كان عليه أن يظل لطيفاً طوال الوقت، وقد فعل. منذ وجد عملاً في تلك المكتبة الصغيرة، على ركن ذاك الشارع الهادئ وهو يحاول جاهداً ألا يُخفق، يرتب الكتب في رفوفها العليا دون تذمر، يحمل كرتونات الإصدارات الجديدة عن زميلاته بطبيعية تذيب قلوبهن، يحضر مبكراً، ويغادر على مهله، يزيل الثلج الملتصق على واجهة المكتبة الزجاجية بأناة متعبد، يتحمل صقيع الطقس بقبول يثير الفضول والحسد، يحل مكان الغائب عند غيابه، ويتفهم الروح النزقة لزميلاته في أيامهن الصعبة فيأخذ مكانهن مع الزبائن المتطلبين، كمهاجر من إثنية مكللة بالحزن، محملة بإرث من الأسى، حصل أن اهتمت إحدى الجهات الثقافية غير الربحية، وترجمت واحدة من مجموعاته الشعرية إلى لغة البلاد التي أتاها، كانت تلك مناسبة ملائمة ليسكب روحه الشفيفة بين يدي رفاق العمل، ويؤكد مشروعية عمله في تلك المكتبة، فصورة الشاعر الموهوب المؤهل للحب والحكمة، تتسق تماماً مع صورته الآن متنقلا بين ردهات المكتبة الجليلة، متحركاً في صمت متأمل، أهدى الشاعر كل من في المكتبة نسخة، وتأكد من قراءتهم للمجموعة، فرح دون صخب، خاصة عندما تغامزوا فيما بينهم وهنؤوا أنفسهم على صحبته، وتهامسوا مراراً حول إبداعه الهائل وحساسيته التي تشبه برقتها “خفق جناح فراشة” وكان ذاك التشبيه واحداً من أبيات قصيدة له حفظها الجميع ووسموا بها أداءه المنتبه الرصين.
مرت أربعة أعوام منذ قدم من بلده البعيد، بعد أن تكالبت أنياب الحرب على حياته ونتفتها مزقاً. وصل مدمراً وبدأ من تحت ذلك الدمار ببناء حياة وتوسيع أفق، لم تكن اللغة عائقاً أمامه، فكان يتقن منها ثلاثاً إضافيات، العائق الحقيقي، وما كان مرهقاً بالنسبة له، اقناع الآخرين “الغرباء” بأنه كان يوماً أصغر مدير مكتبة لإحدى أعرق الجامعات في بلده، مبرمج محاضرات ملهم، مقرر لأنشطة معارض الكتاب، ناقد متمرس، شاعر موهوب. هذا ما حكاه وحكاه دون أن يستطع ولو لوهلة استثمار الماضي في جغرافيته الجديدة، جغرافيا العبث، تلك التي أوصلته حتى ثلوج القطب طالباً منها المأوى، هُزم الشاعر، هزمته البدايات المرتبكة، واستعجال الغر في تلّمس الأمكنة واقتناص الفرص، فكاد أن يقضي من القهر، إلى أن وباستسلام مقاتل، وبضغط من الفقر والجوع والاكتئاب وإلحاح من زوجته الحامل بتوأم، عض على كبريائه النازفة، وعمل لعامين كاملين في شركة اتصالات، كمندوب في قسم خدمة العملاء، يقضي نهاره يتكلم مع الغيب، مع أصوات بلا وجوه، يتعامل مع وحش خفي بآلاف الرؤوس، وحش نزق، معتوه وغير راضٍ، يجيب عن الأسئلة المتذمرة للعجائز وربات البيوت، والمتقاعدين الملولين، ومراهقين أفسدتهم الميوعة وخربّهم الدلال، هكذا لعشر ساعات من كل يوم، يترك الشاعر فراشه مسحوقاً، ويأتي ليأخذ مكانه على مكتب مغم، مسدود الأفق بجهازي كمبيوتر ويبدأ بمصارعة وحش اسمه الزبون بينما تمضي الأيام كأنها لا تفعل، فكان أن تقلص عالمه إلى أن تلاشى، تحول إلى شبح يقوم كل صباح ويقلد البشر في أفعالهم، لم يستطع التعرف إلى ذاته، كما لم يستطع تحمل الصراخ والشتائم، والاستهزاء العلني بلكنته، لكنة المهاجر المهشمة حتى نخاعها، حتى قرر كي ينقذ روحه المهدمة، متابعة عمله المقرف وإجراء دورة سكرتاريا لمدة عام ونصف، فكان أن حصل بعدها على عمل في تلك المكتبة الصغيرة، فهدأت روحه قليلاً واكتفى بحكاياته عن الماضي وببيئة آمنة تحمل مذاق الكتب ودفء الردهات الصامتة.
