مجلة أوراق- العدد9
ملف منفى الحسرات و المسرات
لماذا نكتب! ولماذا علينا أن نشرح أنفسنا ونتكلم عن هذه التراجيديا التي لا تعرف لها نهاية؟ ما الفائدة؟ هل لنزيد فهم العالم لقضيتنا! وعلى افتراض أن العالم لا يفهم ما يحصل في سوريا؛ وهو يعرف ويفهم، ما الفائدة إذا فهم أكثر، وما الذي فعله أو يفعله الفهم لتغيير طريق المأساة السورية العابرة للقارات والمؤبدة في زمن السوريين منذ 7 سنوات عُجاف! هل غير فهم الحدث التاريخي التاريخ يوماً لكي يغيره اليوم! إذا كان البشر لم يتعلموا من تجاربهم سوى التكرار، فما هي فائدة الكلام والفهم والتوضيح سوى العرض المأساوي للمأساة؟ أليس الكلام عن سوريا كمنفى، وعن السوريين المنفيين في شتى بقاع وبحار وجزر وصحاري الأرض هو نوع من استجداء العواطف المقيت، والمخالف لكل أنواع الكرامة التي حملت ثورة السوريين مثلما حملت نعوشهم! أم أن وظيفتنا هي التأريخ لمأساتنا كمن يبادل الموت بالوعد!
أليس المفروض أن نتوقف عن الصراخ ونتألم بصمت، ونموت بصمت، طالما أن من نصرخ في وجهه يستمتع بصراخنا في عالم أصمّ، وطالما أن صدى صوت الألم السوري بات يغيب في ظلمة الفراغ اللانهائي لطول المأساة، وكثرة تفاصيلها، وخفوت وهجها، وفقدان الأمل منها.
لكن ومن جهة أخرى، أليس صمتنا هو الجائزة التي ينتظرها النظام منذ 7 سنوات؟ ألم يكن هدف النظام الأول مذ خرج السوريون في وجهه هو إعادتهم إلى الحظيرة الصامتة “الآمنة” التي ورثها عن أبيه. لنتذكر أنه بعد سحق الإسلاميين في الثمانينيات، وسحق اليساريين بجريرتهم، وسحق المجتمع كاملاً بجريرة الإثنين معاً، لم تتحول سوريا إلى أكبر معمل للمخابرات في المنطقة فحسب، بل أصبح المجتمع الصامت مجتمعاً مرعوباً من نفسه، قبل رعبه من السلطة التي يتنفسها في الهواء الآسن للخوف المقيم، وأصبح المواطن الآمن يذهب للبيعة للقائد الخالد كما يذهب القطيع للجزّ أمام مقصلة النعم، وبات فوز القائد الرمز في “الانتخابات” يفوق فوز الرسول في البيعة، بحيث لم يجد حرجاً في أن يعلنه 100% في عام 1985 ثم 99.99 في عام 1991، وذلك بعد انتصار الأب المطلق على المجتمع “الإرهابي”؛ مثلما يحاول أن يفعل اليوم، وبعد انتصاره على العالم؛ مثلما يجري اليوم، عبر تأدية بعض الخدمات الإرهابية هنا وهناك، والمراهنة؛ مثل اليوم، على أمن إسرائيل وحاجاتها الحيوية والحياتية إليه. لنتذكر أيضاً أن الدور الذي أدته العربية السعودية والأردن وعراق صدام في دعم الإسلاميين ثم في خذلان السوريين في الثمانينيات، هو ذاته الدور الذي قاموا به اليوم مع تبديل صدام بإردوغان والعراق بتركيا.
لم يخرج سورياً واحداً منتمياً للثورة لكي يَقتُل أو يُقتَل، خرج الناس رغبة بالاعتراف بهم وبكرامتهم وبحياتهم وحريتهم، بعد أن كانوا مُعنفين ومُغيبين وغير مرئيين من نظام لا كرامة له، ولا كرامة عنده للبشر، ولا اعتراف منه في أحد سواه، ولا حرية فيه إلا لنفسه، تلك الحرية التي لم تعن سوى حريته بقتلهم واعتقالهم كما يشاء وبالطريقة التي يشاء.
