خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة، ويكتب في العديد من الصحف السورية والعربية.
أوراق- العدد10
أوراق السرد
جرت أحداث هذه (القصة/ الأسطورة) عندما كان الرفيق محمود في الستين من عمره. محمود، بعد نضال طويل، ومرير، ومضن، ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية، وحب وتعلق بالقائد التاريخي حافظ الأسد، وعدد من المرات التي تعطلت فيها حباله الصوتية من شدة إلقاء الخطابات النارية في المناسبات القومية، والمشاركة بعدد كبير من الدبكات، منها أكثر من خمس مرات انفتق فيها بنطرونه من جراء حركة النخ المفاجئة؛ عينوه بمنصب عضو فرع بحزب البعث العربي الاشتراكي بإدلب.
الحركة الأولى: أنا جوجو أخت الرفيق أبو العبد
خلال ثلاثة الأسابيع الأولى التي أمضاها الرفيق محمود في عضوية الفرع، شعر بأنه إنسان مهم، ومحبوب.. صار مكتبه يزدحم بالزوار والمهنئين على نحو لا يمكن تصوره.. الآذن، أبو باسم، الذي أفرزه أمين الفرع لخدمته، صار معه دوالي في الساقين من طول الوقوف أمام البوتاجاز لتحضير الشاي والقهوة والزهورات والميلو والكاباتشينو للمهنئين، وطوال النهار يتلقى الرفيق محمود طلبات، ورجاءات، ووساطات من أصحاب المصالح والحاجات.. ويا رفيق محمود بدنا منك هالشغلة، ويا رفيق محمود لا تنسى لنا هالموضوع.. إلى آخره..
في يوم من الأيام، بعد مضي شهرين تقريبًا على توليه هذا المنصب، عند إنتاء النهار، وبينما كان يستعد لمغادرة الفرع، إذ قُرع عليه الباب بأصابع أنثوية رقيقة. لم يكن متواعدًا مع أحد، ومع ذلك خفق قلبه دون إرادته. مسد شعراته المتناثرات على جانبي رأسه، تحسس عقدة الكرافة، وسواها وسط قبة القميص، وقال: ادخل.
فتح الباب برفق. يا للهول. امرأة ثلاثينية في غاية الصبا والجمال والأناقة. قالت:
– مرحبا رفيق محمود. فيني آخد شوي من وقتك؟
وجد محمود أن هذا السؤال ليس في محله. قال لنفسه: ما أحلاني وأنا عم أقول لها لا والله ماني فاضي!
قال لها: ولو. كل الوقت ع حسابك. تفضلي.
جلست على الكرسي القريب من كرسيه. وقف. قال:
– من شوي انصرف الآذن أبو باسم. رح شوف آذن أمين الفرع بلكي بيدبّر لنا فنجانين قهوة.
قالت: لا لا، اقعود هلق، إذا طالت القعدة أنا بفوت عالبوفيه وبعمل قهوة.
جلسا. قالت:
– اسمي جمانة. بينادوني جوجو.. بتعرف الرفيق أبو عبدو؟ اللي صار من مدة عضو بمجلس الشعب عن قطاع صغار الكسبة.
قال: طبعًا، ولو. أبو عبدو رفيقنا وأخونا. حتى يوم اللي نزلوه بقائمة الجبهة كلياتنا باركنا له، ودبكنا قدام بيته.
قالت: شفتك. أنا كنت قاعدة ع السطح وعم زلغط. أنا أخته لأبو عبدو.
قال: مع الأسف ما بعرفك من قبل. على كل حال تشرفت بمعرفتك. قولي لي بالأول. لازمك شي مساعدة؟ ترى أنا بالخدمة.
نفت جوجو أن يكون لها أي طلب شخصي، إنما أرادت أن تزوره، وتتعرف عليه، وتبارك له بعضوية الفرع التي يستحقها بجدارة، حتى ولو جاءت هذه المباركة متأخرة، وتناقش معه بعض الأمور الفكرية، فهو، بالنسبة إليها، قدوة عقائدية، ومرجع. وراحت تسأله عن نضالات حزب البعث العربي الاشتراكي في العهد السري، وبعد ثورة آذار المجيدة، وكيف تم تتويج هذا التاريخ النضالي الحافل بالحركة التصحيحية المباركة اللي فجرها القائد حافظ الأسد. وأعلمته أنها، منذ أن دخلت في سن الصبا، تغلغلت عقيدة البعث في ثنايا روحها ووجدانها، وأنها تأمل أن يأتي يوم تستطيع فيه أن تضحي بالغالي والنفيس في سبيل هذا الحزب العظيم الذي سينجح، بلا شك، في توحيد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.
