مجلة أوراق- العدد9
ملف منفى الحسرات و المسرات
… وربما أكثر من ذلك. إذًا، لا تسألني؛ لماذا؟!
لم تعدْ الرغبةُ في الكتابة لكَ، بحاجة لأسباب طارئةٍ أو ظروفٍ عارضة. كونها صارت في حكم العادة. لكن، هذه المرّة بالذات، لا تنتظر منّي أن أبعث لكَ هذه الرسالة عبر البريد الالكتروني أو الفيسبوك أو البريد العادي، لأنني سأضعها في قنينة زجاجيّة، مُحكمة الإغلاق، وألقي بها في عرض بحر الشمال، قبالة ساحل “أوستند” التي أقيم فيها منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات. وأنا واثق بأنه سيلتقطها أحدهم، يومًا ما. ربما يكون صيّادَ سمك، أو سائحًا يجوب بزورقه البحر، أو مغامرًا يصارع الأمواج؟ وربما تقودُها الأمواج إلى مكانٍ ما، أو تعيدها من حيث أتت، كي يلتقطها أحدهم، ويظنّها، للوهلة الأولى، آتية من زمنٍ غابر، سقطت من سفن القراصنة، أو من أساطيل نابليون التي مرّت من هنا؟ أو من إحدى سفن الجيوش المتصارعة في الحربين العالميتين الأولى أو الثانية؟ ربما يظنّها ملتقطها خارطةَ كنز، أو نداء استغاثة، أو رسالة عشق، خطّها عاشق مجهول لحبيبته. وحين يقرأها، مذيّلةً بوصيّة مفادها البحث عنك، وإيصالها لك على عنوانك، أو لورثتك، وقتئذ، سيعرف أن الأمر، خلافُ كل هذه الافتراضات. ولحين حدوث ذلك، تكون السنون مضت بنا إلى العالم الآخر، ولم يبقَ منّا إلاّ هذه الرسالة، تذكّرُ قارئها بنا.
إذًا، لا تقلق. ولا تخش شيئا. أنا واثق من أن هذه الأسطر، ستصلك، ولو بعد حين. ولكن، لا تسألني لماذا؟! وكيف؟!
***
ثمّة خرافة استسلمنا لها، وردّدناها، ما جعلها تترسّخ في وعينا ولاوعينا، اسمها القدر. حياتنا بكل ما شهدته وستشهده، هي سلسلة لا متناهية من المصادفات. وإذا افترضنا وجودَ شيء اسمه القدر، فهو، بكل تأكيد، فيض هذه المصادفات وتداخلها وتعاقدها، واستدرارها بعضها لبعض، أثناء رسمها حياتنا بمجرياتها وتحوّلاتها من نجاحات، إخفاقات، انكسارات وخيبات. لم يكن بمقدوري اختيار أن أولدَ كرديًّا، مسلما، فقيرا، يتيمًا، مجرّدا من الجنسيّة والحقوق المدنيّة، لجرمٍ وحيد، لم ارتكبهُ، هو أنني من أب وأم كرديين، وفي بلدة صغيرة تشطرها الحدود التركيّة – السوريّة إلى شطرين. مغادرتي مدينتي الصغيرة واتجاهي للعيش في دمشق، كان صدفة. تعرّفي على الكثير من الناس، وتحوّلهم إلى أصدقاء، كان صدفة. سقوطي في حبائل السياسة، وانجذابي للشعارات اليساريّة والقوميّة الكبرى، كان صدفة. نجاتي من اعتقال المخابرات السورية التي داهمت منزلي، أيضا كان صدفة. تعرّفي على حبيبتي والزواج منها، كان صدفة. وهكذا، تتالت وتعاقبت الصدف، وتناوبت على التمهيد لمجريات حياتي، والتحكّم بها، لحين وصولي إلى بلجيكا، بمحض الصدفة. أمّا قرار الاستقرار والإقامة في “أوستند”، فكان عن سابق إصرار وتصميم، لا علاقة للصدفة به. لأنني أكره الضجيج والضوضاء العارمة التي تمتاز بها المدن الكبيرة المغلقة كبروكسل.
واجهتُ البحر، أوّل مرّة، في مدينة طرطوس السوريّة، طفلاً في الحادية عشرة من عمرهِ. راعني هذا الكائن الرهيب، الدائم التأرجح، مصدرًا هديرا، يقترب ويبتعد، مُدخلًا إلى نفسي الدهشة والذعر. سألت نفسي:
– ما هذا السيل العارم الذي يقترب مهددًا، ثم يبتعد متقهقرا؟ ما هي عدد السنوات التي أمطرت بأكملها، دون انقطاع، حتّى تشكّل هذا الطوفان الذي يراوحُ مكانهُ جيئةً وذهابًا؟! بكم مرّة يكبر هذا المستنقع الشاسع الهائل، ذلك المستنقع الذي كان يتشكّل على أطراف بلدتنا، أثناء هطول أمطار الربيع الغزيرة؟!
أثناء عَومنا في ذلك المستنقع، ماؤهُ العكر البارد، كان يزيد من رغبتنا في التبوّل. ورغم أننا نلتمس من بعضنا البعض عدم التبوّل فيه، إلاّ أن أحدًا منّا لم يكن يلتزم بذلك. شخصيًّا، لم أجبرْ نفسي على حبس البول. وحال شعوري بالضغط، أحرّر ذَكَري من الكلسون، مطلقًا العنان له تحت الماء، مع حركات مسرحيّة، تخفي مظاهر التبوّل عنّي. وبعد الانتهاء، أعيده إلى حيث كان، وأخرجُ من المستنقع فورًا، معتبرًا نفسي الوحيد الذي انتهك التحذير، دون أن يُنكشف أمري، شاعرًا بالغبطة لأنني تركت بقيّة الأولاد يعومون في بولي. بينما كل الأطفال يفعلون ما أفعله، دون إخبارِ أحدنا الآخر. كنّا نسبح في بركة طينية ماؤها، خليط من الأمطار العكرة الممزوج ببولنا، ويضيق العالم بالفرح والسرور المتدفّق منّا.
ما أن وطئت قدماي الحافيتان الرمل، ولمست يداي ماء بحر طرطوس، حتّى بدأ الخوف يتراجع تباعًا ويتبدّد. منذ ذلك الحين، يراودني حلم أن يكون لي منزل قريب من البحر.
