو يستعمل في خلطة التأسيس للوحاته مواد قريبة لما يستعمله بناؤوها: تراب بدرجات الأوكر تقترب في نهاياتها من الأحمر والبني، يستخدم في توهيجه نثارة الذهب التي يغيب أكثرها خلف ألوان ترابية شتى، كما نرى عيدان التبن الصغيرة التي تجمع الخليط وتصلبه وتخلق ملمساً مرتعشا يقربنا من ذاكرة تربط عمارة الطين بدفء الحقول.
هنا يرسم «دلدار» على تلك الخلفيات حيوانات نعرفها وأخرى لا نعرفها، حيوانات تمشي أو تقف مع البشر كأنما لالتقاط صور تذكارية تندمج معهم، دون أدنى شعور بالغرابة في توليفة تجمع بين الحلم وهذيان السراب.
كما نرى بشرا دون أيد أو برؤوس استطالت رقابها والتفت كما تضخمت رؤوسها أو نبتت لها رؤوس ليست من جنسها، يخلط في هذا المكان الجحيمي الهادئ أنواعا يصعب حصرها من المخلوقات في جو سديمي لا نمط له، ويستطيع ان يقول فيه ما يخطر على باله من أحلام مخلوطة برؤى وخيالات يقظة كابوسية، تتعايش المخلوقات هنا رغم ظهورها العجائبي، بسلام تعينه رغبتها في الوجود تحت نفس السماء، وتنفس الهواء ذاته والخضوع لتجربة تثبيت لحظتها الراهنة داخل الاطار نفسه، ولكن فلسفة ذلك كله لا تثقل اللوحة التي تنعم بصراع لطيف نراه حتى في حيوانات صغيرة، أحيانا على شكل وحوش مشاغبة كنّا قد رأيناها في كثير من لوحات المعلم فاتح المدرس على مدى عقود، لاسيما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وهي مثل تلك اللوحات تصور ايضا هذه الوحوش في ركن قصي تبدو وكأنها تسيطر على المشهد لكن دون حول كبير أو قوة ظاهرة، وهي وحوش لا تحرم اللوحة من سكينتها وجمالياتها.

بين “الحلم” و”الألم السوري” هروب محتمل
هثيم شملوني
هكذا، قد تجد الأجساد بشكلها المستطيل وهي تقترب من مرحلة الاندماج، بينما أطرافها معدومة وأعناقه تطل على جحيم ما، وسيل من الفوضى في الأسفل كان يتضمن، ربما، تلك الأيادي والأقدام المفقودة. ولا أدري إن كانت هذه المرحلة هي نبوءة الفنان لقادم قريب سيحل في وطنه “سورية” لتكون هذه الشخوص التي سبق رسمها هي صورة هذا القادم الجديد في الصراع الدامي. والتي شكلت مدخلاً لمشروعه الأحدث والذي لا يزال يعمل عليه وفق ذات المنطق القديم، لكن هذه المرة بعنوان “الألم الشمال السوري” والذي تحول سريعاً إلى “الألم السوري”، هذا العنوان الذي اختاره الفنان منذ فترة لرسم يومياته اللونية، والتي كان يظن الفنان أنه يخفي فيها الألم، لكنها تجلّت الآن مع تزايد الجراح التي تطفو على أعماله الأخيرة حيث يطل الفنان “دلدار فلمز” بنوافذه الأكثر خصوصية من قبل، لينشرها عبر الانترنت، تلك التجربة التي يبدو عليها الاعتناء الدقيق بالتفاصيل مع رشاقة شعرية ترمي ألوانها وموسيقاها وتمضي. لكن هذه المرة قادمة من شمال الكرة الأرضية حيث يعيش في “زيورخ- سويسرا” إلى ذاكرة “الحسكة- سورية”، حيث كانت طفولته هناك، بدايات ألوانه وحيث كتب قصائده.