محمود، بدوره، حكى لجوجو عن الحزب بشكل عام، وعن نضالاته الشخصية، وكيف أنه حفظ المنطلقات النظرية مذ كان فتى في الإعدادية، وبقي على عهد النضال حتى يومنا هذا، وقال إنه يحب القائد الأسد حبًا مَرَضيًا، يترافق أحيانًا مع ارتفاع في الحرارة وزيادة في ضربات القلب، وصار هاجس النضال، في الآونة الأخيرة، يوقظه من عز نومه، حتى إن زوجته صحت الليلة قبل الفائتة، ووجدته يعيّش القائد، فاحتضنته بحنان وقالت له:
– نام حبيبي هلق، والصبح انشالله بتعيّش القائد على تَنْهَة..
خلال هذا الحوار النضالي الشيق صارت “جوجو” تقرّب كرسيها باتجاهه، وتلز عليه، حتى دقرت ركبتها بركبته، وعندما نظر فيها ذبلت له عينيها تذبيلة قادرة على رمي الطائر من السماء جثة هامدة. قال لها وهو يتعثر ببلع ريقه:
– وعدتيني بالقهوة.
قالت: بتحب تشربها من إيدي؟
قال: جدًا. تعالي لأفرجيكي البوتاغاز والفناجين.
ومشيا معًا إلى البوفيه. المكان ضيق. اضطرا لأن يتلامسا، أثناء تحضير القهوة، بالمناطق الناتئة من جسديهما، ولم يحاول أي منهما منع نفسه من هذه الملامسة التي كانت تبدو عفوية، ولكنها، في الواقع، مقصودة.. وبينما كان يمد يده ليناولها علبة البن، التحمت مقدمته مع مؤخرتها البارزة، وكان قلبه يدق خشية أن تنزعج من تصرفه، ولكنها مدت يدها وأمسكت قضيبه المنتصب كالوتد، وضحكت، وأطلقت صفرة صغيرة، وقالت:
– ويلي! كل هاد؟
تشجع محمود، وفتل جسمها نحوه، وأمسكها من أعلى زنديها يريد أن يقبلها، ولكنها دفعته برفق، وقالت له:
– محمود. كل شي بوقته كويس. اسبقني ع المكتب لاحقتك.
انقلبت حياة محمود، بعد هذا الموقف، رأسًا على عقب. طار عقله، واشتعل كيانه. صارت جوجو ترافقه في يقظته وأحلامه.. لم يحظ، وهو شاب في العشرين وفي الثلاثين وفي الأربعين وفي الخمسين بصحبة امرأة تمتلك ربع جمال جوجو وأناقتها وذكائها.. الآن تأتيه برجليها وهي التي تبادر؟ يا إلهي. ما أجمل النضال. ما أعظم هذا الحزب.
صارت الاتصالات بينهما تجري في كل الأوقات. لم يعد يبالي بالعمل، أو بالزوار، أو بطلبات البيت.. المهم عنده جوجو. حاول أن يقنعها بمرافقته في مشوار إلى حلب، حيث يمكن أن يستأجرا غرفتين متجاورتين في الفندق السياحي وفي الليل يتسلل أحدهما إلى غرفة الآخر.. أو إلى جبل الأربعين، فهناك ثمة غرف تؤجر لمثل هذه الحالات، أو حتى أن تزوره مساء في الفرع، على غرار الزيارة السابقة، فيمارسان الجنس على صوفاية المكتب، أو حتى على الواقف أثناء تحضير القهوة البوفيه.. وهي تعتذر وتبدي مخاوف من انكشاف الوضع ثم الفضيحة. لم تصدمه قط، كانت تتبع معه أسلوب الشد والإرخاء، تريد أن تقنعه بأن ما بينهما ليس أكثر من صداقة رفاقية، وأن ما يجمعهما هو النضال وحب الأب القائد.. قال لها، في لحظة وصول الحرارة إلى الألف:
– طيب نتزوج.
قالت: أنا موافقة ولكن..
لكن ماذا؟ الجواب معروف. جوجو ليست امرأة رخيصة ترضى على نفسها أن تكون الزوجة الثانية، تتقاسم الرجل الذي تحبه مع امرأة أخرى، أو أن يقال إنها خطافة الرجال خرابة البيوت العامرة.
قال لها: بدي طلقها.
قالت: لا. أوعى. أنا ما بخرب بيت حدا.