المرّة الثانية التي واجهني البحر فيها، كان في بيروت، سنة 2001. وتتالت اللقاءات، في اسطنبول، أثينا، لحين إقامتي في “أوستند”.
فائض القمع، الاضطهاد، والفقر الذي عشته في وطني، أشعرني بأنني قضيت سجنًا مؤبّدًا، لِست وثلاثين سنة، ما خلق لديّ رغبةَ الطيرِ في التحليق، فور تنفّسه هواء الحريّة. لديّ رغبة في رؤية كل البلدان، والتجوّل فيها لنهل المزيد من ذاكرتها. الرغبة في ملاحقة المدن، والتعرّف عليها، ربما مردُّها الخوف من الموت، قبل الإحساس بالشبع من رؤيتها. أريد الرحيل إلى العالم الآخر، بذاكرة بصريّة زاخرة عن المدن والأوطان والشعوب والثقافات، كي أقصّ على أسماع الموتى، شغفي ومغامراتي المتواضعة في البحث عن الحريّة والسعادة والمتعة التي افتقدتها طيلة سنواتي الماضية.
يحضرني الآن قول لكَ كرّرته على مسامعي أكثر من مرّة: “المدن كالنساء، إنْ أحببتها، أحبّتك. إذا لاحقتها، تمنّعت. إنْ هادنتها، عاركت. إنْ جافيتها، تناست. وإذا أحبّت، أغدقت، وإذا كرهت، كادت، محقت وأحرقت”.
طباع الأماكن من طباع أهلها، والعكس صحيح. طباع من يسكن الجبال، ليست كطباع من يسكن السهول. وخصال من يسكن المدن الساحليّة، ليست كمن يسكن المدن الداخليّة. المدن بشعوبها. والشعوب بمدنهم، تعكس ثقافة ووعي وذوق وأخلاق سكّانها، لجهة نمط الحياة، والتناسق والهندسة وفنّ العمارة. المدن إن تأدلجت، تخندقت. وإذا تخندقت، خنقت واختنقت. لذا، فهي كالبشر، الحريّةُ أوكسجينُها. إن قلّت الحريّة فيها، ذبلت المدن. وإنْ انعدمت، تموت.
أمّا “أوستند” وبحرها، ونوارسها وغزلانها الشقراوات، فبيني وبينها قصّة حبّ من طرفين، بخلاف حكاياتي مع المدن الأخرى، التي مررت بها.
دفعتني الصدفة للاستقرار في بلجيكا. لكنها الآن، وطني. دعني أقول لك إنني خلُصتُ، في الآونة الأخيرة، إلى نتيجة مفادها أنّ الوطن ليس المكان الذي تولدُ وتعيشُ فيه، دون اختيارك، ويجرّدك من حقوق المواطنة ويسلبك حريّتك وكرامتك، بل الوطن هو الأرض التي تشعرك بإنسانيّتك، وتمنحك الأمان، الحريّة، الكرامة، فرصة العيش الكريم والعمل، التعليم والإبداع. أدركتُ متأخّرًا أن منتهى الخطأ والمازوشيّة الالتزام بمقولة الشاعر العربي الذي يقول: “بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ… وأهلي وإنْ ضنّوا عليَّ كرامُ”. تأكّد لي، أن أسّ الاستبداد والفساد والضلوع في إنتاجهما وتغذيتهما، هو الانقياد وراء هكذا أقوال. لأن الوطن الذي قوامهُ القمع والفقر والاستبداد والفساد، هو سجن. ومن يحكمه، جلاّدون وفاشيون، حتى لو كانوا أهلي وعشيرتي. ورغم ذلك، أتمزّق من الأعماق، في اللحظة ألف مرّة، نتيجة ما يحدث في سورية.
اخترت العيش قبالة بحر الشمال، في “أوستند”، لأن فيها الكثير من خصال المدن التي زرتها. قرأتُ في ملامحها، قلقَ الشاعر، هدوءَ الحكيم، تبرّجَ الحسناء وصخب مفاتنها، وتجهّم العجوز، حرارة جدلَ الفلاسفة، وبرودة نقاشات البليدين والمتطفّلين، طيشَ المراهق، ولباقة واتزان وكياسة ورزانة الاستقراطيين وغرورهم أيضاً. “أوستند” في الليل، تكتب الشِّعر، وفي النهار، تقرأه على أسماع البحر وزوّاره ونوارسه. هي الآن، في هذه اللحظة، تعرفُ بأنني أكتب عنها لك، وتسعى إلى إلهامي، ومساعدتي في ترتيب الأفكار، واستحضار الصور. هذه الآن، وعبر هذه الأسطر، تريد إيصال نفسها إليكَ.
***
حالَ شعوري بالضيق والكدر، ألوذ بالبحر قصدَ التأمّل والبوح. قبل أيّام، تفاقم ضجري، مصحوبًا بحزنٍ وألم شديدين على ابتلاع البحرِ المزيدَ من المهاجرين السوريين الهاربين من أوار الحرب في بلادهم إلى الفضاء الأوروبي. ذهبتُ لمواجهة البحر، كي أفاتحهُ بما يعتصرُ قلبي ويجول خاطري، كجمهرةٍ من السكاكين المسنّنة.
بتثاقلٍ وئيد، تميدُ الشمسُ صوبَ الغروب، كأنّها غصّة حارقة في حلق الأفق. الموجُ في تململهِ، يرتعشُ كلسان كلبٍ خائفٍ ومُنهك. الغيم متناثرٌ في السماء كقطعانٍ مذعورةٍ وحائرةٍ، فرّقتها عواء ألف ذئب جائع. صوتُ النوارس بدا محتقنًا، وأقربَ إلى الزعيق منه إلى المعتاد، مختلطًا بخفوتِ هسهسة الموج، زادَ من شحوبِ المشهد والتباسهِ، تعبيرًا عن الخيبة والخذلان، فصرت أسائلُ نفسي؛ أهو البحرُ شديدُ القلق والضجر، هذا اليوم؟ أم أن غياب عصف الريح يزعجهُ ويفتح قريحته على المزيد من الصمت الجارح؟! أم أنا متلبّد الأفكار والهواجس؟ أمْ ماذا؟!