العودة إلى الأرض وسكون الشخوص…
رامان آل رشي
فغالباً ما كان فلمز يعتمد في معظم أعماله الفنية على الدمج بين الإنسان والحيوان باعتبار أن هناك مجموعة من المشاعر الغريزية التي يشتركون بها كما يرى، فشخوصه اعتراها المزيد من الغموض وباتت مكبلة بقيود أكثر ولاسيما في لوحته التي اعتمد فيها على شخص واحد ضمن سواد معتم وقد أغلق عليه بإطارات مربعة مع إضفاء بعض الألوان عليها وفي لوحات أخرى قام فلمز برسم شخوص أخرى لكن بلا ملامح سوى الشكل الخارجي لها فقط والتي تثير التساؤل بحد ذاتها عن ماهية هذا الشخوص وتكوينها.
ومن جهة أخرى قام أيضاً برسم بورتريهات لتلك الشخوص الغائبة الملامح مع إضافة بعض الخطوط أو الدوائر التي توحي لنا بوجه لطفل أو إنسان خرافي، ولاسيما أنه وضع في خلفية اللوحة لوناً عسلياً مع بعض الخطوط البنية أو السوداء التي تثير الدهشة عند المتلقي عن قصد هذا الفنان من اللوحة، في حال كانت بصفة تزينية أو اعتبرها كواحدة من المفردات والرموز التشكيلة التي تلمح بخرافية كائناته، وخاصة أنه أضاف في لوحات أخرى بعض رموز حضارتنا القديمة كاليد والعين التي تحمي من الحسد، كاللوحة التي رسم فيها كائناً ما وكأنه معلق على الجدار أو موضع ضمن إطار ما ومن ثم علق (عين الحرز) على هذا الجدار، وعلى الرغم من أن شخوصه باتت مقيدة أكثر في بعض لوحاته إلا أنها كانت مقيدة بماضي ذكرياته وحنينه إلى قريته في لوحات أخرى من خلال العودة إلى البيوت الطينية التي رسمها بالرمز وبأسلوب مختصر في بعض أعماله، كاللوحة التي رسم فيها بيتاً طينياً بسيطاً وأضاف فوقه مجموعة من الوجوه الصغيرة وكأنه يشير إلينا إلى هذا الماضي الذي ارتبطت فيه طفولته بهذا المنزل الريفي القديم مع عدد من الأشخاص الآخرين، وفي لوحاته بعض الإشارة إلى الطرف الآخر أو المرأة لكن بشكل غير مباشر فهو لم يشر إليها كما في معارضه السابقة وإنما لمح إليها فقط مثلها مثل أحد كائناته التي تركت بصمة وأثرا في حياته كاللوحة التي جعلها فيها مقيدة أيضاً ضمن هذه الإطارات المربعة.

يرسم أمواتاً وكائنات في البرزخ ..
العالم مدفننا الأخير ..
قيس مصطفى
لم يكن الموت، في أي لحظة من اللحظات إلا ذاك “الدينامو” الذي يحرك كل شيء في هذا العالم. إنه ذاك الشيء الأساسي الذي يجعل البشر في مواجهة مستمرة مع الزمن.
يعي التشكيلي دلدار فلمز هذه المسألة تماماً، ولذلك يحاول أن يكون له اجتهاده في صناعة آليات المواجهة.
ولنفس السبب تقريباً يبتعد عن ضجيج المدن الكبرى، ليعيش حالة من التأمل والصفاء الذهني الذي يمكنه من وضع اقتراح يقي من الزمن وما يعقب مروره الصعب على الكائنات.
فمنذ رحلت والدته، منذ فترة قريبة، يعيش دلدار فلمز قتامة الموت وإشراقه في الوقت ذاته، قتامته من حيث إنه صانع مستبد للحنين والألم، وإشراقه باعتباره محرضاً على المواجهة.
هذه المعايشة أنتجت ستاً وعشرين لوحةً بقياسات وحجوم مختلفة للوحات، بالدرجة نفسها التي تختلف فيها تلك الأسئلة التي تجعل من الكائن البشري الاجتماعي في مهب الوحدة عندما يرحل الآخرون ويغيبون نهائياً وأبداً
وعندما يصيرون من سكان العالم الذي لا رجعة منه
هذه الطريقة في التساؤل عبر اللوحة الفنية هي بالدرجة الأولى شكل أساسي من أشكال المواجهة ضد المعاناة والموت وفناء الفرد
تلك المسميات الثلاث تعتبر أساسية في قدرة الوجوديين على ضبط كل الأفكار حول حرية الإنسان ومسؤوليته، حيث يعتبر دلدار فلمز تجربته في هذه المرة “وجودية بامتياز”.
يغير دلدار فلمز في تجربته الجديدة جهة البوصلة، فيتخذ من المدافن ثيمة أساسية للعمل بمواد مستمدة من تراب مدينة الحسكة، وسيصبح هذا الطين المعالج وسيلة أساسية للتعبير عن المدفن باعتباره المصدر الأساسي لرائحة أجساد الراحلين، هذه الرائحة التي لا يمكن اعتبارها مجرد عَفن يخدش الأنف، هي رائحتهم هم. أولئك الذين غادرونا.
يرسم دلدار فلمز في منجزه الجديد أجساداً تتمدد على مساحات واسعة في اللوحات وقوفاً وسعياً، دون جهة أبداً، فالكائنات كلها تسبح في برزخ من التشتت، حيث لا حياة أخرى ولا رجوع إلى عالم الحياة.
هذا البرزخ الهلامي غير المحدد يحتوي العديد من الدوائر التي تحمل في معانيها كل دلالات الخوف والغموض. إنه الخوف الذي يمكن سحبه ليصير ملازماً لحياتنا.
يرصد دلدار فلمز في تجربته الجديدة وفي إحدى اللوحات ظاهرة الندب واللطم عند النساء العربيات في الصحراء، تلك المشهدية التي لا يمكن أن تتأمن لعين إلاَّ في الصحراء وعند النساء العربيات تحديداً، حين تتنازل المرأة العربية في لحظة الموت عن كبريائها وتبدأ بالتعبير عن الحزن بشق الثياب، كاشفةً عن جسدها، الذي لن “تلمسه” عين إلا في تلك اللحظة، وفي لوحة أخرى يرسم نفسه أو يظهر وجه أمه الراحلة، هكذا يبدو العالم من وجهة نظر دلدار فلمز مدفناً يفضي إلى حياة أخرى مجهولة… الحياة مدفننا الكبير.