قال لها بعد يومين: طلقتها. أيش بقي لك حجة؟ يا الله معي ع المحكمة.
قالت: إنت حبيبي!
الحركة الثانية: الرفيقة جوجو وتغيير اللوك
استطاعت الرفيقة جوجو بعد الزواج، وخلال زمن قياسي، أن تسيطر على مركز القيادة في دماغ الرفيق محمود، وصارت كلمتها عنده لا تقع على الأرض.
في يوم من الأيام؛ اتصل بها، وأعلمها أنه سيتأخر في العودة إلى البيت، لأن سيرافق أمين الفرع والأعضاء الآخرين لحضور جنازة الرفيق مصطفى مدير دائرة الخدمات الإدارية الذي في الليلة البارحة باحتشاء عضلة القلب، وسيعود بعد ذلك إلى البيت مثل البرق، لأنه في غاية الشوق إليها.
قالت بصوت هامس:
– طيب حبيبي، بس دير بالك، بيجوز تجي ع البيت تلاقي وحدة غيري هون. أوعك تقرب عليها، ترى أنا بغير.
لم يفهم ما قصدته جوجو من كلامها الأخير. فكر، أثناء ذهابه بالسيارة إلى مقبرة الحلفا، بأنه ربما جاءت إحدى رفيقات جوجو لزيارتها، وقد تتركها في البيت وتخرج هي لقضاء حاجة، أو لشراء بعض المستلزمات. أو أن أختها “فرات” التي تشبهها عندنا في البيت؟ لكن فرات متزوجة وتعيش مع زوجها الضابط وأولادها في منطقة الكسوة قرب دمشق، وجوجو لم تخبره أن فرات أتت، أو ستأتي إلى إدلب من قريب. ابتسم لنفسه وقال:
– إنت ليش متعب راسك؟ كلها ساعة زمان وبتنتهي مراسم الدفن وبرجع عَ البيت وبعرف الحقيقة.
الحقيقة التي تأخر محمود قليلًا باكتشافها بعد عودته إلى البيت هي أن جوجو قد غيرت الـ (Look) فبدت له لأول وهلة أنها امرأة أخرى. شعرُها، الآن، أشقر تتخلله خصلات سوداء، وجرى تغيير تسريحته بطريقة مبتكرة. موديل حاجبيها أصبح جديدًا، ولونهما الجديد بني فاتح، الظل والمسكرة والرموش وضعت حول العينين بطريقة آسرة، وحتى طريقة وضع الروج على الشفتين، مختلفة.
كان المرحوم، والد الرفيق محمود، عندما يحكي لأبنائه واحدة من حكايات الملك الذي يريد أن يتفقد الرعية يقول:
– والملك غَيَّر حلّاسه، والوزير كمان غير حلاسه، ونزلوا ع السوق. وطول ما هني ماشيين كانوا الناس يشوفوهم وما يلتفتوا لهم، لأنهم ما بيعرفوا إنه هدول الملك والوزير.
عانقها بحرارة وقال: أشو هاد حبيبتي؟
قالت له: شوفة عينك.. غيرت اللوك.
تغيير اللوك (الحلاس) جعل النيران تشتعل في جنبات الرفيق محمود.. اندفع نحوها يريد أن يأكلها بلا ملح، وبكلتا يديه راح يدفعها إلى غرفة النوم.
أفلتت نفسها منه مثل سمكة صغيرة. قالت له:
– لحقانين حبيبي، اقعود بدنا نحكي بشغلة.
زفر وقل لها:
– جوجو إنتي بتعرفي أيش عملتي فيني؟ إذا كان من دون ما تغيري اللوك مجننتيني، فشلون هلق؟
أمسكت يده ومررت شفتيها على سطحها، وقالت:
– يخلي لي ياك حبيبي. على كل حال إنت ما شفت كل شي. في شغلات تانية راح تكتشفها بعدما إشلح.. وترى إذا بيصير لعقلك شي أنا ما دخلني!