لا أعرف لماذا قفزت إلى ذاكرتي، فقرات من قصيدةٍ لسان جون بيرس عن البحر: “… الخشوع لشاطئك، أيها الجنون، يا بحر اللذة الأعظم. الحال بائسٌ على الأرض، لكن ملكي هائل على البحار. يحيط بي البحر الشامل. الهاوية الملعونة، نعيمٌ لي، والانغماس فيها إلهي… امتيازي في البحار، هو أن أحلم لكم هذا الحلم عن طريق الواقع. سمّوني الغامض، وكنتُ أسكن البحر”.
تذكّرت أيضًا “سنتياغو” بطل رواية “العجوز والبحر” لهمنغواي، ونهايته الكارثيّة المؤلمة. وقفزت إلى مخيّلتي مشاهد الزورق المطاطي الذي أبحر بنا من إزمير التركيّة إلى جزيرة خيوس اليونانيّة، وكيف صارعنا الموج الذي كاد أن يبتلعنا.
ظلامٌ دبقٌ، شديدَ الحلكةِ والحموضةِ، لم أعرف له مثيلًا في حياتي، ممسكٌ بخناقِ المكان وتلابيبه. ما أن لمحنا إشارةً من المهرّب، حتّى انحدرنا، ككومةِ حجارة، تتدحرج من أعلى التلّ المكسوّ بالأشجار والشجيرات الشائكة، نحو زاويّة ميّتةٍ على شاطئ البحر. ومع بدء مساعديّ المهرّب “القاجاغجي” بنفخ الزورق المطاطي “البُلُم”، أحسستُ وكأنّه ينفخني أيضًا. ولأن الأرض مفروشة بالحجارة المدبّبة، اضطررنا لحمل الزورق نحو عشرين متر أو أكثر، لئلا يصاب أسفله بالخزق أو التمزّق، حتّى وصلت المياه إلى ما فوق ركبنا. بعد ثلاث أو أربع محاولات فاشلة، أدارَ المهرّبُ المحرّكَ، وأمرَ بالقفز إلى الزورق. بخفّةٍ وهلع، قفز الجميعُ إليه، وكنتُ آخرهم. دفع المهرّب وأحد مساعديه الزورق، ولم يبق فيه من جماعته سوى السائق. شابٌ طويل القامة، يحمل في يده موبايلًا، يتحدّث مع الكابتن، المهرّب، كل خمس دقائق.
لا أعرف كيف وصلتُ إلى مقدّمة الزورق المحشو بستة وعشرين شخصًا، عدا السائق، وهو لا يتّسع إلاّ لعشرة أشخاص؟!. كل موجةٍ عاليةٍ تضربه، تضربني في البداية. ما أن أصبحنا في عرض البحر، حتّى تغيّر مزاجه، وبدأت الريح تعربد وتهدد، وتحثّ الموج وتُألّبه علينا، وتستنهض فيه وحشيّةً نائمة. نجونا بأعجوبة، لأنّ الأمواج العاتية كادت أن تقلب زورقنا أكثر من مرّة. رأيت كفني ممدّدًا على الماء، وسط دامسِ الظلام. بصحبتنا امرأتان، الأولى تحمل رضيعًا، لم يتجاوز عمره أربعين يوما، والثانية بثلاثة أطفال. عويل المرأتين، وبكاء الأطفال، كان كافيًا لإيقاظ شعبٍ بأكمله من أسماك القرش. صرت أضحك قائلًا في نفسي: ليس هكذا، ينبغي أن تكون نهايتي. فما زال للحزنِ والألمِ بقية.
زرقة بحر إيجة في صيف 2009، ورماديّة بحر الشمال في صيف 2015، تتقابلان وتتحاوران في مخيّلتي. استبدّت بي مشاعر هوجاء، هي خليط من الافتتان والوله بالبحر، والحنق عليه، الغضبِ منه، التحدّي له، والعتبِ عليه. لكنّي بقيتُ صامتًا، مشدوهًا، كتمثال أجوف من البرونز، تلعقُ وتنخرُ الريحُ داخلهُ بصفيرها الحاد. تمثال يحدّقُ في البحر، بشغفٍ وزجر. بدا لي البحر أيضًا يتأمّلني، ويبادلني نفس المشاعر، كأنَّ كلًّا منّا يغوص في الآخر. لم أعدْ أشعر بالمحيطين أو من يمرّون بي. برقت في ذهني كتابة نصّ، حين لمحتُ نورسًا يشاركني إمعانَ النظر في البحر. ولئلا أنسى فكرة النصّ، فتحت الموبايل وبدأتُ تسجيل صوتي:
النورس الأعمى
رُحماك يا بحر الشمال…
لستُ جنديًّا أطعنُ في الظهر، ولا ملكًا خائنًا على رقعة شطرنج.
لا تحسبني قاربًا محطّمًا على شاطئك.
أنا بقايا مجزرة.
أحملُ في قلبي صليبي وضريحي، وتحت لساني، أواري ذاكرة وطني عن أعين البرابرة.
الحزن كأسي، وآلاميَ النبيذُ.
لا تحسبني ربّانًا خانته سفينتهُ والريّاح.
وطنٌ تواطأت عليهِ جهاتهُ أنا، وقصيدةٌ تبكي، ما زال يكتبها نبيٌّ أعمى، لفراخ السنونو.
حتّى أنت يا بحر الشمال…؟!
أدرتَ ظهركَ لي؟!.
لستُ إسكندرا غازيا، ولا نابليونا.
أنا محضُ صدى…
محضُ هزيمة…
محضُ جثّةٍ هامدة، تبحثُ عن قبر، منذ ثلاثة آلاف سنة.
***
الكارثة ليست هنا، بل في عدم تقدير أنها جرت هناك، ويصل أصداؤها إلى هنا. ومن ذلك، أنني لم أرَ يهوديًّا في حياتي، إلاّ في بلجيكا، ولم أرَ معبدًا يهوديًّا في حياتي، إلاّ في “أوستند”. أثناء المرور من أمام السيناغوغ في ساحة “فيليب فان مايستريخت”، تنتابني رغبة جامحة في التعرّف على ما بداخله. هذه الرغبة، عزَّزت لديّ هاجس أن يكون لي أصدقاء يهود، أتعرّف إليهم، بعيدًا من التقييمات التقليديّة التي وصلتنا عنهم، من خلال مناهج التربية والتعليم في سورية، ومن الأحاديث التي يتداولها العامّة، الخاضعة للتأثيرين الديني والقومي.
