كوليت بهنا: الهواء الذي طيّر الناس

0

في جوابها ضمن لقاء متلفز لمحطة غربية، عن دور الفن في العلاج من الصدمات النفسية التي تتسبب بها حروب أو كوارث بحجم كارثة تفجير مرفأ بيروت، أعربت فنانة تشكيلية لبنانية عن انعدام الأمل لديها وعجزها عن ممارسة الفن في الوقت الحالي، وأهمية توجيه هذه النفقات لأجل تأمين الأولويات المعيشية لآلاف الأسر المنكوبة.

في الوقت ذاته، لم تقصِ الفنانة الشابة دور الفن بالمطلق، وأبدت رؤية واقعية وعملية صحيحة، معتبرة أن دعم فريقها المدني للأطفال بالمواد الفنية اللازمة لدفعهم للرسم، أو أي شكل من أشكال التعبير الفني، يمثل مهمة إنقاذية قد تساهم في تخليصهم من بعض الخوف المستوطن في أعماقهم منذ لحظة التفجير.

رافقت الفنون جميع الأحداث القاسية والمفصلية من تاريخ الشعوب، وشكلت في معظمها وثائق فنية، وقيمة نبيلة مضافة لكيفية مواجهة تحديات الفناء بقوة الحياة، تراوحت أشكال التعبير عنها تبعا لثقافات المجتمعات التي تنتمي إليها، فنجد أن الشعر والغناء، قد غلبا في التعبير عن المحن والكوارث التي واجهتها بلدان العالم العربي، ولم تستثن نكبات لبنان المتتالية وآخرها تفجير المرفأ من هذا التوجه الفني، والذي ترجم بعدد من الأغاني خلال أقل من شهر.

مع الإقرار بالنوايا الحسنة لأصحاب هذا التوجه، ومحاولة كل منهم التعبير عن تضامنه الوجداني على طريقته، إلا أنه يظل توجها عاطفيا غير ذي منفعة إن لم يقترن بجدوى عملية حقيقية، مثل التخطيط لحفلات يشارك بها نجوم غناء وتخصيص ريع هذه الحفلات لمساعدة المنكوبين، أو التوجه مباشرة نحو الأطفال، في مدارسهم، بمهمة إنقاذية تشابه ما عبرت عنه الفنان التشكيلية أعلاه، ومشاركتهم بعض الأغاني المخصصة لهم حصريا، بصفتهم الفئة العمرية الأكثر هشاشة، وبالوقت ذاته الأكثر تقبلا لمحاولات زرع الثقة بمستقبل مغاير.

لأننا نحن المهزومون، أبناء وورثة عقود متتالية من الاستبداد والفساد، أشبعونا فيها آمالا زائفة، وأمضينا أعمارنا نردد الكذب في الكلمات، ندندن ونصفق لأغان تتحدث عن وعود واهية وانتصارات لم تحدث، تبتدئ من أوبريت وطني الأكبر “اللي بيكبر وييتحرر.. وانتصاراته مالية حياته”، وصولا إلى سخرية “ده حلمنا طول عمرنا.. حضن يضمنا كلنا كلنا”.

من هذا المنطلق، ولتجنب تكرار حكايتنا المخزية، يجب التوجه للأطفال عبر الفنون، عبر رؤى جديدة تحررهم وتحرر طاقاتهم، تعلمهم كيف يخططون لأيام تقيهم شر الخداع الذي منينا به، ولا تكتفي بإثارة عواطفهم وحماسهم للدبكة على كلمات “راجع راجع يتعمر راجع لبنان”، بل تقويهم بكافة السبل، كي لا يسمحوا لأحد في المستقبل القريب أن يخرب بلادهم مجددا، ثم يبتز مشاعرهم الفنية والعاطفية حول إعادة الإعمار بالأغاني، أو نهوض طائر الفينيق الذي كره أسطورته في لبنان، وملّ وربما “فلّ”.

لماذا يستحوذ تفجير مرفأ بيروت وتفاعلاته على كل هذا الاهتمام رغم وجود عدد كبير من الكوارث والمآسي التي تحيط بعالمنا العربي؟

لأننا لم نشهد أمرا مماثلا وصادما بحجمه، ولأننا نرى ظلّ جميع المجرمين المتورطين فيه ولا نستطيع أن نلتقطه، ولأنه انفجار حدث في حالة سلم، والناس كانت في قيلولتها وأُخذت غدرا، ولأنه يشبه التعبير الطبي غير المجازي المتداول عن بعض وفيات أمراض القلب الذي يقول: “انفجر قلبه”، وبشكل غير مجازي، انفجر قلب بيروت، التي تختزل رمزيات الحياة والحلم العربي الحقيقي.

الفنانة التشكيلية التي تحدثت عن دعم الأطفال للتعبير عبر الفن، ذكرت أن طفلة من المشاركين رسمت رسما غير مفهوم أو واضح المعالم، وحين سئلت عما رسمته، أجابت: “رسمت الهوا اللي طيّر الناس”، ولأجل هذه الطفلة، وكل أطفال لبنان والعالم، ولأجل السيدة المسنة البيروتية التي جلست وسط خراب بيتها عقب التفجير، تعزف على البيانو لحنا جنائزيا ينعي موت تاريخها، تحل المقاومة اليوم، بالفن الصحيح والكلمة الصحيحة، وخارطة الطريق الصحيحة، من أجل الخلاص ممن جلب هذا الهواء الذي طيّر الناس.

*الحرة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here