حسام الدين محمد: أوديب السوري

0

مجلة أوراق- العدد9

افتتاحية العدد

هناك لوحة تشكيلية شهيرة تصوّر لقاء أسطوريا بين أوديب وأبو الهول بشكل يحفظ تلك المواجهة المميتة بين إنسان محكوم بقدر تراجيدي وكائن غامض يحمل قرار موته أو حياته على شكل لغز.

كان على أوديب أن يجيب بشكل صحيح على تلك المسألة وإلا فإنه سيموت، وسيموت معه كل سكان مدينة طيبة.

من المفيد حقا، في هذا السياق، أن نذكر أن طيبة كانت مدينة قدموس، البطل اليوناني الذي كان قبل ذلك أميرا فينيقيا من الساحل أبوه هو ملك مدينة صور، على ساحل “سوريا الكبرى”.

يثير التفكّر أيضاً أن نذكر أنه كان أخو الأميرة أوروبا التي سميت القارة الأوروبية باسمها.

من العدل أن نقترح، آخذين في الاعتبار هذا المزيج من الخلفيات الميثولوجية والتاريخية، أن أوديب كان حفيدا لمهاجرين سوريين، وإن كان ذلك في سياق تاريخي مختلف عن السياق الذي يحيط بالسوريين الذين يهربون من وطنهم إلى اليونان حاليا.

بالنسبة لسوري، مثلي، فإن طريق العبور إلى بلدي كان، وظل دائما، مليئا بالألغاز المميتة والكلمات الخطرة.

ولعلّ أخطر هذه الكلمات، للأسف، هو اسم سوريا نفسه.

في سياق تبادلنا للأسماء والأبطال، كان اليونانيون أول من استخدم كلمة سوريا Suria بشكل يمكن تبديله مع مصطلح أشوريا Assuria باتجاهين.

قام الرومان بعد ذلك باعتماد المصطلح الصحيح (أو الخاطئ؟) للتفريق بين المصطلحين وأصبحت سوريا بالنسبة لهم ما كان العرب (الذين حرروا المنطقة من الرومان) يسمونه بلاد الشام وهي المنطقة بين آسيا الصغرى ومصر. يحمل المصطلحان، إضافة إلى أشياء أخرى كثيرة، سياقان تاريخيان وجغرافيان ودينيان.

هذان الاسمان/ المصطلحان سيكونان جرحا واسعا داخل المنظومة الواحدة التي أنتجت قدموس، أوروبا وأوديب باعتبارها عالما متوسطيا واحدا ساعد في توسيع الطريق للحضارة البشرية.

أعطيت البلاد اسم سوريا مجددا خلال المرحلة الكولونيالية في القرن التاسع عشر وبعد أن كان الاسمان، القديم والجديد، مفتوحين على تأويلات تاريخية متواجهة فإن الاسم الجديد تم تبنيه بالتدريج من قبل السوريين وخصوصاً من قبل الأيديولوجيات القومية التي حاولت، بدورها، حل لغز ما هي سوريا ومن هم السوريون.

ليس مفاجئا أن نعلم أن واحدا من الأحزاب القومية التي تأسست في جبل لبنان سمت نفسها “الحزب القومي السوري”، وقام هذا الحزب، كما هو معلوم، بمحاولة انقلاب عسكري في ليلة انقلاب العام 1961 إلى 1962. تم سحق الانقلاب وتم شنق زعيمه، أنطون سعادة، وهو من طائفة الروم الأرثوذكس (المذهب الإغريقي للمسيحية)، لكن الحزب ما زال مستمرا حتى اليوم.

كانت سوريا تحت حكم العثمانيين لقرون، ولذلك كان المهاجرون الأوائل إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية، يسمون أتراكا، وكما المهاجرون الفينيقيون الأوائل من أسلافهم، فإن المهاجرين الجدد نجحوا في الوصول إلى أعلى الهرم الاقتصادي والسياسي في الكثير من تلك البلدان. هذه الواقعة كانت سببا في تاريخ العالم القديم لتأسيس قرطاجة على الساحل التونسي، والذين خاضوا معارك كبيرة مع الإمبراطورية الرومانية.

بعد وقوعها في يد الفرنسيين والبريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى وبعد سنوات قليلة من الحرب العالمية توقفت سوريا الطبيعية عن الوجود.