على مرمى حجر
خليل صويلح
لا مكان للبهجة في أعمال دلدار فلمز: كائنات مكبّلة ومحاطة بالسواد، كأنها خرجت للتو من أتون النار. موائد من الدم. وجوه فقدت ملامحها، وحواجز تفصل بين عشاق بلا أذرع للعناق.
أرض محروقة وجرداء، وآهات مكبوتة، بالكاد نسمع أنينها خلف الأقفاص. مهلاً، هناك أيضاً معجم للخراب في أقصى حالات الهتك البشري.
ولكن لماذا نرغب بأرضٍ أخرى، ونوافذ للضوء؟ ألم يأتِ هذا التشكيلي والشاعر الشاب، من أرض الآلام والكوابيس، من صحراء الجزيرة التي لم تعد تغني منذ عقود لأعراس القمح وألوان الربيع. لماذا إذاً لا يمجّد صورة الفحم وهبوب العجاج؟
لا يستطيع دلدار فلمز (يا لهذا الاسم الغامض)، أن يمزج ريشته بألوان أخرى، رغم مكابداته في الخروج من هذا الكابوس…إنه يكتب ذاته على مرمى حجر من الهلاك أو العاصفة.

شـــــــياطين حمـــــر بــآذان طـويــلــة المؤلف
منذر مصري
لا ريب ستكون فرصة طيبة، أن نقف قريبين ما أمكن، ونحملق في لوحات دلدار فلمز، المعرضة الآن للكشف والفضيحة على هذا النحو. فرصة طيبة لنرى كيف يتشخصن هذا الوهم ويصير له وجه. وكيف تتمسرح هذه الأشباح وتلعب أدواراً. في الرسم أكثر بكثير من الشعر، لأنه في الشعر، يزاحم الخاص الذي يراد قوله ما تحمله الكلمات من معان عامة، وما سبق وأتى به شعراء يحمل دلدار، مثله مثل أي شاعر، شبهة الركض خلفهم ورميهم بالحجارة!.
في الرسم، تتاح دائماً بداية جديدة طازجة حقاً، حيث الخطوط والألوان ليس لها سابق معنى، ولا سابق صاحب حق اختراع، وخاصة بالنسبة لرسام غير أكاديمي، تعلم الرسم على يد وهمه الشخصي، وهم أنه يستطيع أن يفعل، على يد إيمان أخرق.