توحي واجهة الكنيس اليهودي، وكأنّه مبنى مهجور، ولم تقام فيه صلاة، منذ عقود، شأنه شأن حي اليهود في دمشق. والفارق بين الموقعين، أن النظام السوري، سطا على بيوت اليهود السوريين وممتلكاتهم، بينما المعابد اليهوديّة هنا، جزءٌ من التراث والمواقع الأثريّة البلجيكيّة.
سيناغوغ “أوستند”، أشرف على بنائه مهندس يهودي يدعى يوسف ده لانغه سنة 1910، وافتتح في آب 1911. تعرّض للسلب والنهب أثناء الحرب العالميّة الثانيّة. واجهته، نسخة طبعة الأصل عن كنيس موجود في فرانكفورت. مبنى الكنيس، محشور بين منزلين، ضمن رتل مقوّس من المباني المتلاصقة. يقابله قوس آخر من المنازل المتلاصقة، مشكّلين نصف دائرة، هي ساحة “فيليب فان مايستريخت” الملاصقة من الخلف، لكنيسة القديس يوسف.
كلّما مررتُ به، أقف قبالته متأمّلًا، لدرجة صرت أخشى أن يظنّ الناس بي السوء! أشعر بأن حديد الدرابزين، يريد الإجابة عن تساؤلاتي، إلاّ أن شيئًا ما يعقدُ لسانه، ويمنعه من ذلك!؟ يفيض خاطري بصور تتخيّل فترة البناء، ولحظة الافتتاح. قفزت إلى ذهني أسئلة غريبة: هل يا ترى، كل المشاركين في بناء هذا الكنيس، كانوا يهودًا؟! وهل يمكن لشخص مسيحي أو ملحد المشاركة في بناء معبد لديانة لا يؤمن بها؟ أو هو على نقيض من تعاليمها ومعتقداتها؟
يتناهى إلى مسمعي أصوات التراتيل والصلوات والأدعية التي تقام في داخله. أتخيّل سطو الجنود الألمان عليه، ونهبهم له، أثناء الحرب العالمية الثانية. أشعر بالتعاطف مع هذا المبنى، باعتباره ما زال شاهدًا حيًّا لأكثر من مئة عام، على ما شهدته هذه المدينة. مئة عام من التأمّل في أحوالها وتحوّلاتها. مئة عام من السرد الصامت لذاكرة من مرّوا من هنا، سواء أكانوا غزاة، برابرة، نبلاء، مواطنين عاديين، لاجئين، مهاجرين، لصوصًا، قتلة، عشّاقًا، مؤمنين، ملحدين، مثليين، سكارى، مدمنين، صادقين مخلصين، منافقين، دجّالين وأدعياء…! مئة عام من الإنصات لما يسرده البحر، وما تفشيه النوارس، أثناء تحليقها، من أسرار هذه البيوت، الشوارع، الحجارة، الأشجار، البشر.
ذات يوم، وأنا واقف أمام الكنيس، لاحظت باب المنزل الملاصق له إلى اليسار، ينفتح. خرجت منه سيدة عجوز، في العقد الثامن من عمرها. نحيلة الجسد، مقوّسة الظهر، بعينين زرقاوين غائرتين. خطواتها حذرة وبطيئة، رغم توكئها على عكّاز. بشرتها البيضاء، شديدة التغضّن، توحي وكأنها مومياء تسير على قدمين. اقتربت منّي، وعلى شفتيها الرقيقتين المزمومتين، ابتسامةٌ خفيفة، وقالت بصوتٍ مرتعش:
– أكثر من مرّة رأيتك تقف هنا، أمام هذا المعبد، وتتأمّله. واليوم أيضًا، أثناء جلوسي بجوار النافذة، رأيتك مجددًا. عمَّ تبحث يا بنيّ؟ ملامحك توحي بأنك غريب، ولست من “أوستند”، أليس كذلك؟ إذا كنت تبحث عن منزل للإيجار، فمنزلي معروض للإيجار منذ عشر سنوات.
لم يثر من كلام العجوز استغرابي إلاّ قولها “منزلي معروض للإيجار منذ عشرة سنوات”. فسألتها:
– أي منزل؟ ولماذا بقي كل هذه المدّة دون أن يستأجره أحد؟!
أشارت بعكازها إلى بيتها وقالت:
هذا. ألا ترى الشاخصة، المكتوب عليها “للإيجار – Te huur”، الملصقة بالنافذة؟ لم يستأجره أحد، ليس لأنه يجاور المعبد اليهودي، وليس بسبب الرنين والطنين المزعج الذي تصدره نواقيس كنسية القديس يوسف كل ساعة، بل لأنني أقول لهم الحقيقة. حقيقة المنزل، وأنه مسكون بأرواح ثلاثة أشخاص، هم المهندس يوسف ده لانغه، والمشرف على العمال الذين بنوا الكنيس -والدي أندرياس فان كوبن-، والكاهن شالوم موشيه مزراحي الذي قتله الألمان حين حاول منعهم من دخول الكنيس. أرواح هؤلاء الثلاثة، تعيش معي. وستعيش مع أيّ ساكن جديد لهذا البيت.

كل مساء نجتمع، نحن الأربعة، حول الموقد. نشرب النبيذ، ويبدأ كل منّا بالحديث عن نفسه وذكرياته. ذكر ده لانغه أنه هاجر من أمستردام واستقرّ مع عائلته في أنتويربن، ودرس في مدارسها، لحين حصوله على إجازة من أكاديمية الفنون. وأن جدّه كان حاخامًا يرفض قيام دولة يهوديّة في فلسطين، فقتله المتطرّفون اليهود. أثناء الحرب العالمية الأولى، هرب ده لانغه إلى لاهاي. وبعد اندلاع الحرب الثانية، هرب إلى نيويورك. ومات بعد انتهائها بثلاث سنوات.