منذ شهرين وثلاثة وعشرين يوماً بدأت كليمانتين بالعمل في المكتبة. منذ يومها الأول، بعد تعارف مستعجل، حصلت على نسختها من كتاب الشاعر، ففي استراحة الغداء وقبل مغادرتها المكتبة إلى المقهى المجاور، ناولها نسخة موقعة وشرح لها باقتضاب من يكون، بلطف متحفظ وضعت الكتاب في حقيبتها، ابتسمت وهي ترتدي قبعتها الصوفية وتلف لفحتها السميكة حول شعرها المتناثر، خرجت من الباب كطلقة قبل أن يطيح بها الهواء الجليدي، انتظر عودتها بخفة طالب مدرسة، عندما دخلت من باب المكتبة، تفرس في وجهها عله يرى أثر كلماته على ملامحها، هل قرأته؟ هل لامست مفرداته روحها؟ هل وعت حساسيته وموهبته وقدرته على خلق العالم؟
مع كل يوم يمر دون أن تعلق كليمانتين على كتابه، كان إحساسه بالهزيمة يتضاعف، كبرياؤه منعه من سؤالها عن رأيها، وهي ظلت تعامله بتحفظها المدروس ورقتها الباردة دون أن تعطيه أية إشارة إن كانت قد قرأت كتابه أم لم تفعل، لم يكن يعنيه أن تقول رأيها بالكتاب، أراد أن تقول رأيها به هو، صحيح أنها بديعة كمنحوتة كاملة، لكنه لم يكن يشتهيها، أو يتمنى مضاجعتها، غير أن لامبالاتها قهرته، فهو أيضاً يملك حكاية، الجميع أخبره أنها حكاية ملهمة، فقد ضحكوا وبكوا وطبطبوا على قامته وباركوا شجاعته، كان سيرضى لو أفصحت عن كرهها له، لو أخبرته أنه جبان مثلاً، أو كاذب، أو مدع، لو احتقرته علناً، لو قرفت من لون جلده ورائحة طعامه، وزوجته الريفية، لكنها لم تفعل، فقد مرت به كأنه غير موجود، لامبالاتها غرست سكيناً في قلبه، كانت تلك اللامبالاة أكثر إيلاماً من شتائم الزبائن في شركة الاتصالات، وأكثر وجعاً من حكاية تهجيره وهروبه عبر الحدود، وجارحة أكثر من خسارته لوظيفته القديمة ومكانته وروحه الضاحكة، صمتها اللامبالي كان أكثر قسوة من المنفى، كان هو المنفى، هو يعلم تماماً أنه لا يريد حبها، لكنه لم يدرِ كيف باستطاعته اسماعها صوته، وإشعارها بوجوده.
ضاق الفضاء عليه في تلك المكتبة، صار حضور كليمانتين أكثر ثقلاً من ذاكرته المتخمة بحكايات الرعب. كان عليه تحريك فضولها بأي شكل من الأشكال، غاب ليومين متتالين عن العمل لأول مرة منذ أحد عشر شهراً قضاها هناك، اطمأن الجميع على صحته إلا هي، وضع رباطاً على ساعده وتعمد أن يبدو متعباً بينما يحمل كرتونة كتب ثقيلة، تبرع الجميع بحملها عنه إلا هي، إذ ظلت تراقب ما يجري بهدوء ملاك، أطلق لحيته وشعره، بدا مظهره غريباً وطالته تعليقات الجميع الهازئة إلا هي، طلب من مترجمة كتابه أن تأتي لزيارته في المكتبة، في وقت لا يبقى غيره وغير كليمانتين في المكتبة، وتعمد أن يذهب إلى المقهى، علم أن المترجمة أتت، عندما وجد النسخ على مكتبه مرتبة بأناقة وأناة، تطلع في وجه كليمانتين ولم يجد في نظراتها أثراً لما حدث، بدأ صبره بالنفاذ، وازداد نزقه، أراد افتعال شيئ ما ليريها من يكون، أراد الصراخ، وتحطيم صورته ورسمها من جديد على يديها لعلها تراه وتسمعه وتتذوقه إن خلقته مخيلتها من جديد، أحس أنها وجه الله الذي لا يريد أن يتطلع إليه هو العبد الخنوع، فأراد الثورة على الإله، فقد اقتنع أن حساسيته بدت ضعفاً، ومبادراته لمساعدة الزملاء بدت انبطاحاً ولزوجة، وتفانيه في القدوم باكراً بدا جبناً وانعدام مخيلة، فبدأ بافتعال الخلافات مع زملائه تحت سمعها وبصرها، صوته العالي دون مبرر صدم الجميع، نزقه وتبرمه من أبسط المهام ترك الأسئلة على كل الوجوه، تأخره غير المبرر أصبح معتاداً، لم يصدقوا ما الذي حصل له، عاملوه برفق مرتبك خوفا من انفجارته المتكررة، لكن حوادث جنونه لم تعد مضبوطة خاصة عندما طالت إحدى الزبائن، فاقترب منه صاحب المكتبة أخيراً وأخبره بأسفه الشديد للظروف الصعبة التي يمر بها، لكنه مضطر لإنهاء عقده معهم، بدت الصدمة والألم على وجه المطعون بألف سؤال، شعر كمن سيغمى عليه، ترنح خجلاً بينما تجاهل الجميع تكسر مشيته، وفقدان توازنه عندما لملم أشياءه القليلة قبل المغادرة، إلا كليمانتين، اقتربت منه بهدو وفي يدها كأس ماء قائلة بلطف شديد: أشعر بالحزن أنكَ خسرت عملك هنا، أفهم تماماً مدى ألمك، فأنا مثلكَ أيضاً، وصلت هذه البلاد بعد رحلة لجوء مريرة.
المصدر: صدى