تقاسيم لونية على أنغام التجريد البصري
عبد الله أبو راشد
حاول الرسام اللجوء الى معابر الاتجاهات التعبيرية التجريدية، متسعة المساحة اللونية، والتي تأخذ من وحدات التشكيل الهندسي استعارات بصرية مشروعة في تأليف مكونات كل لوحة من لوحاته، وفيها شيء من العبث الشكلي والمغامرة البحثية واللعب البصري المنشود على توظيف ملونات البيئة السورية لا سيما لون التربة في الشمال السوري وإظهار ملامح شكلية تنتمي لفن المقصوصات التركيبية المأخوذة من واحة خيال الظل ذات الطبيعة اللونية أحادية الجانب والمتواجدة في خلفيات كافة الرسوم، وفيها نوع من الطفولة الهاربة الباحثة عن فضاء تعبيري يكرس فكرة الانتماء الى مساحة حلم ومخيلة مفتوحة على الوصف المجازي والخارجة عن سرب التشكيل الاكاديمي واللمسة الواقعية، واتباع اساليب فن الممكن والمتاح شكلياً عبر اقنية العروض المفتوحة من قبل صالات العرض الخاصة التي تولي الاهمية لديمومة العروض على حساب الفن وسوق تجارة اللوحة.
القطع الهندسي من مستطيل ودائرة ومربع ومنحنيات وسواها هي المفردات الجامعة والمتحركة في فضاء المساحات اللونية في الخلفيات يقتحم أسوار التبسيط الشكلي للشخوص في بدائية ملحوظة تقربه من واحة فن النايف والتجريد العفوي.

الفراغ مجسدا في وجه
محمد ديبو
لوحات لا عناوين لها، مفتوحة على احتمالات النسيان، تشرد باتجاه عدم معلوم، كي تحكي خواء الوجه ووجه الخواء، معرشة من خلاله على الخواء الأكبر الذي يلف أرواح وبيوت ومدن ويسحبها نحو جحيمه المدهش بعريه وبلادته المقاربة لتخوم الموت.
تضعنا لوحة دلدار أمام ذاتنا وجها لوجه نتأمل حالنا وحال وجوهنا في لوحة ممهورة بختم السواد الذي لا يترك منفذ أمل.
وجوه مشوهة، تختفي ملامحها وتتضخم حواسها، حيث نجد وجها بأنف ضخم أو فم ضخم يلغي كل ملامح الوجه، أو وجها تختفي كل ملامحه إلا من تلافيف مخ ضامر منزوي في خلفية اللوحة، في دلالة على مدى تضخم أنانا مقابل صغر تفكيرنا وسخافته الأمر الذي يحيل إلى مدى انغماسنا في حياة الفراغ لنصبح أهل الفراغ وسكانه في آن.
تكمن أهمية الفن عموما في مدى خلخلته للبديهيات وهتك المقدسات سعيا منه لكشف الزيف وتصحيح خلل العالم الذي لن يصلح.
وهنا نجد لوحات عارية صادمة للوهلة الأولى ولكن تفحصا ثانيا وثالثا سيقودنا إلى مزيد من المصالحة معها ستفتح لنا اللوحة أبوابها ومفاتيحها لنرى جزءا منها فينا عندها قد نبكي وقد نصرخ وقد نشتم ثم نهدأ ونستحم في ألوان نتطهر بها من أوساخ عالمنا.
رجل يلبسه قرن في دلالة واضحة على حجم الخيانات التي يتعرض لها ليس من زوجته فحسب، بل من كل من حوله.
القرون الظاهرة في اللوحة لا تحيل إلى خيانة عادية فقط بالمعنى الشعبي المتداول، بل تشير إلى خيانات أكبر وأفظع، خيانة على مستوى الروح والوطن والأهل وكل من لم نتوقع منه إلا الوفاء فإذا بخناجره تنغرس في صميم القلب لتقتل دون أن تنبه!
الأكثر جمالا في لوحة دلدار هو تركيب القرون للمرأة أيضا، إذ جرت العادة أن القرون للرجل، ولكن هنا نجد قرونا للمرأة في دلالة واضحة على مدى ما تتعرض له المرأة من خيانة ذاتها بالدرجة الأولى، قبل خيانة زوجها ومحيطها ووطنها ورحها.
حيونة الإنسان
تأخذ الكثير من الوجوه شكل وجوه أقرب للحيوانات كأن يأخذ وجه امرأة شكل قطة أو بومة، الأمر الذي يحيل إلى هبوط في مستوى القيم ومستوى ماوصلنا إليه، حيث نتذكر ونحن نرى اللوحات كتاب الراحل ممدوح عدوان “حيونة الإنسان”.
لوحة هذا التشكيلي القادم من مدن الفراغ تقيم تناصا واضحا مع مرجعيات ثقافية متعددة، تشتغل عليها بعين الفنان المدربة على اقتناص رؤيا الأشياء المهملة في حياتنا.