قال متمالكًا نفسه بصعوبة:
– طيب طيب. قلتي لي بدنا نحكي.. تفضلي. أشو عندك؟
شرحت له جوجو الحكاية من طقطق للسلام عليكم. قالت:
– العلاقة بين أخوي أبو العبد وأخوي رمضون سيئة بشكل. رمضون معلم مدرسة ابتدائية، صحيح إنه راتبه قليل لكن أموره ماشية، على عكس أبو العبد اللي كان طفران وما في بيده مهنة، وفوق كل هاد أخلاقه شرسة وعلى طول بيعمل مشاكل في البيت، حتى إنه أبوي الله يرحمه طرده.. غاب عنا سنة أو سنتين، وفجأة منسمع إنه ضارب صحبة مع ضباط المخابرات، وصاير بيناتهم شغل وأخد ورد، وإنه طلب من العميد فايز رخصة براكيّة، والعميد فايز توسط له عند رئيس مجلس المدينة حتى عطوه رخصة براكية. البراكية درت عليه ذهب، وخلال فترة زغيرة اشترى بيت وصار عنده حساب في البنك وقصته كبرت. ومرة تانية نقش معه الحظ لما رشحته قيادة الفرع السابقة لمجلس الشعب، ونزلوا إسمه بقائمة الجبهة، وطبعًا نجح.. وبعدما راح ع الشام صار إلُه صداقات قوية مع مسؤولين كبار وضباط مخابرات على مستوى عالي، ومع هيك ما نَفَّع أخوه رمضون بفرنك. كأنه عدوه!
قال محمود وعيناه لا تفارقان المنطقة العارية من قميص جوجو في منطقة الكتفين والجيد: وبعدين؟
قالت جوجو: تصور، حكت معه الماما، وحكيت معه أنا، مع إني علاقتي فيه كويسة، ويوم نَزلوا اسمه بالقائمة فرحنا له وزلغطنا له. قلت له خود رمضون لعندك ع الشام وادحشه بشي قرنة، بيرضيك يعيش طول عمره على راتب معلم الابتدائي؟ قال لي انشالله بيغور. وقال لي اسمعي يا جمانة، إنتي أختي وعلى راسي، أما هادا السافل رمضون مو أخوي. مع إنه والله رمضون عاقل ومهذب وإبن حلال. محمود إنت صرت بتعرفه منيح.
قال محمود: طبعًا طبعًا. وعلى كل حال منيح إنك قلتي لي. أنا بكرة من الصبح بلاقي له مكان بشي منظمة شعبية وبعمل له قرار تَفَرُّغ براتب وتعويضات كويسة.
قالت: بصراحة محمود؟ أنا ما بدي تفرغه بالمنظمات ولا حتى بفرع الحزب.
واقتربت منه، وأسندت ظهرها إلى صدره، وقالت:
– بدي ياك تعينه مكان الرفيق مصطفى الله يرحمه! قصدي مدير الخدمات الإدارية! أنا بعرف إنه هاي المديرية تابعة لمكتبك. يعني قرار التعيين مستحيل يطلع إلا باقتراحك وتوقيعك.
أحاطها بذراعيه، وراحت أنفاسه الساخنة تلسع رقبتها، وقال:
– إنتي حبيبتي جوجو بتئمريني أمر. والفكرة تبعك كتير ذكية. مع أنها مستحيلة. يا ريت لو بتظبط.
ابتعدت قليلًا، جلست طاوية ساقيها على هيئة زاوية حادة، مما جعل ثوبها ينحسر مُظهرًا جمال المنطقة التي بين المؤخرة والمقدمة، والتضاد اللوني بين الكيلوت الأسود والبشرة البيضاء الناصعة.. وقالت:
– هلق بتقلي شهادته مو مناسبة.
قال محمود: مو أنا اللي بدي قول مو مناسبة حبيبتي. الشرط الأساسي اللي لازم يتوفر في المدير إنه يكون معه بكلوريوس في الهندسة، وإذا ما توفر فينا ناخد واحد معه ليسانس حقوق أو اقتصاد وتجارة.
قالت: إم. بعرف. ليك محمود، أنا ما راح إضرب لك أمثلة كتير عن المرات اللي تجاوز فيها حزبنا العظيم شروط الشهادة خلال مسيرته النضالية، من الستينات لما عينوا للشركات الصناعية المؤممة مدراء معلمين إبتدائي، يعني متل أخوي رمضون فرد شكل، وحتى ما تقلي إنه هادا الشي كان في بداية المسيرة راح أذَكّرك بأنه أمين الفرع السابق عين ابن حماه مدير لـ “مؤسسة اللوازم” مع إنه شهادته جغرافية، ونظام مديرية اللوازم بيقول إنه لازم يكون معه إجازة في إدارة المكتبات.
قال محمود: بعرف. بس هادا استبدال شهادة جامعية بشهادة جامعية، مو شهادة جامعية بشهادة أهلية التعليم.