لكن اليوم، بعد أن قُتل السوريون وعُذبوا وغُيبوا بوحشية أكبر من السابق، لا ينطرح السؤال عن معنى الكتابة وحدها، بل عن معنى الفعل، جميع أنواع الفعل، العسكري والسياسي والفني والأدبي والإعلامي والافتراضي والواقعي _داخل سوريا أو وخارجها_ ضد نظام الأسد، هل هناك أي معنى للفعل طالما أنه لا يجلب للسوريين إلا المزيد من القتلى والمعتقلين والمهجرين؟ وفي السؤال عن معنى الفعل تنطرح أكبر معضلة أخلاقية واجهت الثائرين على النظام منذ المظاهرات الأولى حتى اليوم، فقد كان السؤال وما يزال، هل علينا أن نمضي قدماً رغم معرفتنا منذ الخطاب الأول لبشار الأسد أمام مجلس الشعب أنه اختار المعركة، اختار القتل، وبأنه لن يتنازل إلا مقتولاً، تخيلوا… رئيساً مُنتخباً _على رأي الشاعر_ يخاطب شعبه (إذا أردتم المعركة فأهلاً وسهلاً)، أنا أو المعركة، أنا أو لا أحد، أنا أو أحرق البلد! بالفعل لم تكن تلك الشعارات التي خطَّها جنوده في كل مكان في سوريا سوى تتمة طبيعية… ترجمة لخطابه.
نعود للسؤال المعضلة، هل نتراجع أم نمضي قدماً! وهل بإمكاننا التراجع أصلاً دون فقدان الكرامة مثلما فعل العديد من العائدين لحضن الوطن! وإن تراجعنا كأفراد، هل سندفع الآخرين للتراجع مثلنا مع معرفتنا بأن التراجع لا يعني سوى الذل، والعودة لحياة أكثر ذلاً من الحياة التي خرجنا لنجعلها قابلة للحياة! هل سنقف على الحياد في مقتلة يذهب ضحيتها شعبنا ذاته، هل يمكنك فعلاً أن تقف على الحياد أمام مقتل طفل في الصين وليس في بلادك! ألن تميل نفسك ببساطة لتدين القاتل، ألن تشعر ببساطة أن القاتل مجرم! حياد السوري اليوم لا يعني سوى أحد أمرين: إما صمت المرعوب المُغطى بالحياد (وهذا يذكرنا بسوريا السابقة، حيث كان يمكنك أن تشعر بمدى حيادية المجتمع المرعوب تجاه الدولة وسلطتها، فهو لا يتدخل بقرارات دولته المتعلقة بأشياء تخصه، وكأنها قرارات دولة أخرى عن حياة أحد غيره، هو صامت وحيادي)، والمعنى الآخر هو الحيادي المُقنّع، المشارك بشكل أو بآخر للسلطة بامتيازاتها وقتلها للبشر.
لكن بالمقابل، أليس المضي قدماً هو انتحار وجنون، وهل ندافع عن الجنون عندما يكون ثمنه موت الآخرين، أليس هذا “توريطاً” للناس بموتهم شبه المحتم! ثم هل يحق الكلام لمن هو خارج المعركة، خارج سوريا، لماذا لا ننزل للقتال بدل البسطاء الذين يتلقون القصف والقتل ليل نهار، بدل التأمل والكتابة والعمل السياسي والنشاط المدني والانساني الخ! لكن هل الثورة عملاً مسلحاً فحسب، وهل نوافق أصلاً على العمل المسلح لكي نشارك به، ثم ماذا فعل العمل المسلح حتى اليوم، ألم نعرف منذ البداية أن نسبة النجاح لأي ثورة مسلحة لا يتعدى الـ 3 بالمئة، ألم يكن السلاح هو إحدى أكبر إشكاليات الثورة المُختَلف عليها بين السوريين؟ ثم عمّن ندافع ومن يمثل صوتنا على الأصعدة السياسية والعسكرية، إذا كانت الساحة السورية قد أصبحت ميداناً لآلاف الأعداء، وأعداء الثورة من ممثليها ليسوا أقل من أعدائها المحاربين ضدها. عمّن ندافع، إذا كان الممثل العسكري المفاوض باسم الثورة قادم من جيش الإسلام، خاطف رزان زيتونة ورفاقها، أبناء الثورة الأكثر نبلاً وأصحاب أهم مركز لتوثيق الانتهاكات أنتجته الثورة، وإذا كان التنظيم الوحيد المنظم سياسياً في المعارضة هم الإخوان المسلمون، أكبر تنظيم انتهازي بتاريخ المنطقة، وأهم تنظيم مساهم بإفشال الربيع العربي من أوله لآخره.
