يتحدث فيلم “سالو أو مئة وعشرين يوماً في سدوم” للمخرج والشاعر الإيطالي الراحل بيير باولو بازوليني، عن مجموعة من الفاشيين الإيطاليين في فترة الحرب العالمية الثانية يقومون باختطاف عدد من الشباب والشابات ليمارسوا عليهم أبشع وأقسى النزوات الجنسية والسادية! وفي الجوهر مما يرويه الفيلم تلك الطبيعة القاسية التي تحكم الفكر الفاشي في تعامله مع الإنسان حيث يتم تحطيمه عبر تفتيت حواسه وغرائزه وإخراجها من الطبيعة الإنسانية إلى مسالك حيوانية وأدنى من ذلك أيضاً.

هذا الفيلم اعتبره النقاد آنذاك صرخة غير مسبوقة أطلقها المخرج ضد فعل تشييء الإنسان والذي تفرضه النزعة الاستهلاكية وكذلك التيارات الفاشية المستترة والتي كانت تتحكم بمجتمعه! وقد جاء الفيلم ضمن السياق الذي فرضته أعمال بازوليني منذ نهاية الستينيات وصولاً إلى منتصف السبعينيات أي إلى العام الذي شهد مقتل بازوليني في جريمة مازالت تفاصيلها مبهمة إلى الآن.
ولعل تذكر بازوليني في أيامنا هذه قد لا يعيدنا إلى مجرد القيام باستعراض حياته وتفاصيل أعماله فحسب بل إنه يضعنا أمام الخطاب الإبداعي الذي كان يؤشر ويعلن أن البشرية قادمة إلى مرحلةٍ قاسيةٍ سيتم فيها تدمير الحس الإنساني والإبقاء على الإنسان كصورةٍ للغرائز المتوحشة!
وقد تنامى هذا الخطاب لدى المبدعين الذين عايشوا انتقال البشر من صدمة الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة الحرب الباردة وصعود الولايات المتحدة كقوة عسكرية تنفذ حرباً مدمرة في فيتنام، إضافةً إلى كل ما حدث في الماضي من حروب وويلات جعلت المبدعين الأكثر حساسيةً يتلمسون الخطر المحدق بفكرة الإنسان.

لقد أضافت أعمال بازوليني الشعرية رونقاً خاصاً إلى أفلامه مما جعلها أعمالاً قابلةً للتداول في عصور مختلفة، بمعنى أن مواضيعها تبدو راهنة رغم انقضاء زمن طويل على إنتاجها، وقد جاء الشعر هنا ليكون مدخلاً لما تحتويه الأفلام، ومن شعره نقرأ هذا المقطع الذي ترجمه أدونيس قبل سنوات طويلة ويقول فيه:”في هذا المسار الجديد من تاريخ لا أعرفه / لأنني لا أعمل فيه / أبدو إنساناً تخلف وأهمل إلى الأبد / ولا أرى إلا شيئاً واحداً / هو أن مفهوم الإنسان سيموت قريباً / ذلك الإنسان الذي تجلى وعاش / في الصباحات الرائعة في الهند أو في إيطاليا / يعمل بكيانه كله، عمله المتواضع / برفقة ثور صغير أو حصان يحبه كثيراً / في حقل صغير ضائعٍ / في لا نهاية واد أو شاطئ / يزرع أو يجني تفاحه الأحمر/ في بستان يجاور بيته أو كوخه / مفهوم الإنسان: أبكي لهذه الصورة التي أراها تمحى من عالمنا / وإذ لا أعرف العبارات الشائعة في حلقة المختارين في هذا العالم لكي أودعها/ فإنني أتبنى أسلوب العالم القديم، أسلوب القرن العشرين المتجدد، وأتنبأ من جديد بعصرٍ مما قبل التاريخ”.

الربط بين الشعر والسينما في تجربة بازوليني يتفرد عن الكثير من التجارب التي جمعت بين هذين الفنين ولعل هذه الفرادة تتجلى في هذا الانسجام بين ما يقال في السينما وما يقال في الشعر وربما يكون مبعث هذا الانسجام أن الفنان هنا يميل إلى أن يكون صدامياً مع ما يحيط به من تحولات حياتية يشعر أنها تدمر الإنساني لصالح الاستهلاك ولصالح أن تحوز فئة قليلة من البشر على كامل مقدرات البشرية.
صحيح أن بازوليني الذي كان ماركسياً لم يجعل من خطابه هو ذلك الخطاب الطبقي الذي تنادي به الماركسية ذاتها، إلا أن ظلال الفكرة وتفاصيلها لم تغب عن أعماله وإن كان في حياته صدامياً أيضاً مع التحليلات الدوغمائية والميكانيكية للفكر الماركسي.
ولعل ما يبقى من كل ما يروى من تفاصيل عن حياته أنه بقي مخلصاً للجوهر من كل المعادلة ونقصد بالتأكيد الإنسان.
*مادة خاصة بالموقع