وقفت جوجو فجأة، وبدأت تتخلى عن القميص. قالت:
– حبيبي أنا ما عاد إلي خلق إحكي بهالقصة. قوم خلينا ندخل لجوة.
قال وهو يحتضنها ويقبلها من فمها: تحت أمرك.
قالت وهي تمص شفتيه:
– موضوع رمضون بظن إنتى. وعلى فكرة، رمضون وعدها للماما إنه يخبر أختي فرات تجي زيارة ع إدلب ويطلّعنا كلياتنا مشوار بالسيارة اللي بده يستلمها لما يصير مدير. أنا مو محرومة المشاوير بالسيارات الحمد لله، بس بدي روح معهم مجاملة. تعال بقى لأفرجيك الأفلام اللي ما بعمرك حملت فيا.
وسحبته من يده ومشت به نحو الداخل..
الحركة الثالثة: تعيين، وليس (بَذل جهد)
الحقيقة التي لا تقبل الشك أن الأشهر القليلة التي أمضاها الرفيق محمود مع جوجو لا يمكن أن يسنح مثلها إلا للرجال المحظوظين الذين عاشوا ويعيشون على ظهر هذا الكوكب. لم يصل إلى هذا القناعة بعد المضاجعة الطويلة التي مارساها بعد تغيير جوجو لوكها (حلاسها)، وإنما منذ أول يوم لزواجهما، فكان، كلما إنتت المعركة اللذيذة التي يخوضانها في الفراش، يهنئ نفسه سرًا، ويشكر القدر الذي أوصله إلى عضوية الفرع، وأوصل الرفيقة جوجو، بالتالي، إلى حضنه، وكثيرًا ما كان يبتسم بسخرية عندما يتذكر كيف أن زوجته السابقة كانت لا تلبي رغبته في الجماع إلا بعد أن يبذل عدة محاولات، وتفعلها على مضض، وأحيانًا يلاحظ أنها بمجرد ما تنتهي يغلبها النعاس وتروح في سابع نومة، وفي مرات ليست قليلة كانت تشلح القسم السفلي فقط من ثيابها، متيحة له الفرصة لينهي عمله، ثم تتنفس الصعداء لخلاصها من هذه “المحنة” على خير!
ولكن جوجو نغصت عليه هناءته عندما طلبت منه تعيين شقيقها “رمضون” مديرًا لدائرة تشترط بالمدير أن يكون مهندسًا، أو يحمل إجازة في الحقوق أو الاقتصاد والتجارة. ولكي يبقى محافظًا على رضاها قال لها وهو يرتدي ثيابه:
– لا تاكلي هم حبيبتي جوجو. رح إبذل كل جهدي منشان رمضون.
لم ترق عبارة (رح إبذل كل جهدي) لجوجو. أحست أنه يريد أن يوارب الموضوع على احتمالات متعددة لأجل حفظ خط الرجعة، سيبذل كل جهده، فعلًا، ثم يأتيها، في المحصلة، قائلًا:
– الموضوع مو بهالسهولة يا جوجو، صدقيني حاولت، لكن ما مشي الحال!
لذلك قررت أن تكون حاسمة، فأفهمته أنها طلبت منه “تعيين” رمضون مديرًا، وليس “بذل جهده”.
قال لها: طيب منشوف. إنتي عازمتيني الليلة ع العشا بجبل الأربعين؟
قالت: فكرة ظريفة والله. بشرط أنا بعزمك وإنت بتدفع الفاتورة.
قال: اتفقنا.
الحركة الرابعة: حضن غريمك نوفل ينتظرني
في طريق الجبل. محمود يقود السيارة، جوجو جالسة بقربه. قالت له:
– نسيت إسألك. لسه علاقتك بالرفيق نوفل سيئة؟
قال محمود بضيق: حبابة جوجو لا تنزعي لنا المشوار بسيرة نوفل. يلعنه تافه.
قالت: هوي صحيح تافه، لكن ذكي وملعون. بتعرف إنه كان حاطط عينه علي؟
أوقف محمود السيارة إلى جانب الطريق بعصبية، وقال لها:
– أشو هالحكي؟ إنتي طالعة معي مشوار نروّح فيه عن نفسنا، ولا منشان تضايقيني؟
قالت: أبدًا حبيبي. هوي حديث للتسلية. إذا بدك منغيره حالًا.
قال: لأ. أنا حابب إسمع. بدي أعرف على أي أساس هالكلب ابن الكلب بيحط عينه عليكي؟
قالت: روق حبيبي. هاي قصة قديمة، وهوي واحد من مئات الرجال اللي كانوا حاطين عينهم علي. برأيك أنا مو محرزة؟
قال: بالعكس جوجو. إنتي لقطة. طيب احكي لي. أوعي يكون تراذل معك. حاكم هوي واحد ندل.