رغم أنّ والدي لم يكن يهوديًّا، إلاّ أن الصداقة التي جمعته بالمهندس ده لانغه والكاهن مزراحي، كانت عميقة وقويّة وأكثر متانة من صداقته مع أصدقائه الكاثوليك!
– هل تعيشين وحيدة في المنزل؟
– نعم. أخي كان جنديًّا بلجيكيّا، قتل في الحرب الثانية. بينما مات زوجي بالسرطان سنة 1966. ابنتي تعيش مع صديقها الفرنسي، وتنتظر موتي، كي ترث البيت.
– وماذا عن والدتك؟ ماذا جرى لها؟!
– كانت تصغر والدي، بعشر سنوات. وماتت بعده بسنة. ولا أعرف لماذا روحها غائبة عن المنزل؟ ما أذكرهُ أنّها لم تكن تحبُّ الضيوف، وتستقبل أصدقاء والدي على مضض.
– معذرة، لم تقولي شيئًا عن زوجك، فقط أنه مات بالسرطان؟
تأفّفت العجوز، وارتسمت على وجهها علامات الانزعاج، ثم تنهّدت بعمق، وأجابت:
– كان شيطانًا ولم يكن زوجًا. يكبرني بسبع سنوات. مات ميتةً بشعة. روحه الآن، تنال جزاءها في الجحيم. كتلةٌ من الكراهية والعدوانية في التعامل. لا أعرف كيف أصفه لك. كان عميلًا لفرق “إس.إس” النازيّة، وحاول تجنيد الشباب الفلامان في هذه الفرق. وأراد تحويل حصن نابليون، شرق “أوستند” إلى معسكر اعتقال لليهود والمعارضين للاحتلال الألماني. بعد نهاية الحرب، حاول الهرب إلى المكسيك، ولكن تمّ اعتقاله، وحكم عليه بالإعدام الذي خُفّف إلى السجن مدى الحياة. ومات، بعد أن أذاقه السرطان عذابًا شديدًا.
– شكرًا جزيلًا، سيدتي. لا أبحث عن بيت للإيجار. كوني أسكن في شقّة. أشكرك على صراحتك. هل من خدمة يمكنني أسداؤها لكِ؟
– لا. شكرا.
أدارت العجوز ظهرها لي، والخيبة تقود خطواتها المهزوزة المتعثّرة بظلها الشحيح المجعّد على الرصيف كخرقةٍ باليةٍ من قماشٍ رمادي، تحرّكهُ نفحات الهواء. لربما كانت تريد التحدّث مع شخص ما، يخفف عنها وطأة الوحدة وقساوتها، وتحجّجت بالاستفسار عن سبب وقوفي أمام الكنيس، وهل أنا أبحث عن بيت للإيجار؟ أم لا؟. أحسستُ بأنني ارتكبت خطًا فادحًا بإنهاء الحديث معها. كان عليَّ تركها تسترسل في الكلام. ولكن، لم يكن أمامي خيار آخر. فلا هي دعتني لدخول منزلها كي نكمل الحديث. ولا أنا أردتُ أن تقف أكثر على قدميها مُدةً أطول، كونها طاعنةٌ في السنّ.
فكرة ارتكابي خطأ انهاء الحديث مع العجوز، سيطرت عليّ في الطريق من الكنيس إلى شاطئ البحر. وأثناء السير في شوارع المدينة، أشعرتني أصوات النوارس كأنّني على متن مركبٍ منهكٍ وقديم في عرض البحر، يقتربُ من اليابسة، بعد رحلة توهان طويلة، وسط هيجان الأمواج والعواصف العاتية، بحثًا عن جزيرة مجهولة. صرت أعتقد أنه إذا خلا يومي من سماع أصوات النوارس، سيكون شديدَ الوطأة، الكآبة، الضجر والاحتقان عليّ. أصوات النوارس تذكّرني بأنني ما زالت حيًّا. بينما البحر، في كل مقابلة معه، يؤكّد لي بأنني الغريب العابر. لماذا لا يألفني البحر؟! لا أعرف كيفيّة إقناعه بأنني، مثلهُ، صرتُ أعشق هذه المدينة. وأنني شريكه في حبّه لها؟! كيف لي أن أقنعه بأنني لستُ خصمه، ولا يمكنني مجاراته في لفت انتباه المدينة إليّ. أواصل مساءلةَ نفسي: ما الذي اقترفتهُ بحقّ البحر من إثم، حتّى ألمسَ منه هذا الجفاء وعدم الاكتراث؟!. قلتُ له، بكثير من الثقة والأمل والعزم:
– يا بحر الشمال؛ بعد تورّطي في حبّك وحبّ المدينة، ما عدتُ غريبًا عابرًا، ألقتْ به الصدف، وجنونُ وفوضى الأقدار، إلى ملاقاتك هنا! “أوستند” تبادلني الحبَّ. وأنا واثقٌ من أنه سيأتي اليوم الذي تحبّني فيه، كجزءٍ أصيل من المدينة.
***
ثمّة مقهى وبار على الرصيف البحري، كثيرًا ما أرتادهُ، دون غيره. لا أعرف لماذا؟ ربما بسبب النادلة الحسناء التي تعمل فيه. فتاةٌ في مطلع العقد الثالث من عمرها. تتجاوزني طولًا، رخاميّة الجسد، عريضة الورك والكتفين، بخصرٍ نحيل. شعرها الذهبي المربوط إلى الخلف بشريط أزرق، بدا وكأنه ذنب فرسٍ أصيلة. جسمها بضٌّ، يكاد يشفّ عن العظام. في ملامح وجهها، لمسات سلافيّة وأخرى هولنديّة. عينان زرقاوان، لوزيتان واسعتان، برموش شقراء طويلة، وحاجبان طويلان مسحوبان كقوسين. أنفٌ صغيرٌ، مدبّب، مرفوع. وجنتان ورديتان مرفوعتان. فم صغير، بشفتين رقيقتين. وجهٌ مستدير، ممتلئ، صقيل، يميل بيضاه إلى الوردي. الناظر إلى نهديها الممتلئين، ينتابه الحسد والغيرة من حمالتيهما، ومن القميص الأبيض الشفاف الذي ترتديه. أمّا ابتسامتها؟! فيا سبحان ابتسامتها والسحر المنبعث منها! ويكفي المرء النظر إلى هذه الفتاة بضع دقائق، حتّى يعرف ويؤمن أن الله حقّ، وأنه خالق الكون والجمال، من دون أن يؤمن بالأنبياء والرسل ومصاحفهم.