في البداية كان الأمل ببناء سورية ديمقراطية وصالحة للحياة كبيراً، بينما يبدو السوريون اليوم كمن فقدوا هذا الأمل، مثلما فقدوا الخيارات، وتبدو مجمل خيارات الناس اجبارية، من رحل رحل مكرهاً، ومن بقي بقي مكرهاً، ومن يقاتل يقاتل حقده، خساراته، أكثر من كونه يقاتل ضمن أمل واضح واستراتيجية مفهومة. الجميع يعرف أنه لا شيء يعوض خساراته، الجميع ينتظر نهاية ما لكابوس واقعي ولا يُصدَّق في آن معاً.
من باب العدل؛ الذي لن يجد له طريقاً لهذا العالم، ربما كان حريٌّ بالعالم أن يشعر بالذنب تجاه السوريين ويعاملهم “كنبلاء حرب” بدل الهرولة نحو مجرم الحرب الذي شرّدهم، وبدل تحميلهم ذنب مجمل مشاكله دفعة واحدة، بحيث لم يبقى عنصري على سطح هذا الكوكب المريض إلا ووضع مشاكل بلاده فوق ظهر السوريين وبسببهم، وكأن وجودنا ذاته بات جريمة وعلينا أن ندفع كفارته بالموت، مع أنه، ومن باب العدالة أيضاً، كان حري بالعالم أن يحاكم نفسه ويغسل عاره بعد أن سقط في اختبار الكرامة الإنسانية الذي وضعه السوريين به، أمام نفسه، وأمام قيمه التي كانت تنهار واحدة تلو أخرى مع كل ضحية جديدة تسقط في المقتلة الجماعية السورية، تلك المقتلة التي حدثت مكشوفة جداً “كقصة موت معلن”.
لا تبدو واضحة، ولا سهلة، كيفية التمييز بين سوريي الداخل والخارج عندما يكون الحديث عن المنفى، فقد يُعرَّف المنفى على أنه ابتعاداً جغرافياً قسرياً عن الوطن لأسباب سياسية، وربما كان من شروط المنفى، لكي يكون منفى، انعدام القدرة على العودة لأرض الوطن طالما أن النافي على قيد الوجود، في الحكم أو في الحياة نفسها. لكن هل المنفى السوري منفىً جغرافياً فحسب، وهل بقي أصلاً معنى لسوريا نفسها لكي يكون المنفى هو مجرد خروج منها، هل يستطيع المهجر من داريا إلى إدلب العودة لأرضه، وهل يمكننا أن نسمي أهالي إدلب نفسهم الذين يعيشون تحت حكم جبهة النصرة، على أنهم يعيشون في إدلبهم التي اختاروها وخرجوا لأجلها، إذا كان علم الثورة يُداس في إدلب، كما تداس كرامة الناس في أرض النظام بعنزة لشهدائهم، أو بساعة يعلقون عليها زمنهم الأسود.
خرج السوريون ضد عدو واحد، فبات لديهم ألف عدو، أعداء من الخارج وأعداء في الداخل، ميلشيات غريبة تحتل أرضهم وتقتلهم، وميليشيات صديقة تحتلهم ولا تمثلهم، تقبض على مجندين في ميليشيا الأسد، لتجد جلهم؛ إن لم يكونوا كلهم، هاربين من الجندية مقبوض عليهم على الحواجز، ومرسلين إلى أرض المعركة، حيث تَقتُل لكي لا تُقتل. وكأننا نعيش في دوائر حلزونية لا تؤدي سوى إلى الجحيم.
كمن يحمل صخرة سيزيف، يحمل السوريون فشل ثورتهم فوق أكتافهم أينما حلّوا، وأينما كانوا، فلم يُنفى السوريين عن بلادهم وحدها، ولم يُنفَو داخل بلادهم فحسب، بل باتوا منفيين عن بعضهم في منافٍ لا تكف عن الضيق والانقسام، معارضة تنفي معارضة، وثقافة تنفي ثقافة، ونظاماً ينفي الجميع ليبقى. ضحايا يمارسون العنف والإجرام والحقد على ضحايا مثلهم، ومنفيون يمارسون النفي على منفيون مثلهم، بحرٌ معقد من المنافي الغارقة في ظلماتها وتوحدها، ولا شطآن بادية في الأفق، لكن لا عودة، ولا طريق أمام السوريين إلا الأمام، فقد مر زمن بعيد على تلك الفكرة القائلة بأن الفشل يعني اليأس… على العكس، على كثر ما يأس السوريين، لم يعد يعنيهم اليأس، إلا كمرتكز تحت أقدامهم للوقوف، للمحاولة، لبداية جديد، من جديد.