قالت له: اسماع محمود. إذا بدك ياني إحكي لك القصة لازم توعدني إنك تسمعها بحياد، وكأنها صايرة مع وحدة غيري.
ابتسم بحب وقال لها: حاضر. هاتي لأشوف، سمعيني اياها.
حكت له كيف أنها كانت تقيم في خيمة واحدة مع رفيقتها إيمان أثناء مهرجان الطلائع قبل ثلاث سنوات من الآن. في المساء أعلمتها إيمان بأن الرفيق نوفل قادم إلى المعسكر لتفقد سير العمل، وكان وقتئذ مفرغًا في فرع الطلائع، وقبل أن تسأل أيمان عن مصدر المعلومة الخاصة بزيارته شاهدت سيارة بيجو 504، زجاجها فيميه. السيارة توقفت أمام الخيمة، نزل منها نوفل، واتجه إلى الخيمة، نقر الباب، فتحت إيمان، رحبت به ودعته للدخول. دخل. لم يكن صعبًا عليها أن تكتشف، خلال دقيقة واحدة، أمرين، أولهما أنه يقيم علاقة مع إيمان، وفي الوقت نفسه يضع عينه عليها هي.
– بوقتها اكتشفت إنه كتير وقح. تصور، وأنا موجودة مسك إيمان وصار يمصمصها، وبنفس الوقت كانت عيونه علي. أنا فورًا تركتُن وطلعت. ومن يومها ما عاد دخلت عَ منظمة الطلائع، ولما طلع إسمه بقائمة أعضاء الفرع قررت ما إجي ع الفرع بفترة المباركة حتى ما إلتقي فيه ويحرجني بتطليعاته وتعليقاته. حتى إني ما عدت سمعت أخباره.
قال محمود: وأشو اللي جابُه على بالك اليوم؟
قالت: من يومين أجت لعندي إيمان وهيي عم تضحك. خبرتني إنه لما سمع إني أنا وإنت تزوجنا طق عقله، وصار ينتف شعره، ويقول: راحت جوجو من إيدي، يلعن حظي.
قال محمود: مو قلت لك إنه واحد واطي؟ وواضح إنه هاي إيمان أوطى منه. كيف بترضى على حالها تصاحب واحد حاطط عينه على وحدة تانية؟
قالت له: إيمان ما كتير بتفرق معها، لأنها مصاحبة أكتر من واحد. وما عندها مشكلة يكون نوفل عم يفكر بغيرها. بس بدك الصراحة؟ في شغلة بتثبت إنه هوي مو واطي كتير.
قال: هه. وشلون بقى؟
قالت: مخبّر إيمان إنه طالما أنا زوجة رفيقه وزميله في الفرع مستحيل يفكر فيني. وخبرتني كمان..
قال: أشو خبرتك؟
قالت: قال إذا أنا وإنت تركنا، هاي المرة مستحيل يروحني من إيده.
الحركة الخامسة: سيناريوهات نضالية متنوعة
أدرك الرفيق محمود أن ذكاء جوجو الشديد جعلها تتجنب لغة التهديد المباشرة، فأجرت هذه التكويعة على سيرة رفيقه عضو الفرع الوسخ نوفل، بقصد أن تقول له إن تعيين رمضون بصفة مدير للدائرة الشؤون الإدارية بالنسبة إليها مصيري، فإن لم يعينه فإن طلاقها منه وذهابها إلى حضن نوفل أمر متوقع بنسبة كبيرة، وهو لا يستطيع أن يواجهها بهذه الخلاصة، فوقتها تستطيع أن تزعم أنها روت له حكايتها مع نوفل لأجل التسلية.
فكر محمود – وهو الذي يمكن أن يجن فيما لو تركته جوجو – بعدد كبير من السيناريوهات التي يمكن أن تخرجه من هذه الأزمة واقفًا على قدميه، وتمكّنه من إيصال الفتى الهضيلة “رمضون” إلى رئاسة دائرة الشؤون الإدارية.
خطر له، مثلًا، أن يشتري لرمضون شهادة ليسانس في الاقتصاد والتجارة من إحدى دول الاتحاد السوفييتي المنفرط، ويعينه مديرًا بموجبها. اتصل بالرفيق غسان الذي ساعد أكتر من رفيق بعثي على شراء شهادة دكتوراه، وطلب منه أن يزوره في المكتب آخر الدوام.