كلما دخلت المقهى، أجد إلى جانب الطاولة الأولى، مقابل زجاج واجهته، رجلًا عجوزًا، في العقد السابع من عمره. ضخم الجثّة، سمين، بوجهٍ مترهّل، شديد التغضّن. عيناه الزرقاوان، شديدتا الاحمرار، وكأنّهما لم تذوقا طعم النوم منذ شهر. أنفه صغير ومعقوف. يعتمر قبعة فرنسيّة، تغطي جبهته. ثمّة معطف أسود على الكرسي المقابل له، وأمامه على الطاولة إمّا كأسان من النبيذ الأحمر أو من البيرة. هيئة طاولته توحي بأنّه ليس لوحده، وأن الكأس الأخرى الممتلئة على الطاولة، ليست له، والمعطف الموجود على الكرسي، هو لشخصٍ آخر. وأنّه ربما ينتظر شخصًا ما، خرج لقضاء حاجة وسيعود بعد قليل.
أحيانًا أسمع تمتمتهُ وغمغمتهُ كأنّه يتحدّث مع شخص آخر. أحيانًا أخرى، يفاجئني بقهقهته، وضربهُ بيدهِ اليمنى على الطاولة. نجحت في التقاط عبارة واحدة فقط من كل تمتماته لك: “كل مرّة، أقول فيها لنفسي، هذه هي آخر مرّة آتي فيها إلى هنا. ولكن…”.
بعد مضي نصف ساعة على الحال هذه، يخرج من المقهى، واقفًا أمام الواجهة، ليدخّن سيجارة. أراقبه بفضول واستغراب. تزداد حالة التمتمة لديه، وتزداد معها حيرتي ودهشتي. يحرّك يديه ورأسه أثناء الحديث مع نفسه. وما أن ينتهي من سيجارته حتى يعود ليشرب واقفاً الكأس الأخرى، التي ظننتها لشخصٍ آخر. ثمَّ يتناول المعطف الموجود على الكرسي، مُرتديًا إيّاه، ويهمّ بالخروج. على محيّاه ملامح اليأس والقنوط.
هذا المشهد، تكرّر أمامي عشرات المرّات، صيفًا وشتاءً، والمعطف الأسود لا يغادره. أجّج ذلك الفضول في داخلي. ذات يوم، وجدت الطاولة فارغة. سارعت بالجلوس إليها. أتت النادلة الحسناء، وقالت:
– معذرة سيدي. الطاولة محجوزة في هذه الأوقات، للسيد فريدريك أندرسون. والمقهى شبه فارغ، وكل الطاولات الأخرى متاحة لك.
– تقصدين الرجل العجوز؟
– نعم.
– معذرة على فضولي الشديد. هل لي بسؤال، من فضلك؟
– بكل سرور. تفضّل.
– ما قصّة هذا الرجل؟ أراه يرتدي نفس المعطف، صيفًا وشتاءً، ويطلب كأسين من البيرة أو النبيذ، ويتمتم ويتحدّث مع نفسه؟!
– تقريبًا، قصته صارت مرتبطة بقصّة هذا المقهى الموجود هنا، منذ أكثر من مئة عام. والد السيد أندرسون، استرالي، كان ضابطًا في البحريّة البريطانيّة اسمه والتر أندرسون. أسرهُ الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية. ادّعى أنه فقد الذاكرة. وقضى سنة في حصن “بريندونك” القريب من مِخلين، بين بروكسل وأنتويربن، الذي استخدمه الألمان كمعسكر للاعتقال، بعد احتلالهم لبلجيكا سنة 1940. ولكونه رياضيًّا قويَّ البنية، تحمّل والتر ظروف التعذيب والاعتقال في هذا المعسكر، السيئ الصيت. بالإضافة إلى أنه كان مطيعًا، يتحاشى خلق أي استفزاز لقائد المعسكر، الضابط الألماني فيليب شميت.
الضابط البريطاني تشالز أرنولد، الذي حرر سجن “بريندونك” نهاية 1944، تعرّف على أندرسون، من بين السجناء، بمحض الصدفة، ونقله فورا إلى المعالجة الطبيّة. وحوّل أرنولد الحصن إلى سجن للفلامان المتعاونين مع النازيين، والذين كانوا يحرسون الحصن، ويشرفون على عمليات التعذيب بحق أبناء المقاومة البلجيكيّة، واليساريين الفلامان والوالون البلجيكيين الرافضين الاحتلال الألماني.
بعد انتهاء الحرب، رفض والتر العودة إلى بريطانيا أو استراليا. كَرهَ الحرب والعسكر وبلاده التي دفعته للانخراط فيها. وحافظ على علاقته بالبحر، بقي في “أوستند”، وعمل صيّادًا. كان يرتاد هذا المقهى، وتعرّف فيه على امرأة فلامانية، أحبّها وتزوّجها وأنجب منها ثلاثة أطفال؛ جوزفين وكارين وفريدريك. ورِث فريدريك مهنة أبيه وزورقه، وارتياده للمقهى. كان مثليًّا، وقع في حبّ صديقه البلجيكي، صيّاد السمك، لوكاس فان مارتن.
فريديك وصديقه لوكاس، تعرّفا إلى بعض هنا، قبل ما يزيد عن أربعين سنة، وعاشا معًا حياةً سعيدة، في وقت كان المجتمع البلجيكي يرفض زواج المثليين. لأن تقنين هذا الزواج في بلجيكا لم يتمّ إلاّ سنة 2003. ومنذ ثلاثين سنة، وفريدريك على هذه الحال. يرتدي معطف صديقه في كل الفصول. ويرتاد المقهى لوحده. يضع المعطف على الكرسي الذي كان يجلس عليه لوكاس. ويطلب كأسًا من النبيذ أو البيرة لصديقه. ينتظر مجيئه. ولكنه، لا يأتي. فيشرب كأس صديقه ويغادر المكان. الكثير من النُدُل الذين تعاقبوا على العمل في هذا البار، يعرفون هذه القصّة. إلى جانب أن الكثير من زبائننا، يأتون لرؤية فريدريك، دون أن يزعجوه بفضولهم وأسئلتهم. صاحب المقهى، ينتابه قلق بخصوص انخفاض عدد الزبائن، إذا مات فريدريك. وبات يفكّر في إطلاق اسم أندرسون على المقهى، ووضع نصب تذكاري له، في نفس مكان الطاولة التي يجلس بجوارها، ليس فقط لتخليد ذكراه، بل لجذب المزيد من الزبائن أيضًا. ربما تبدو لك المسألة غريبة ومضحكة في أن تصبح مآسي وآلام الناس، في مرمى الاستهداف والاستثمار. أليس كذلك؟!