صار لهذه البلاد العتيقة سؤال مميت مؤلف من اسمين: سايكس وبيكو (والحقيقة أنه كان يضم ثالثا هو وزير خارجية روسيا سيرغي سازونوف لكن الثورة الروسية غيّرت تلك المعادلة)، وهما مسؤولان فرنسي وإنكليزي وقعا اتفاقية آسيا الصغرى عام 1916، والتي تم إعلانها للعموم عبر صحيفتي “إزفستيا” و”برافدا” السوفيتيتيين، ثم في “الغارديان” بعد ثلاثة أيام.

أبو الهول الكولونيالي، فاز في المسابقة، وهزم أوديب السوري. وسوريا، أصبحت، مثل لغز أبو الهول القديم، كائنا يمشي على أربع: الجمهورية السورية، لبنان، المملكة الأردنية الهاشمية، و… دولة فلسطين تحت الانتداب الإنكليزي التي خرجت من الوجود مع “النكبة” التي أنتجت دولة إسرائيل عام 1948، وأنتجت أيضاً انحناء جديدا في المعضلة السورية.

هذه المسائل داخل مسائل بذرت بذور سيناريو القيامة الذي نشهده في المنطقة الآن.

أصبح خلق هذه الدول سببا لعدد من الحروب الأهلية وحروب الخارج/الداخل، وسببا في التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، مع مخارج تراجيدية هائلة في الإقليم نفسه وفي العالم أجمع.

*

في سوريا الخارجة من بوتقة الحداد حديثا، قسم الفرنسيون ذلك البلد الجديد إلى خمس دول على أسس إثنية وطائفية، وهكذا حصلنا مجددا على مخلوق بخمسة أرجل. نجح السوريون في إعادة توحيد البلاد لكنهم كانوا مجروحين من انفصال سوريا والأردن، وكذلك بالنكبة الفلسطينية المروعة.

هذا الانفصال جعل أغلب السوريين، متعاطفين بقوة مع الدعاية القومية والانقلابات العسكرية التي استمرت بالتوالد منذ 1946، عام الاستقلال، حتى عام 1963 حين قامت مجموعة عسكرية بانقلاب جديد تحت شعارات الاشتراكية وتوحيد الأمة العربية، لكنها، في الحقيقة، كانت مقدمة لحكم طغياني لشخص وعائلة سمّت سوريا باسمها (سوريا الأسد).

*

1- تساهم استعارة أوديب مطبقة على الوضع السوري في عدد من الاستنتاجات تبدو واضحة لكن استعادتها مهمة:

2- الإنسانية هي شجرتنا المشتركة التي جئنا كلنا منها لكن الجميع يفضل الاختباء خلف الاختلافات.

3- تحولت المعضلة السورية إلى معضلة عالمية. صار السوريون أنفسهم مجازا للجنس البشري. جميعنا، في الحقيقة، نعبر حدودا واقعية، أو خيالية، مخيفة، وكلنا، بشكل أو آخر، في قوارب نحاول الوصول إلى مكان ما، والكثير منا سيموتون قبل أن ينهوا الرحلة.

4- يفترض أن الحضارة كانت مفتوحة الأبواب والحدود، وأحضر المهاجرون الأوائل، معهم، الأبجدية، التجارة وأشكالا من المعرفة؛ لقد عوملوا كأبطال وصاروا ملوكا لشعوب أخرى، وقارة بأكملها سميت باسم واحدة من أولئك المهاجرين.

5- موجة كبيرة من المهاجرين الذين فرضوا سيطرتهم بالقوة، تحت اسم الكولونيالية، وضعوا بذور مرحلة جديدة من الحضارة ولكنهم وضعوا أيضاً بذورا للنزاعات السياسية، واليأس والتدمير.

6- يواجه العالم حاليا معضلة كبيرة. بعضنا يجيب عليها بأن يصبحوا كارهين للأجانب والمهاجرين وعنصريين، وبعضنا يبني أسوارا عالية لمنع الآخرين من المجيء، والبعض يقوم حتى بتدمير إمكانية الحياة ليس للمهاجرين فحسب بل للجنس البشري أيضا.

7- مجددا، إما أن نجيب على اللغز بشكل صحيح، أو أن الأرض نفسها، معرضة للزوال.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here