عندما حضر غسان، مساءً، طلب محمود من عامل البوفيه “أبو باسم” أن ينصرف، وأغلق الباب من الداخل، وجلس مقابل غسان، وأعلمه أنه يريد شهادة لرمضون، دون أن يعلم أحدٌ بذلك، ومهما تكن كلفتها مع العمولات.. هو مستعد يدفع.
غسان اعتذر له بلباقة وقال:
– أنت بتؤمر يا رفيق محمود، طبعًا الحديث بيناتنا وما راح يطلع لبره. لكن بحب أخبرك إني هاي الدول ما بتبيع شهادات جامعية، السبب إنه الحكومة السورية ما بتقبل بشهادة جامعية جاية من بره دون تعديل، وحتى يصير التعديل لازم يخضع حامل الشهادة لفحص، وإذا فحصوه راح ينكشف الأمر لأنه مستواه العلمي أقل من مستوى الشهادة بكتير، يعني في المحصلة ما راح يستفيد من الشهادة اللي اشتراها شي، بينما شهادات الدكتوراه اللي عم يشتريها بعض الرفاق عم تاخد صفة “الفخرية”، يعني واحد بيكون مستلم عدد من المناصب، وبإيده سلطة، وتحت إيده عسكر وموظفين وحواشي، ومن كتر البطر بيشتري شهادة دكتوراه منشان المَنْظَرة والأمبلاج.
في البيت، وهو يشرب كأسًا من الويسكي مع جوجو، أخبرها كل شيء عن موضوع شراء الشهادة. وقال:
– عم فكر بسيناريو تاني.
ضربت كأسها بكأسه وقال: سَمّعني.
قال: رمضون معلم ابتدائي، يعني موظف على ملاك مديرية التربية، بإمكانه يروح بكرة الصبح ويقدم طلب نقل لإدارة الشؤون الإدارية، وأنا بطلب من معاون المدير اللي كلفناه بتسيير الأعمال مؤقتًا إنه يقبل طلب النقل. بعد النقل بشهر أو شهرين، أنا بحكي مع الرفيق أمين الفرع، وبطلب منه يصرف معاون المدير الحالي، ويعين رمضون مكانه، وهيك بيصير رمضون معاون المدير، ومكلف حكمًا بتسيير شؤون المديرية إلى حين تعيين مدير بشكل رسمي، وبما أن التعيين بيطلع من مكتبي، أنا بأخّر عملية تعيين مدير جديد زمن طويل، وهيك أخوكي رمضون بيصير كأنه مدير.
الرفيقة جوجو لم تقبل. قالت إن أخاها رمضون غير مستعد لأن يطلع بين الناس بصفة معاون مدير! والسيارة التي تخصص لمعاون المدير هي سيارة خدمة، يعني أن المصلحة تحتاجها في بعض الأحيان لبعض الأعمال، وهي أقل فخامة من السيارة اللي يستلمها المدير.
اقتربت منه، ملأت فمها برشفة ويسكي، وصارت تقبله وتنقل الويسكي من فمها إلى فمه. وقالت:
– أنا سكرت. خلينا نأجل موضوع رمضون لوقت تاني. على كل حال موضوعه عندك، مو عندي.
ومشت أمامه نحو غرفة النوم.
الحركة السادسة: احترق الجميع وصمد الرفيق رمضون
كان السيناريو الثالث الذي توصل إليه محمود بارعًا للغاية، ويثبت بالدليل القاطع أن رجلًا كمحمود، دبكَ في ذكرى الحركة التصحيحية حتى تعرقت خصيتاه، وانفتق بنطالُه أثناء الدبكة عددًا من المرات، مستحيل أن يرمي سلاحه، ويعلن عجزه عن إيجاد حل يرضي حبيبة قلبه الرفيقة جوجو.
في اليوم التالي بدأ بالتطبيق.
محمود رشح السيد أيمن النادر الذي يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية، وسمعة نظيفة جدًا، لتعيينه بصفة مدير لدائرة الخدمات الإدارية. نزل الخبر على أهالي إدلب نزول الصاعقة. صاروا يتساءلون عما جرى لحزب البعث والمسؤولين الكبار ورؤساء الأجهزة الأمنية حتى يقبلوا برجل كفؤ ونزيه ومحترم مثل أيمن. وعندما عرفوا أن الرفيق محمود هو الذي اقترحه ارتفعت أسهم محمود لديهم. يا ترى هل نحن مقبلون على مرحلة جديدة في هذه البلاد شعارها الكفاءات والصدق والنزاهة؟
في اليوم التالي أعلمه أمين فرع الحزب أن الرفيق “سالم العوزيل” اتصل به وأعلمه أنه يريد ترشيح نفسه للوظيفة ذاتها. وقال إنه الشروط بتنطبق عليه، لأنه متخرج من كلية الحقوق بحلب.