– وأين اختفى صديقه؟!
– هنالك قصص وروايات كثيرة حول هذا الاختفاء الغامض. منها؛ أن فريدريك ألقى به في البحر، أثناء رحلة صيد، بعد أن لمس منه الخيانة مع رجل آخر. وندم على هذه الجريمة، ويعاقب نفسه عليها. وآخرون يقولون: إن المسألة معكوسة، حيث انتحر لوكاس بالسمّ، بعد اكتشافه خيانة صديقه له مع رجل آخر. ومنهم من يقول: إن لوكاس، غادر بلجيكا، إلى جهة مجهولة، لسببٍ مجهول، تاركًا رسالة لصديقه يذكر فيها أنه سيعود سريعًا، ويلتقيان هنا، في نفس المكان الذي التقيا فيه أوّل مرّة. ولكنه لم يعد منذ ثلاثين سنة.
– هذه القصّة، مثيرة للاهتمام، وأثارت لدي فكرة كتابة عمل روائي خاص وكامل، يتناول عوالم المثليين، فيما يتعلّق بالعلاقة بينهم من الحبّ، الإخلاص، الغيرة، الغدر، الخيانة والانتقام، كونها لا تختلف عن عوالم البشر العاديين. ربما تسخرين منّي أو تستغربين من رأيي هذا. لكن أعتقد أنه يمكن لهذه العوالم، أن تكون مادة دسمة لأعمال روائيّة وسينمائيّة، بعيدًا من التعريفات والتقييمات التقليديّة.
ابتسمت النادلة، وقالت:
– هنالك كتّاب وروائيون هولنديون وبلجيك كثيرون، مثليون وغير مثليين، تناولوا هذه العوالم في رواياتهم، وهذا ليس سبقًا يا سيدي. ولكن، هل لي أن أتعرّف بحضرتك؟!
رغبتها في التعرّف إليّ، أنستني قصة فريدريك وحبيبه المفقود، وأدخلت إلى قلبي الغبطة والانتعاش، كون هذه الرائعة تودّ التعرّف إليّ. وهذا يعني أنني تركت لديها أثرًا إيجابيًّا، وحفّزت الفضول لديها. فأجبتها:
– هوشنك أوسي. كاتب وشاعر كردي سوري، مقيم في “أوستند”.
زادت من ابتسامتها، ففاض السحر والروعة والجمال منها، وأغرق المكان. وقالت:
– شانتال ديفوس. كاتبة وروائيّة. تشرّفت بالتعرّف إليك.
ما أن أنهت التعريف بنفسها، ثمّة قوّة خفيّة جعلتني أقف منحنيًا لهذا الجمال الإبداعي والربّاني العظيم، ومصافحتها مندهشًا ومصعوقًا، كمن عثر على كنز. ولعنتُ برنارد شو على مقولته المشهورة: “لا يجتمع في المرأة اثنان، الجمال والذكاء”.
– روائيّة، وتعملين نادلة؟!
– عملي في المقهى، ليس بقصد الحاجة الماديّة. بل بقصد التعرّف إلى البشر، والاستماع إلى قصصهم، فربما يلفت انتباهي بعضٌ منها، وتصبح مادّة لرواية أكتبها، مضيفةً إليها الكثير من الخيال والفانتازيا.
– اتخاذ البار والمقهى كمنجم للقصص والروايات، أمرٌ شديد الذكاء، ولا يخطر في البال. هل صدرت لك أيّة أعمال؟
ذهبت، وعادت بسرعة وفي يديها كتاب، أهدتني إيّاه، وقالت:
– ما زلت في البداية. هذه روايتي الثانية، عنونها “الممسوس” صدرت قبل عام. وروايتي الأولى كانت قبل ثلاث سنوات، بعنوان “ميركاتور” تناولت فيها قصصًا متخيّلة، جرت أحداثها على متن سفينة “ميركاتور” التي هي الآن متحف، يرتاده الزوّار والسوّاح في “أوستند”. وبيني يديّ الآن، رواية بعنوان “الدمشقي”، تتناول حياة لاجئ سوري مقيم في بروكسل، تعرّفت إليه بمحض الصدفة في مطعم شعبي، يملكه شخص سرياني سوري في حي “سان جوس”. إنها لفرصة سعيدة جمعتني بك أيضًا، وجعلتني أتعرّف إليك. يسرّني التواصل. هذا كرتي، فيه رقم الموبايل والايميل وحسابي على الفيسبوك والتوتير. معذرةً، يجب عليّ العودة إلى العمل. ولنبق على تواصل.
غادرتني الفتاة على عجل، وتركت عطرها يحلّ محلّها، كمن أدركَ أنه أهملَ شيئاً، يريد تلافيه. وتركتني أتأمّلُ قامتها، من بطتيّ ساقيها الرشيقتين، وصولاً لشلالِ شعرها المربوط كذنب فرس، مروراً بارتجاج مؤخّرتها وحركتها الدائريّة الفائقة الإتقان والجمال، إلى جانب إمساكي بكتابها، مشدوهاً، كمن على رأسه الطير. وتبادر لذهني سؤال: هل ستكون لغتها وخيالها الروائي بهذا السحر والفتنة التي هي عليه؟!.
الغريب أنه منذ ذلك اليوم، غاب فريدريك عن طاولته. فصار زبائن المقهى، من ضمنهم أنا، يفتقدونه وطقوسه التي اعتادوا عليها. بعد مضيّ شهر من ذلك، سألتُ شانتال عن سبب غيابه، فقالت:
– انتحرَ شنقاً. ولم يكتشف أحدٌ ذلك، إلاّ بعد أن فاحت رائحة جثّته، فاستدعوا البوليس الذي اكتشفه. وأثناء بحثهم، اكتشفوا أيضًا في قبو المنزل مدفنًا، عثروا فيه على عظام لوكاس. وبقي لُغز سبب موته حيًّا، ولم يُدفن مع جثّة فريدريك. خاصّةً أن الأطباء لم يتوصّلوا إلى نتيجة، بعد فحصهم العظام.