قال محمود: عفوًا رفيق، المفروض إنه الترشيح يطلع من مكتبي. ولا تنسى إنه هادا سالم العوزيل سمعته في البلد زفت.
قال أمين الفرع: مو بس سمعته زفت، هوي نفسه زفت. واحد وَخَم. بس إنت بتعرف مين وراه؟ تعال لعندي ع المكتب لأفرجيك أسماء الشخصيات اللي اتصلوا فيني وطلبوا مني أتوصى فيه.
ضحك محمود في عبه، وقال لنفسه:
– الشغلة أجت على رجليها. أنا هادا اللي بدي إياه.
وقال لأمين الفرع: أنا موافق. راح إقبل ترشيحه، وبدي إعتبره (الخيار رقم 2) بعد أيمن النادر. على كل حال رفيق اليوم أربعاء. أنا بدي آخد إجازة يومين بكرة الأربعاء والخميس مع عطلة الجمعة والسبت. إن شاء الله الأحد الصبح بكون ورا مكتبي.
الحقيقة أن محمود طلب هذه المهلة ليترك القضية تتفاعل وتأخذ مداها في الأخذ والرد بين المعنيين. وفي أول اجتماع لفرع الحزب، يوم الأحد، قال: بعد الديباجة التقليدية أيها الرفاق أيها المناضلون يا أحفاد خالد وعقبة وموسى:
– بالنسبة لموضوع تعيين مدير لدائرة الشؤون الإدارية، فيني قول مع الشاعر العربي الكبير المتنبي ما كل ما يتمنى المرء يدركه، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. الحقيقة أنا اجتهدت كتير إني نسلم هالدائرة للأستاذ أيمن النادر، لأنه، ما شاء الله، شهادة كبيرة، وخبرة، إضافة للأخلاق العالية، والرجال متلما بيقولوا عايش بحاله بذاته، لكن فجأة طلع لنا سالم العوزيل، وبلش يشوه في سمعة أيمن، ما ترك صفة سلبية ما لزقها فيه، عمله غامض، ومنغلق، ومتدين، وكتب لرفاقنا في الأمن إنه كان بزمانه يروح ع الجامع ويحضر جلسات صوفية، ووهابي، وما بقي غير يساويه من جماعة ابن لادن.. لحتى حرقه حرق، وأنا بصراحة، مع أني متأكد من استقامة أيمن، ما عاد بإمكاني آخده على عاتقي. منجي بقى هلق لسالم العوزيل نفسه، اللي قاعد عم ينطنط من محل لمحل وبيشتغل بالعباد، وعم يذيع بين الناس إنه الشروط بتنطبق عليه، لأنه رفيق بعثي، وجامعي.. رفيق بعثي نعم، لكن الحقيقة إنه سمعته زفت، ووالله إذا منعينه لحتى تنفتح علينا أبواب جهنم في البلد. بعدين في شغلة بتصور كلياتكم ما بتعرفوها. سالم العوزيل ترك الجامعة وهوي في الصف الثاني. وهاي إضبارته الله قدم لنا إياها مع طلب التعيين. تفضلوا. مو المفروض يرفق فيها صورة عن الشهادة الجامعية؟ وينها الشهادة. ويكون في علمكم إني استدعيته وعطيته مهلة حتى يجيب صورة عن الشهادة ويرفقها مع الطلب. وراح وما رجع.
أمين الفرع والأعضاء صدقوا كلام الرفيق محمود، وسألوه:
– طيب أشو الحل برأيك؟
قال محمود: الأفضل حاليًا، برأيي، إنه نجيب شخص لا هو من العير ولا من النفير، يعني لا بيعض ولا بيخرمش، ونعينه مدير للدائرة بشكل مؤقت، ويمكن نتغاضى عن شرط الشهادة حتى نطلع من المشكلة. وهادا الشخص هوي الرفيق رمضون.
وأضاف: صحيح شهادة رمضون مو مناسبة، بس الرجل نضيف ومرتب، وملتزم معنا بالحزب، وسمعته متل المسك.
وبالفعل عينوه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مخطوطة كتاب “أساطير بعثية”- تحت الطبع.