اللافت أكثر، أن فريدريك ترك مخطوطًا، لم يكشف البوليس عن تفاصيله بعد. وأعتقد أنه ربما تكون يوميّاته أو مذكّراته، التي يمكن الاستفادة منها، ليس في إماطة اللثام عن الكثير من خفايا حياة فريدريك ولوكاس، فحسب، وبل في كتابة رواية هامّة، تكون علامة فارقة في عالم الأدب الذي كُتِبَ عن البحر.
***
جرت العادة أن يكون هنالك معرض للتصوير الضوئي في الهواء الطلق، على الرصيف البحري، ينظّمه القسم الثقافي في بلديّة “أوستند”. ومساء أول من أمس، قبل ميلانِ الشمسِ نحو المغيب، كان الرصيف مكتظًّا بالمشاة من المصطافين والسيّاح. بينما قلائل مَن وجدتُهم يقفون أمام المعرض، يتأمّلون الصور الضوئيّة. هذه الصور، على درجة عالية من الجودة الفنيّة والحرفيّة، وتنمّ عن عين تمتلك ثقافة بصريّة ثرّة. عين قنّاصة، تعرف كيف تختار زاوية الكادر، بحيث تمنح الصورة الملتقطة، على بساطة مفرداتها، قدرًا كبيرًا من الصدمة والإدهاش للمُشاهِد، وتحفّز المساءلة الداخليّة لديه. أذكر ذلك، لأنني أعرف مدى شغفك بالفنّ التشكيلي والتصوير الضوئي. الصور الضوئيّة المعروضة، ركّزت على التعريف بحالات الفقر، البؤس، الجوع والحرمان التي يعيشها أطفال أفريقيا. ورغم ذلك، الابتسامة لم تفارق وجوههم. أعتقد أن الفنان، صاحب المعرض، أراد القول للأغنياء المصطافين: “أيها السادة والسيدات، أثناء تمتّعكم بجمال المدينة وبحرها وأجوائها، لا تنسوا أن هنالك جياعًا وبؤساء في هذا العالم. التفتوا إليهم أيضًا”. ولكن، ليس هنا بيت القصيد، بل في رؤيتي ملامحك، موزّعةً على وجوه كل الأطفال الموجودين في تلك الصور. صدمني الأمر وأذهلني. فركتُ عينيّ، وأمعنتُ النظر، مرارًا؛ نعم، هي ملامحك.
سردت الحادثة على زوجتي. هي أيضًا ابتسمت، ولم تصدّق ما أقوله. مساء أمس، أخذت معي كاميرا فوتوغرافيّة. وتفحّصتُ لوحات المعرض، واحدة تلو الأخرى. مجدّدًا رأيتُ ملامحك في كل الوجوه. التقطت الصور لها. عدت إلى البيت، وأريت الصور لزوجتي، قائلًا:
– دقّقي في الصور، أليست هذه ملامح صديقي؟!
نظرَتْ بتفحّص وتركيز، وأجابت، دون تردد:
– بلى. بالفعل، هي!
مساء اليوم، عاودتُ السير على الرصيف البحري، وكان المشهد تكرارًا ليوم أمس، والذي قبله؛ الرصيف مكتظّ بالمشاة، سيّاحًا ومصطافين. ورمال البحر، افترشها الآلاف. ضحكات الأطفال، أصوات الناس، النوارس التي تحلّق وتغنّي، المقاهي والمطاعم المليئة بالزبائن… وكذلك معرض التصوير الضوئي… كل شيء على حاله. ولكن، هذه المرّة، حين دقّقت وأمعنت النظر في صور المعرض، لم أجد ملامحك في وجوه الأطفال الأفارقة الموجودين فيها!!
أيضًا، تفاجأت واستغربت!؟ التفتُّ ببطء وخيبة نحو البحر، وقرأت في ملامحه، وكأنّه ينظر لي وحدي، دونًا عن هذه الحشود التي تغطّي الرصيف والرمال. قرأتُ في أمواجه، هذه المرّة، نظرات ودّ وألفة ومحبّة، أنستني سبب غياب ملامحك عن تلك الصور. الآن، بإمكاني القول لك: ثمّة مدنٌ نسكنها. وأخرى تسكننا. وقليلةٌ جدًّا هي المدن التي نسكنها وتسكننا في آن.
***
المتعة التي أعيشها في “أوستند”، ومجاورتي البحر، وحواراتي معه، أريدُ أن يشاطرني إيّاها كل أصدقائي. ورغم ذلك، ثمّة هاجس يومي، يقلقني ويؤرّقني كل مساء، بأنني سأفجع غدًا بخبر يصيبني في مقتل. كأنْ أستيقظَ على خبر اعتقالك وسوقك، مقيّد اليدين، معصوب العينين، إلى سجون نظام الأسد! أخشى أن يفاجئني أحدهم بخبر رحيلك الأبدي منذ عشر سنوات، تحت التعذيب، دون أن أكون على علم به! أو أن يصدمني بخبر غرقك في البحر بين أزمير والجزر اليونانيّة منذ خمس سنوات! أو أن أتفاجأ باسمك بين القتلى المدنيين الأبرياء، أثناء انفجار سيارة مفخّخة في أحد شوارع دمشق منذ ثلاث سنوات. أو أن يفجعني أحدهم بخبر فقدان أحد أفراد أسرتي.
أيًّا يكن من أمر، لا أريد أن تكون قد قرأتَ هذه الرسالة بعد سنتين من موتي. أو أن تكون أعدتَ قراءتها منذ ساعتين أيضًا، لأنّك تذكّرتني فجأةً. فقط، أحاول إيصال القليل من متعة العيش هنا إليك، علّي أخفّف عنك بعضًا من آلامك وآلامي.
كما قلت لك: لا تخش شيئًا، ولا تقلق. أنا واثق من أن هذه الأسطر، ستصلك ولو بعد حين.